في ظل الحديث الدولي والإقليمي المتجدد عن فكرة حل الدولتين؛ طرحت قضية مهمة للغاية تتعلق بطبيعة الدولة الفلسطينية التي يُراد لها أن تُقام جنبا إلى جنب مع الدولة الإسرائيلية. فلا شك أن الفلسطينيين يطمحون إلى إقامة دولتهم الخاصة ذات السيادة والاستقلال، التي ظلت لعقود حلما يراودهم، مثل باقي شعوب المنطقة، ولكن يأتي الرفض الإسرائيلي بقوة، ممثلا في اليمين المتطرف.
وبينما تعيش المنطقة بأسرها الآن متغيرات جيوسياسية إقليمية ودولية، ويزداد الحديث المحلي والإقليمي والعالمي عن الوضع اللاإنساني في قطاع غزة والعدوان الإسرائيلي على باقي المناطق الفلسطينية، يعاد طرح فكرة حل الدولتين من جديد، وكأن القضية الفلسطينية يمكن حلها من خلال إعلان شكلي دون معالجة لوجود الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية، وهنا لابد أن نشير إلى مصطلح تتحدث عنه بعض النُخب الإسرائيلية وهو “إدارة الصراع” لا “حل الصراع”، وهذا يعني أن الأفعال الإسرائيلية تجاه الأرض تمثل فعلياً سيطرة كاملة عليها.
الجدير بالذكر أن خطة “دولتين لشعبين”، لا يمكن بموجبها إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة من المنظور السياسي والعسكري والاستراتيجي، ولكن تحاول إسرائيل إفراغ هذه الخطة من مضونها، وتعمل جاهدة على بقاء دولة واحدة فقط، وهو ما أعلنه بعض الساسة الإسرائيليين، مؤكدين على أنه من مصلحة إسرائيل أن تحصل السلطة الفلسطينية على بعض صلاحيات الحكم الذاتي، وهذا أفضل من قيام دولة فلسطينية.
ولكن إسرائيل – إن وافقت على قيام دولة فلسطينية – سوف تكبح جماحها عبر الخطوات التالية:
1- رفض إقامة جيش فلسطيني: لن يُسمح بإنشاء جيش فلسطيني؛ وستكون لقوات الأمن الفلسطينية السلطة فقط فيما يتعلق بالأمن الداخلي، والشرطة المدنية، والحفاظ على النظام العام.
2- سيطرة إسرائيل على الأرض: ستتدخل إسرائيل في جميع المناطق الفلسطينية بحجة إحباط عمليات المقاومة (التي تسميها إرهابا)، ومنع المنظمات “المعادية” لها من القيام بأي أنشطة ضدها.
3- السيطرة الإسرائيلية على الحدود الفلسطينية: تسعى إسرائيل دائما إلى السيطرة على الحدود التي سيتم الاتفاق عليها للدولة الفلسطينية، خاصة الحدود مع الأردن ومصر؛ ووضع نقاط تفتيش ومعابر أمنية إسرائيلية عليها، بما يضمن السيطرة عليها بريا وجويا وبحريا.
4- السيطرة الإسرائيلية على المجال الجوي الفلسطيني: تسعى إسرائيل للسيطرة على المجال الجوي الفلسطيني، بدعوى منع تسلل طائرات بدون طيار معادية، وقد تسمح إسرائيل للسلطة الفلسطينية بإنشاء مطار ولكن تحت الإشراف الإسرائيلي الكامل، مع وضع نقاط تفتيش إسرائيلية باعتباره معبرًا حدوديًّا جوياً.
5- السيطرة الإسرائيلية على المجال البحري: لن يُسمح للفلسطينيين بالحفاظ على قوة بحرية، أو سواحل مستقلة؛ ولكن سيتم إجراء جميع الأنشطة البحرية تحت إشراف البحرية الإسرائيلية، بما في ذلك حركة البضائع والأشخاص الواردة عن طريق البحر، مع تحديد مناطق صيد بعينها.
6- السيطرة الإسرائيلية على المجال الكهرومغناطيسي، بما في ذلك شبكات الهاتف الخلوي والإنترنت في أراضي الدولة الفلسطينية، وهنا تُخصص إسرائيل ترددات معينة – تخضعها للمراقبة – للاستخدام الفلسطيني.
7- التحالفات العسكرية والاتفاقيات الدولية: لن تسمح إسرائيل للدولة الفلسطينية بتوقيع اتفاقيات أمنية أو عسكرية مع دول أخرى دون موافقتها.
8- النظام القضائي: ستسيطر عليه إسرائيل بدعوى مقاضاة الفلسطينيين الذين يقومون بأي أنشطة مقاومة ضد إسرائيل.
9- التبعية الاقتصادية: يتوقع خبراء أن تطال الضغوط والمطالب والتدخلات الإسرائيلية لتشمل التدخل المباشر بل والتبعية للاقتصاد الفلسطيني.
من هنا، وفي ضوء ما سبق – تصبح إقامة الدولة الفلسطينية أمرًا شكليًّا، لايقبله الكثيرون، انطلاقا من أن القضية الفلسطينية قضية وجود لا حدود، ولو تنازل الفلسطينيون بضغوط دولية فإنها لن تكون دولة بالمعنى القانوني أو السياسي، بل ستكون كيانا إداريا أقرب إلى الحكم الذاتي تحت سلطة الاحتلال.
من هنا يتوقع بعض الخبراء رفض فصائل فلسطينية لهذه الدوله بهذا الشكل، بما يعني استمرار المقاومة الفلسطينية، خاصة أن الفلسطينيين الذين ناضلوا لعقود من أجل قضيتهم الفلسطينية العادلة سيشعرون بأن تضحياتهم ذهبت سُدى، كما تظهر انقسامات جديدة بين من يقبل بهذا الحل كـ”أمر واقع” ومن يرفضه، مما يزيد من الانقسام السياسي والمجتمعي الداخلي. كما ستزداد حدة العنف بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود.
ويخشى البعض من أن دولة فلسطين لن تنضم إلى الأمم المتحدة؛ لأن أي كيان لا يتمتع بالسيادة الكاملة لا يمكن قبوله كدولة عضو في الأمم المتحدة. اضف إلى ذلك القانون الدولي قد لا يعترف بتغير الوضع طالما أن إسرائيل تحتفظ بالسيادة الفعلية.
ختامًا:
في ظل المعطيات الحالية والتدخلات الإقليمية والدولية، يبقى مستقبل الدولة الفلسطينية معلقًا بين الحلم والأمل من ناحية، والواقع والتحديات من ناحية أخرى، فرغم اعتراف عدد كبير من الدول بفلسطين، ورغم الدعم الشعبي الدولي للحق الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة، إلا أن العقبات والقيود التي يضعها الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، يجعل هذا الحُلم بعيد المنال.