عندما ترك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كل أزماته الشخصية والسياسية الداخلية والخارجية، ليطلق تصريحا معقدا يتباهى فيه بمغالطة مفادها أن الجنود الإسرائيليين كانوا على أبواب القاهرة ودمشق في نهاية حرب أكتوبر، فبالتأكيد الأمر يتطلب وقفة، لأن رسائل التصريح وتوقيته وتكراره على لسان الرئيس الإسرائيلي” رؤبين ريفيلين” والسوشيال ميديا الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية، تؤكد إنها ليست مجرد تصريحات دعائية عابرة!
الدعايا الإسرائيلية المعتمدة على استهداف روح وجيل أكتوبر، تركز خلال السنوات الأخيرة، على الترويج إلى أن إسرائيل هى التى انتصرت في حرب أكتوبر، أو اليوم كيبور، إنطلاقا من فكرة التحول الدراماتيكي في الحرب المعتمد على التدخل الأمريكي في الحرب عسكريا ومخابراتيا، الأمر الذى أدى لما يسمى بالثغرة، والتى نالت الكثير من الترويج الإسرائيلى والأمريكي والغربي غير الدقيق عنها .. ولأسباب عديدة مباشرة وغير مباشرة، تركنا لهم المجال بعدم الرد الاحترافي المكثف بشكل كافي، حتى إن هناك مصريون وعرب يصدقون هذه الروايات الصهيونية، ولذلك كان من الضرورى أن تكون هناك نقطة نظام حاسمة في هذا الإطار.
بعد جيل أكتوبر
فالأمر يعدو وكأننا ندخل مرحلة جديدة من الدعايا الإسرائيلية، التى تستهدف روح أكتوبر، بعد قرب اختفاء جيل أكتوبر، الذي كان يستهدفه بشكل مباشر وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان، من هزيمة 67 وحتى نصر 73، بقوله عدة مرات في عدة مواقف، إن كنتم تريدون مواجهة المصريين والعرب مرة أخرى، فعليكم أن تنتظروا انتهاء جيل أكتوبر!!! وعلينا أن نعترف إنهم يحققون هدفهم بشكل خطير، فالجدل يتزايد في الداخل المصري والداخل العربي وحول العالم، وهناك من يشكك الآن حتى في فكرة أن النصر المصري في أكتوبر73 يتم تدريسه في الكليات والمعاهد والأكاديميات العسكرية الدولية.. وزاد الأمر تعقيدا مع تناغم الدعايا الإخوانية مع الدعايا الإسرائيلية، حول أن المصريين لم ينتصروا في أكتوبر، بل وانتهى الأمر بإجبارهم على عقد السلام مع إسرائيل والاعتراف بها، وأن المصريين إنسحبوا من الأراضي التى حرروها في سيناء، والإسرائيليون لم ينسحبوا من الكيلومترات التى احتلوها غرب القناة، إلا في منتصف يناير74، ووصلوا حتى الإسماعيلية، أى حوالى مئة كيلومتر عن القاهرة، متجاهلين تماما الإنكسار الإسرائيلي التاريخى الذين يعانون منه حتى الآن على كل المستويات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، والانسحاب الإسرائيلى الكامل من كل شبر مصري، والذي كانت منه مشاهد النحيب والمواجهات التى كانت في مستوطنة “ياميت” بالقرب من رفح المصرية، ويجب أن يشاهد كل الشباب المصري هذه الڤيديوهات والصور، ليعرف مدى قوة نصرهم الذي كسر الإسرائيليين، بل وليشاهدوا أيضا مشاهد الفرحة العارمة للجنود الإسرائيليين لخروجهم أحياء وعلى أقدامهم من منطقة الثغرة، خاصة إنهم كانوا يدركون إنها عملية انتحارية خططت لها المخابرات الأمريكية ونفذها جنرالات إسرائيليون يعرفون سيناء بشكل أو آخر، ومنهم “أرائيل شارون”، وكل ذلك لتحقيق أى تغيير في القوة بالمعركة، حيث قدم وزير الخارجية الأمريكى الصهيونى الشهير هنرى كيسنچر الحماية له، بنفسه، حينما هدد الرئيس السادات مباشرة ومن خلال الروس بأن المساس بالجنود الإسرائيليين في الثغرة، يعتبر اعتداءا على الولايات المتحدة، لن تسكت حياله، وفي المقابل أجبر كيسنجر الإسرائيليين على تقليص عملياتهم في الثغرة.
نحارب الأمريكان من 10 أكتوبر
وقد أكد الرئيس السادات في عدة مواقف منها مذكراته إدراكه انه يحارب الأمريكان مباشرة منذ يوم العاشر من أكتوبر، رغم أن الدعاوى الإسرائيلية والغربية كانت تقول من 15 أكتوبر، لكن كان للجسر الجوى العسكرى الأمريكى غير التقليدى، قد إنطلق في العاشر من أكتوبر بالفعل، وغرفة العمليات المخابراتية الأمريكية عملت منذ بداية الحرب، وأمدت الإسرائيلييين بصور الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع لتحركات الجيشين المصري والسورى، وهى التى مهدت للثغرة خاصة بعد محاولة السادات تطوير الهجوم، خارج حائط الصواريخ، دعما للجيش السورى الذي كان يعانى في الجولان، ورغم بطولات معركة “المزرعة الصينية”، إلا إنها لم توقف عملية “فرسان القلب” الإسرائيلية الأمريكية، التى تمت من خلالها الثغرة، أو العبور الإسرائيلي للضفة الغربية لقناة السويس.
ورغم الرعاية الأمريكية التامة للعملية، منذ التخطيط وحتى التنفيذ والحماية الكاملة والدعم السياسي، لإنقاذ إسرائيل من هذا الوضع الكارثي الذي كان يعرضها للفناء، وفق توصيف كيسنجر، إلا إنه نشبت مواجهات في غرفة القيادة الإسرائيلية كادت توقف العملية، بين موشيه ديان وزير الدفاع وقت الحرب والمسئول عن الجبهة المصرية وقت الحرب “حاييم بارليف” للقلق من النتائج، لكن الأمريكان دفعوا للتنفيذ، بشكل أو آخر، وجلب بارليف شارون لتنفيذ العملية، وهم على ثقة إنهم لن يخرجوا منها أحياء، وبالفعل أصيب شارون، وتاجر طيلة حياته بهذه الإصابة!
نتنياهو وجولدا وبيجين
نتنياهو الذي قال : “رغم الموقف الضعيف في بداية الحرب، قلبنا الموازين رأسا على عقب وحققنا النصر في غضون ثلاثة أسابيع بعد الهجوم المفاجئ الذي شنه الأعداء، والذي كان من الأصعب في التاريخ العسكري، وقف مقاتلونا على أبواب القاهرة ودمشق”.. كان يعيد كلمات شبيهة رددتها “جولدا مائير” رئيس الحكومة الإسرائيلية وقت الحرب، فور العبور الإسرائيلي وقتها رغم عدم إكتماله، وكشف بذلك نتنياهو عن عدم استبعاد إسرائيل لسيناريو المواجهة العسكرية ضد مصر، لدرجة إنه كرر توصيف “الأعداء” في حديثه عن مصر وسوريا، وإن كان هذا مبررا بالنسبة لسوريا لعدم عقد سلام بين تل أبيب ودمشق حتى الآن، فكيف يكون هذا مبررا بالنسبة لمصر، خاصة أن القيادات والمحللين المصريين لا يتعاملون بهذا التوصيف “الأعداء”، عند الحديث عن إسرائيل!
ولا يمكن تغييب أن أغلب مراكز الدراسات الاستراتيجية الإسرائيلية، تجرى تصورات عن إحتمالات وسيناريوهات المواجهات العسكرية التى من الممكن أن تدخل فيها إسرائيل سنويا، وليست بعيدة عن الرصد مصر بالطبع، لكن هناك تراجع كبير جدا في هذه التوقعات خلال السنوات القليلة الماضية، وحتى خلال السنوات الأخيرة في نظام مبارك، فهل هناك تغيير ما في هذا الإطار، دفع نتنياهو ليشارك في هذا اللغو عن الانتصار الإسرائيلى في حرب أكتوبر؟!
التغيير
هناك تصورات تفيد ذلك، لكن من الممكن آلا يتعدى الأمر الرد بشكل غير تقليدى على التعاظم العسكرى المصري، بصورة أو أخرى، وبث روح معنوية جديدة حول نصر مزعوم، خاصة أن الأجيال الإسرائيلية الجديدة لم ترى نصرا عسكريا على العرب، رغم الغارات الإسرائيلية التى تدك المدن السورية والعراقية وحتى الإيرانية، من الحين للآخر، إلا إنهم عندما تسقط بالونات أو قذائف من غزة على المستوطنات القريبة منها، يهرعون لمصر لإنقاذهم بتهدئة ما!
المهم بالنسبة لنا، بعيدا عن أهداف نتنياهو ومن وراءه، من هذه التصريحات المستفزة، التى لم ترد عليها القاهرة، إلا بتصريحات من وزير الدولة للإعلام، الآن أن نكشف عن المعلومات والوثائق المسموح بها عن كواليس نصر أكتوبر، وبالذات الثغرة، خاصة إن أسرارها تؤكد مدى قوة التحدي الذي كنا نواجهه، فلقد كنا نواجه الولايات المتحدة بنفسها، لدرجة أن الأمر وصل إلى التهديد بالتدخل العسكرى المباشر غير التقليدى، وبالفعل تحركت حاملتا طائرات للمنطقة، لمجرد أن الروس تيقظوا من سباتهم، وهددوا بإرسال قوات سوفيتية للشرق الأوسط، وإتضح فيما بعد ذلك بسنوات، أن الروس كانوا يهددوا فقط، لكن الأمريكان لم يكونوا بعيدين عن التنفيذ الفعلى، لدرجة أن هناك وثيقة بريطانية رفع عنها الحظر منذ شهور، كشفت عن غضب بريطانى من إتخاذ هذا الإجراء الأمريكى دون إطلاع لندن، وأعتبروها تهور للتغطية على فضيحة “ووتر جيت” الأمريكية الشهيرة.
الزهو المصري بالثغرة !
لو قرأتم عن “الثغرة” من المصادر الغربية والإسرائيلية وقارنتوها بالمصادر المصرية، ستعرفون الحقيقة، وستشعرون بالزهو والفخر والتباهي، لأن مصر كانت قادرة على مواجهة الجيش الأمريكى طوال أسبوعين، وحققنا كل ما كنا نريده من الحرب، وأستعدنا كل شبر من أرضنا، ولو كنا مهزومين كما يروج الإسرائيليون وحلفاؤهم، لما كانوا تركوا لنا سيناء، ولما ردد مناجم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي وقت كامب ديڤيد، دعاوى من نوعية ان إسرائيل ليس لديها القوة البشرية للسيطرة على كل أراضي سيناء، حيث كان يرى إنهم يحتاجوا ثلاثة مليون إسرائيلى لإحكام السيطرة عليها، وعندما يتوفر لنا ذلك سنعود!
ومن الممكن أن تكون هناك مؤشرات خطيرة من تصريحات نتنياهو وريڤلين وغيرهما، لو ربطناها بكلمات بيجين هذه، والتى كان يريد بها أن يبرر للإسرائيليين إنسحابه من كل سيناء، فهل من وجهة نظر نتنياهو ورفاقه إنه توفرت الآن الظروف، التى كان يتمناها بيجين، أتصور أن هذا السيناريو سيظل مطروحا بشكل ما، وسنظل متيقظون له بشكل كبير، بعد