تضرب القوات النظامية في الجيش الإسرائيلى أزمة كبيرة، فبعد أكثر من عامين على عدوانه على غزة، طفت على السطح أزمة كامنة داخل الجيش الإسرائيلى، على الرغم من أن بوادرها كانت تلوح بالأفق منذ أكثر من 10 سنوات، ففى مؤتمر الأعمال الإسرائيلى الذي عقد فى عام 2013م، والذى نظمته جريدة “جلوبس الإسرائيلية” تحدث قادة كبار الظباط فى الجيش الإسرائيلى عن أزمة ” نقص الجنود”، وتحديدا الجنود النظاميين “أصحاب الخبرة”، حيث عرضت رئيسة شعبة القوى العاملة اللواء/ أورونا بربيباى قائمة بالتحديات التى سيواجهها الجيش الإسرائيلى فى السنوات القادمة، ووفقًا لتوقعاتها فإن معدل التجنيد فى 2020م سينخفض إلى 64%، بالمقارنة بعام 2010م، حيث كان معدل التجنيد انذاك 67%[1]، ولكن تلك التوقعات اختلفت كثيرا بعد العدوان على غزة 2023م، حيث زادت الحاجة للجنود بشكل أكبر، ما دفع إسرائيل للمضى فى قانون تجنيد الحريديم لحل هذه الأزمة، فى ظل توسع الحرب فى عدة جبهات، الأمر الذى خلق أزمة جديدة داخل إسرائيل، فالحريديم يرفضون التجنيد، ما دفع النظام السياسى الحالى للخضوع أمامهم، خاصة أن الحكومة الحالية مكونة بشكل كبير من أحزاب دينية صهيونية متطرفة، وبالتالى يناقش الآن قانون يعفى الحريديم من التجنيد، وسط تجاهل تام لتقارير المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التى تعانى من نقص شديد فى القوى العاملة.
فى سياق متصل، قام معهد دراسات الأمن القومى الإسرائيلى بعمل استطلاع رأى (يوليو 2025م) كشف فيه عن تعقد الوضع، فوفقا للاستطلاع يرى 71% من الجمهور اليهودى أن القانون الذى يعفى الحريديم من التجنيد سيؤثر بشكل سلبي على دافعهم للالتحاق بالخدمة القتالية، كما يرى62 % أن استمرار السياسة الحالية تجاه تجنيد الحريديم قد يضر بأمن الدولة.
فى نوفمبر 2025م، قام ممثلو شعبة القوى العاملة في الجيش بتقديم بيانات غير مسبوقة إلى اللجنة الفرعية لشؤون القوى العاملة التابعة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، تفيد أنه يوجد حوالي 600 طلب استقالة لجنود نظاميين، منهم ضباط صف وكبار ضباط، كما قال ممثلو الشعبة أن “منهم من قمنا بتأجيل تركهم للخدمة طوال فترة الحرب بسبب الحاجة لهم لعدم توافر بديل لهم”. وأضافوا أن “85% من الضباط النظاميين في الجيش الإسرائيلي يتركون الخدمة بالفعل قبل الوصول إلى رتبة مقدم”. ، كما عرضت الشعبة استطلاعا للرأى أجرى بين أفراد الجيش النظاميين، كانت نتيجته على النحو التالى:
1- 60% من الضباط النظامين ( برتبة رائد) أعربوا عن عدم رغبتهم فى الاستمرار بالخدمة.
2- 62% من ظباط الصف النظاميين بعمر21-30 أعربوا عن عدم رغبتهم فى الاستمرار بالخدمة.[2]
زادت هذه البيانات من قلق المؤسسة العسكرية فى إسرائيل؛ لأنها تمثل ارتفاعا ضخمًا خلال السنوات الأخيرة، حيث كانت الأعداد وفقا لبيانات شعبة القوى العاملة كالتالى:
لقد غادر الجيش الإسرائيلي في عام 2017 عدد 281 ضابطًا برتبة رائد، وفي عام 2018 ارتفع العدد إلى 306، ثم ارتفع مرة أخرى ليصل إلى 354، وفي عام 2021 سُجِّل ارتفاع حاد في عدد الذين تركوا الخدمة العسكرية ليصل إلى 457 ضابطًا برتبة رائد. وخلال الشهرين الأولين من عام 2022م طلب 77 ضابطًا بالفعل إنهاء خدمتهم[3]، وبالتالى فإن الأزمة ليست وليدة اللحظة، إنما هى نتيجة عدة سياسات انتهجتها الحكومات الإسرائيلية.
أسباب الأزمة:
كان متوقعا أن تندلع هذه الأزمة بعد أكثر من عامين من الحرب، فاسرائيل تعتمد بشكل أكبر على قوات الاحتياط فى حروبها التى لم تكن تزيد عن عدة أشهر، وبالتالى فإن زيادة أمد الحرب بهذا الشكل جعل القوات النظامية تعيش حالة ضغط مستمر، ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد، فهناك مجموعة من العوامل ساهمت فى زيادة هذه الأزمة ومنها:
1- اللوائح والقوانين: فى عام 2015م قدم رئيس الأركان انذاك “جادى إيزنكوت” خطة سُميت “خطة جدعون”، وهى خطة متعددة السنوات، هدفت فى الأساس لخفض ميزانية وزارة الدفاع، وإعادة ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلى. تضمنت الخطة تقليص عدد أفراد القوى العاملة (2500 من القوات النظامية، و100 ألف من قوات الاحتياط)، وخفض متوسط عمر قادة الكتائب إلى 32 عامًا، ومتوسط عمر قادة الألوية ما بين 40 و42 عامًا (بلغ متوسط عمر قادة الكتائب في السابق ما بين 35 و37 عامًا، ومتوسط عمر قادة الألوية النظامية حوالي 45 عامًا) [4].
2- الفجوة بين القيادة العليا والقوات النظامية والشعور بالتهميش: فى تقرير استثنائي أعده اللواء احتياط يتسحاق بريك (مفوض شكاوى الجنود سابقا)، تطرق إلى شكاوى عديدة من قادة الكتائب والألوية فى الجيش الإسرائيلى[5]، الذين أكدوا على وجود فجوة بين القيادة العليا وبينهم، فعبروا عن استيائهم من كثرة المشاكل اليومية التى لا يجدون لها حلا، فى ظل غياب التواصل مع القيادة العليا، فهم يشعرون أن القيادة العليا منفصلة بشكل كبير عن الميدان، كما تطرقوا إلى شعورهم بالتهميش، فهم غير قادرون على تقديم النقد لما يحدث على أرض الواقع مكتفين بالصمت خشية التوبيخ. وأكثر الأسلحة شعورا بالدونية، حسب قولهم، القوات البرية، حيث أشار أحد قادة الألوية النظامية إلى أن رأى قائد القوات البرية لا قيمة له لدى القيادة العليا.
3- فقدان الثقة بالنظام العسكرى: لا يرغب حاليا الضباط (النظاميون) ذوو الكفاءات فى الاستمرار فى عملهم، بسبب الجمود وعدم مواكبة التطور فى أساليب العمل المختلفة، وتزوير الحقائق أحيانا حتى يظهر بعض القادة بالصورة المثالية، غير مكترثين بالواقع؛ ما يدفع الظباط للهروب من هذه البيئة الجافة، للالتحاق بوظائف أقل جهدا، وأكثر تقديرا وانفتاحًا، مع شعورهم أنهم يخدمون بلادهم بطريقة أخرى.
4- الضغوط النفسية والاجتماعية والمادية للقوات النظامية: تتحمل القوات النظامية أعباء هائلة بالمقارنة بقوات الاحتياط، ومع ذلك فإنهم غير مقدّرين بالشكل الكافى. فعلى سبيل المثال يخدم الجندي النظامي في الوحدة نفسها ليلًا ونهارًا، ويتقاضى راتبه المعتاد، وهو ليس مرتفعًا جدًا (على عكس الانطباع الذي تحاول وزارة المالية إخفاءه منذ سنوات). في المقابل، يوجد جندي احتياطي، يتقاضى في بعض الأشهر حوالي 50,000 شيكل صافي شهريًا (مع الأخذ في الاعتبار المنح والمكافآت، وأحيانًا استمراره في العمل في مكان عمله المدني). وليس هذا فحسب يتلقى الجندي الاحتياطي، على عكس الجندي النظامي، مساعدات وبدلات لرعاية الأطفال، وإعانة منزلية لزوجته. كما يحصل الجندي الاحتياطي على فترات راحة من القتال، بينما يواصل الجندي النظامي العمل بالوتيرة نفسها، والتي من المتوقع ألا تنخفض في المستقبل القريب مع التقاعد الواسع لجنود الاحتياط[6].
تداعيات الأزمة
أخذت هذه الأزمة عددا من التداعيات والنتائج التي انعكست بشكل كبير على المؤسسة العسكرية وأدائها، ومنها:
1- إن نقص القوى العاملة يؤدى إلى تراجع جاهزية الجيش، واستعداده للقتال، وفى ظل وجود عدة جبهات فى وضع الاستعداد للقتال ( لبنان وغزة وسوريا واليمن) فإن الحكومة الحالية تعيد التفكير فى فتح تلك الجبهات معا، وإنما من المرجح أنها ستلجأ إلى القيام بعمليات خاطفة دون الانخراط فى حرب موسعة، عن طريق هجمات جوية تستهدف أماكن محددة. الزيادة المستمرة فى عدد الضباط الراغبين فى الاستقالة بوقت الحرب، يعكس مدى الاستنزاف الهائل للقوات النظامية، التى تمثل أساس الجيش الإسرائيلى، ويعكس سوء الأوضاع داخل المؤسسة العسكرية، مما يجعل الكفاءات العسكرية تطالب بالاستقالة مبكرا، بالإضافة لذلك فإن نقص الكوادر (الضباط النظاميين) يرسل إشارات عدة للدول التى تحاربها إسرائيل بوجود ثغرة فى القيادات التى تتابع العمليات فى الميدان، مما يجعل إسرائيل فى موضع أضعف يمكن للتنظيمات المختلفة شن هجوم عليها لاعادة توازن القوى فى الحرب القائمة، ولكنه يظل خيار مستبعدا نظرا لإمكانية تدخل الولايات المتحدة الأمريكية فى الدفاع عن إسرائيل.
2- يؤجج مناقشة قانون إعفاء الحريديم من التجنيد، وسط تقارير تشير إلى وجود أزمة فى القوى العاملة بالجيش، الوضع بشكل أكبر بين المستوى السياسي والمؤسسة العسكرية، فالتمييز لصالح الحريديم ضد العلمانيين واضح، ولكن أزمة القوى العاملة فى الجيش أبرزت هذا التمييز بشكل أكبر، ما أثر على معنويات القوات الإسرائيلية فى الجيش، ودفعهم للعزوف عن الاستمرار فى الخدمة.
3- من المتوقع أن تتأثر كفاءة الجيش الإسرائيلى على المدى البعيد اذ استمرت تلك السياسات التى تمارس على الكوادر فى الجيش، ليصبح الجيش خاليا من الكفاءات، ما يعرض مفهوم “الردع الإسرائيلى” للتلاشى، فالأمر ليس مجرد أزمة فقط فى نقص القوى العاملة، بل فى الكوادر أيضًا، ولعل أبرز مثال يوضح ذلك هو تدخل وزير الدفاع “كاتس” فى تعيينات الجيش، فبعض المسؤوليين العسكريين يحذرون من أن تلك السياسات تدفع الكفاءات للمغادرة بشكل أكبر، حيث أن التعيين يتم وفقًا للانتماء السياسي وليس المهنية[7].
ختامًا:
لايمكن تجاهل هذه الأزمة فى الجيش الإسرائيلى، خاصة فى ظل خوض إسرائيل حروب عدة، ما يجعل الأمر أشبه بتحدى للحكومة الحالية، التى تركز بشكل أكبر على مصالحها السياسية فقط، متجاهلة الأوضاع الاجتماعية، والشكاوى والخلافات العسكرية، والتى اتضحت الآن فى هيئة نقص الكوادر بما يؤثر على إدارة الميدان فى الجبهات المختلفة، وسابقا فى نقص قوات الاحتياط، مما يؤكد على وجود أزمة حقيقية فى هيكلية الجيش وإدارته، تجلى هذا بشكل أوضح فى فشل الجيش فى منع عملية طوفان الأقصي فى السابع من أكتوبر، وعودة الأسرى الذين عادوا بعد صفقات وليس عن طريق القتال.
[1] יובל אזולאי، קצינים בכירים בצה”ל: צריך יותר חיילים، גלובס، تاريخ الدخول: 4/12/2025، وقت الدخول: 12:13pm ، متاح على الرابط: קצינים בכירים בצה”ל: צריך יותר חיילים – גלובס
[2] יואב זיתון، הנתון החריג שנחשף בכנסת: כ-600 אנשי קבע ביקשו להקדים את פרישתם מצה”ל، YNET، تاريخ الدخول: 5/12/2025، وقت الدخول: 04:22م، متاح على: הנתון החריג שנחשף בכנסת: כ-600 אנשי קבע ביקשו להקדים את פרישתם מצה”ל
[3] מחריף משבר כוח האדם בצה”ל ، ערוץ 7، تاريخ الدخول: 5/12/2025، وقت الدخول: 05:12م، متاح على: מחריף משבר כוח האדם בצה”ל | ערוץ 7
[4] עמרי מילמן، צה”ל מציג את ‘תוכנית גדעון’: צמצום של 2,500 אנשי קבע ו-100 אלף מילואימניקים، calalist ، تاريخ الدخول: 6/12/2025م، وقت الدخول: 01:52م، متاح على : https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3664856,00.html#:~:text=%D7%94%D7%A8%D7%9E%D7%98%D7%9B%22%D7%9C%20%D7%92%D7%93%D7%99%20%D7%90%D7%99%D7%96%D7%A0%D7%A7%D7%95%D7%98%20%D7%94%D7%A6%D7%99%D7%92%20%D7%90%D7%AA%20%D7%94%D7%AA%D7%95%D7%9B%D7%A0%D7%99%D7%AA%20%D7%94%D7%A8%D7%91,%D7%95%D7%A2%D7%93%D7%AA%20%D7%9C%D7%95%D7%A7%D7%A8%20%D7%A9%D7%94%D7%95%D7%92%D7%A9%D7%95%20%D7%91%D7%A9%D7%91%D7%95%D7%A2%20%D7%A9%D7%A2%D7%91%D7%A8%20%D7%9C%D7%A8%D7%90%D7%A9%20%D7%94%D7%9E%D7%9E%D7%A9%D7%9C%D7%94.
[5] עמוס הראל ، נציב קבילות החיילים: משבר כוח האדם בצה”ל מדרדר את יכולותיו ופוגע במוכנותו למלחמה، هآرتس، تاريخ الدخول: 6/12/2025م، وقت الدخول: 03:21م، متاح على: المصدر: הארץ https://share.google/aiL5Xn8LZTtvbMUzI
[6] לילך שובל، בעיצומה של המלחמה: מאות קצינים עוזבים את הצבא، يسرائيل هيوم، تاريخ الدخول: 7/12/2025م، وقت الدخول: 06:00م، متاح على: https://www.israelhayom.co.il/news/defense/article/16993455
[7] יניב קובוביץ، בכירים במערכת הביטחון: התערבות כץ במינויים בצבא תגרום לגל פרישות של קצינים، هآرتس، تاريخ الدخول: 7/12/2025م، وقت الدخول: 06:03م، متاح على: בכירים במערכת הביטחון: התערבות כץ במינויים בצבא תגרום לגל פרישות של קצינים – מדיני ביטחוני – הארץ

