تتزايد وتيرة الاستيطان بشكل مُلفت بعد عام 1967، لدوافع دينية وأيديولوجية هدفها توطين عدد أكبر من اليهود على أرض فلسطين، لفرض واقع ديمجرافي على الأرض.
ينظر إلى الاستيطان في النقب تحديدًا، على أنه جزء كبير من المشروع الاستيطاني على أرض فلسطين؛ لفرض واقع جديد يحد من المساحة التي يعيش فيها بدو النقب، بعد طردهم من ديارهم وخيامهم، والاستيلاء على أراضيهم، وحصرهم في أصغر مساحة جغرافية، بدعوى أنها مناطق غير مخططة وغير مُصرح بها. والنقب تحديدًا تُعتبر تجديد لرؤية بن جوريون التي كانت تنادي بضرورة ازدهار البرية.
وتقع صحراء النقب جنوب فلسطين، سكانها من البدو الذين ظلوا في هذه المنطقة بعد حرب 1948م ، ومن وقتها وتحاول الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة جاهدة إقامة مستوطنات هناك. وللنقب أهمية لا تقتصر على مستوى الاستيطان الزراعي فقط؛ بل أيضاً على المستوى السياسي والاقتصادي والاستراتيجي، فبالقرب منها يقع خليج إيلات، غير أنها تُعتبر حدود سياسية لإسرائيل. وتبلغ مساحتها 14 ألف كيلو متر مربع، أهم مدنها بئر السبع، ورهط ، وعرعرة، واخشم، والأعسم، وبير هداج، وادي النعم وترابين، ولابد من الإشارة أن القبائل التي تقطنها ترتبط اجتماعيًّا بقبائل سيناء، وشبه الجزيرة العربية، والأردن.
وبالفعل صدقت الحكومة الإسرائيلية الحالية برئاسة نفتالي بينيت مؤخرًا على إقامة خمس مستوطنات في النقب ، منهم أربع لليهود، والمستوطنة الخامسة مخصصة للبدو الفلسطينيين. فضلًا عن المحاولات المرامية لزيادة عدد المستوطنات ليصل إلى عشرة مستوطنات.وتعمل هذه الرؤية الاستيطانية الإسرائيلية على انشاء مستوطنات جديدة، سيتم فيها نقل السكان من وسط البلاد إلى الجنوب ، ومنه سيتعزز اقتصاد النقب.
وأوضح عضو الكنيست أوفير سوفير أحد مُتبعي الصهيونية الدينية أنه “لا ينبغي أن يكون هناك اهمال في البلدات العربية ويجب أن نعيش هناك بكرامة ، كما أنه يجب أن نحقق الرؤية الصهيونية “([1])
الاستيطان في النقب
في إطار جهود الاستيطان في النقب صرحت وزيرة الداخلية أييليت شاكيد: ” مع محاولاتي الدائمة لبناء أكبر عدد ممكن من المستوطنات، تمكنت من الحصول على موافقة نهائية من الحكومة على البدء في البناء وتحديًدا لمستوطنتين مهمتين وهما مستوطنة كاسيف، ومستوطنة نيتسانا ، وقد علقت أن هذه الخطوات مهمة لتدوير عجلة التنمية في النقب”.([2]) ويمكن الوقوف على طبيعة هاتين المستوطنتين على النحو التالي:
أولًا: مستوطنة (كاسيف):
وافقت الحكومة علي إقامة مستوطنة لليهود الحريديم (المتشددين) بقرار 877 ، بالقرب من واد عراد، وفيها سيتم بناء حوالي 20 ألف وحدة سكنية؛ لاستيعاب الحريديم الذين يتزايد عددهم بشكل مضطرد، كما أنه سيتم انشاء مركز طبي، ومنطقة للعلوم والتكنولوجيا الفائقة والتكنولوجيا الحيوية ([3]) .
وكان قد سبق الحديث عن إنشاء هذه المستوطنة عام 2007م، ولكن اعترض بعض زعماء الحريديم على هذا النقلة السكنية على مدار أكثر من 15 عامًا ؛ لبعدها عن أماكن العمل، كما أن بعض جمهور الحريديم رأى أن وراء هذا القرار أهداف ديمجرافية فقط. وكان هناك حالة من الفجوة بين اليهود المتشددين (الحريديم) والحكومات الإسرائيلية السابقة، لصعوبة اندماجهم في الدولة ، ولكن حكومة بينيت تبنت خطابًا يختلف عن سابقاتها يساعد في محاولات اندماج الحريديم، ولكن جاءت الصعوبات من الجمهور الحريدي نفسة([4]). وقد علق عضو الكنيسيت يعقوب آشر بأن هذا يعتبر إهانة للحريديم، واهدار للإقتصاد الإسرائيلي؛ لأن بناء مستوطنة جديدة يعني بنية تحتية جديدة وهذا سيكون عبئًا كبيرًا.
وقال يائير معيان مدير عام سلطة تطوير وإسكان البدو في النقب “مدينة كاسيف هي الحل الوحيد للسكان البدو، فهي المنطقة الوحيدة في شرق النقب التي تعد أراضي دولة نظيفة، وبالإمكان تطويرها ولا توجد فيها مطالبات بالملكية لسكان بدو آخرين، الذين لم تنجح الدولة في إسكانهم. في النقب الشرقي نحو 25 ألف بدوي من دون تنظيم وحل سكني لهم. وهم يعيشون من دون خدمات من الدولة، في بيوت من الصفيح وبناء غير قانوني، من دون بنية تحتية وشوارع وأرصفة وماء أو مدارس. ولا أحد يتحمل مسؤولية آلاف الأشخاص هناك” ([5]).
وقد علق وزير البناء والإسكان زئيف إلكين على ذلك بقوله: “مدينة كاسيف ستكون حلاً مهمًا لأزمة الإسكان في القطاع الحريدي ، وستسمح للأزواج من الشباب بتأسيس مجتمع جديد في جنوب البلاد من ناحية، ويحافظون على نمط الحياة الذي اعتادوا عليه ([6]).
* مستوطنة نتسانا:
وهى المستوطنة الثانية التي تشرع الحكومة الإسرائيلية في تمويلها، وهى عبارة عن تلة أثرية فلسطينية ترجع لعصور قديمة تاريخيًّا، وهى قريبة جدًا من الحدود المصرية وهناك أيضًا معبر بهذا الاسم يربط بين المكان وبين أرض سيناء في مصر، وقد بدأ عمل هذا المعبر 1982 بعد معاهدة السلام مباشرةً، ويتم من خلاله نقل البضائع إلى القرى الفلسطينية. وقد تمت الموافقة على انشاء هذه المستوطنة ليتم نقل اليهود العلمانيين فيها من وسط البلاد إلى جنوبها.
*تداعيات الاستيطان:
1- يبدو جليًّا أن دوافع بناء هذه المستوطنات وغيرها سياسة وديمجرافية، وليس لحل أزمة سكانية.
2- تعكس فكرة إنشاء مستوطنتين ذات هويتين مختلفتين، وتحديدًا دينية متشددة وعلمانية، يجعلنا نعود لسابق الصراع الذي بين المتدينين والعلمانيين في المجتمع الإسرائيلي، لأن لكلا منهما معتقدات يتمسك بها، فالعلماني يؤمن بضرورة انتمائه القومي وأن اليهودية هى ثقافة، الأمر الذي يدفع كثير منهم إلى الإعتراف بضرورة فصل الدين عن الدولة.([7]) على خلاف المتدين المتشدد الذي يرى أن اليهود شعب الله المختار وأن أساس الحياة هو اتباع اليهودية.
3- ربما ترى إسرائيل أنها بهذه المستوطنة الحريدية ستتمكن من القضاء على الفجوة المجتمعية التي تظهر في المجتمع الإسرائيلي من خلال إبعاد اليهود المتشددين وتجميعهم في مستوطنة خاصة بهم، ولكن هذا الأمر قد يمثل في المستقبل خطرا كبيرا، لأنها بذلك تنفذ فكرة الجيتو التي عاشها اليهود في البلدان المختلفة في القرن الماضي، مما يؤدى إلى انعزال هؤلاء المتشددين أكثر وأكثر وتشددهم بمعتقداتهم، وتأثير ذلك على الشخصية ذاتها والحالة النفسية من خلال بث العداء الكبير تجاه المجتمع وتجاه الآخر سواء من اليهود أو الفلسطينيين ، فلن يتمكنوا بسهولة من الاندماج مع غيرهم للبعد الجغرافي عن الأحياء السكنية المكتظة بالسكان، خاصة أن أكثرهم لا يمتلك سيارة خاصة على سبيل المثال.
4- تحول الأقلية إلى أغلبية، وذلك من خلال تجمع اليهود الحريديم، بعدما كانوا من قبل يعيشون أقليات.
5- إقامة مستوطنة حريدية مستقلة سيجعلهم ينشطون أكثر من الناحية الإقتصادية.
ختامًا:
إن مشروع المستوطنات لم يكن للإنشاء وحدات سكنية جديدة فقط، بل للسيطرة على الكثير من الأراضي بشكل رسمي وغير رسمي بمبررات تشمل تقديم خدمات ولمّ الشمل ، كما أنه يمكن القول بأن الحكومة تقوم بتوظيف تلك التصريحات لتبرير شبهتها داخل اوساط الرأي العام الإسرائيلي، خوفًا من أن يؤدي هذا إلى تبكير الانتخابات، خاصة وأنه يؤكد البعض أن حكومة بنيت فشلت في توفير البدائل وواصلت الاحتلال والاستيطان، وعمقت الفقر داخل الطبقات الضعيفة.
[1])) https://www.bhol.co.il/news/1341312
[2])) https://www.calcalist.co.il/real-estate/article/ryjcsgp119
[3])) https://www.calcalist.co.il/real-estate/article/ryjcsgp119
[4])) https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001374245
[5])) https://www.themarker.com/realestate/.premium
[6])) https://www.calcalist.co.il/real-estate/article/ryjcsgp119
[7])) ملكين (يعقوب)، اليهودية رؤية في الصراع بين العلمانية والدين، ترجمة/ أحمد كامل راوي، العدد 32، مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، 2005، صـ12