كعقدة نفسية أو متلازمة مرضية؛ أصبحت ذكرى أكتوبر بالنسبة لليهود الإسرائيليين، التى ما إن حلّ ميعادها من كل عام ضجت وسائل التواصل الاجتماعى بالقصص والحكايات وانتشرت الصور من أرشيف الأباء والأجداد على صفحات اليهود الاسرائيليين،واجتهدت وسائل الإعلام في بث الدعاية والأكاذيب محاول منها محو عار لم ينجح تقدمٍ علمى أو ديمقراطية مزعومة محوه من تراثهم جيلًا بعد جيل.
دروسًا هامة من هزيمة نفسية عميقة الأثر، تلقاها اليهودى الإسرائيلى التائه ما بين هويته الأصلية وهوية حديثة العهد يحاول قادة الصهيونية فى إسرائيل بعد آبائها الأوائل ترسيخها فى وجدانه، مرتكزين على دعاوى دينية كتبوها بأيديهم، كان أولها – انعدام الثقة فيمن دفعهم لحرب لاقبل لهم بها، والابتعاد عن مفاهيم منتهية الصلاحية لطالما رددها قادتهم غير عابئين بما تحمله نفوسهم .
أكتوبر وأزمة الهوية اليهودية
“السادات يعرف من هو اليهودي”؛ عبارة مكتوبة على لافتة تحملها دبابة يهودية منهكة ، على متنها جنود منهزمون، تُشعرك وجوههم للوهلة الأولى أن حرب أكتوبر كانت حربًا نفسية فى المقام الأول، بدءًا من اختيار ميعادها؛ يوم عيد دينى يهودى مقدس تتوقف فيه الحياة تمامًا ، يتذكر فيه اليهودى خطاياه، يبكى عليها ويطلب الغفران .. وحتى هزيمتهم وعودة سيناء؛ تلك الأرض المقدسة التى طالما تمنوا العودة إليها .
دفعتنا تلك الصورة للبحث عن المزيد ..بحثنا ورأينا مجموعات على موقع التواصل الاجتماعى “فيس بوك” باسم حرب يوم هاكيبوريم – هكذا يسمى اليهود الاسرائيليون حرب أكتوبر 73 ، وأخرى باسم خريجو حرب يوم هاكيبوريم 73، قادتنا إلى العديد من الصفحات الشخصية التى تحمل آلاما وذكريات ولقطات تذكارية، كان المشترك بينها التأسى على ما فات والربط بين ما يحدث فى الشارع الإسرائيلى اليوم وما حدث فى الماضى مما كان له أكبر الأثر فى نفوسهم .
يقول “عوزي ديان” جنرال فى الجيش الإسرائيلى وسياسي معروف منتمٍ لحزب الليكود على صفحته الشخصية : يكفى أن تذكر كلمة “حرب” فى حضرة الاسرائيلى حتى تكتشف بسهولة لأى جيل ينتمى؛ فإذا قال “حرب يوم الغفران” فهو ينتمى لجيل شارك فى حروب عدة؛حرب يونيو والاستنزاف وحرب لبنان ولكن ما شكل وجداننا كإسرائيليين وبقي في ذاكرتنا عنوان واحد لحرب واحدة ،قفزنا فيها لدوامة الحرب المجهولة ،حرب حطمت فينا الكثير كما هو حال جميع شعب إسرائيل ، فى مفاجأة كاملة منتصف يوم كيبور(الغفران).
ويتبع قائلًا: كان الدرس الرئيسى فى – المفاجأة الإستراتيجية، هجوم مفاجئ منسق على جبهتين – قناة السويس ومرتفعات الجولان، انهار معهما “المفهوم” القائل بأن مصر بميزان القوى لن تستطيع التوصل إلى قرار الهجوم .
كان هذا المفهوم منطقيًا وقويًا لدرجة أن جميع علامات استعداد المصريين للحرب فُسرت على أنها تدريبات أوقوة هينة يمكن قمعها ببساطة.
هذا هو الدرس المزدوج لحرب يوم الغفران – حيث لم يستوعب قادة الجيش والدولة كلمات الصلاة اليهودية “من أجل خطيئة أخطأناها أمامك بعيون عالية” (أى بكل فخر دون خجل ).. استعد دائمًا للحرب المحتملة وفقًا لقدرات العدو وليس وفقًا لتقديرك نواياه. يمكن تقييم القدرات بشكل صحيح ، ولا يمكن إلا تخمين النوايا.
ظل ذلك لازال مؤلمًا حتى يومنا هذا، البلد كله كان يتألم، يقولون لقد ربحنا لكننا فشلنا، عندما دخلنا غير مستعدين للمعركة، ويجب أن نعلم أن التهديد الرئيسى الذى يواجهنا اليوم هو عدم تماسك المجتمع الإسرائيلى بالشكل الكافى، وهو أيضًا نقطة ضعفنا فى الحروب الداخلية التى نواجهها .
كتب أحد خريجو عام 73، ويدعى “نوعام نخمان” فى مقدمة منشوره الذى يحمل ذكرياته عن ذلك اليوم: فى غضون يومين أو ثلاثة أصبحنا كالمعاقين ، اعتدنا على القاء اللوم على “إيلى زعيرا” وكأنه المسؤول الوحيد عن الفشل، لكن الامر لم يكن كذلك، لم يكن “زعيرا” إلا كورقة توت للعديد من المسؤولين عن أدارة الفساد فى حرب يوم الغفران.
لم يكن خافيًا على قائد القوات المسلحة أن القائد العام للقيادة الجنوبية – لم يعلم أو يقرأ أو يبدو أنه لم يفهم خطة النجاح المصرية ، التى كانت معروفة للمخابرات الإسرائيلية كما يقولون لأكثر من ست ساعات ولم يحاول فهم “أين يركز المصريون جهودهم الرئيسية للنجاح؟ – إنها خطوة كارثية منعت القوات الإسرائيلية المدرعة من التقدم إلى قناة السويس ، والسيطرة على الأرض، أو تعطيل النجاح المصرى تمامًا.
وقصة أن “زعيرا” هو الجاني الرئيسي -أاخبار مزيفة – تحمل ربع الحقيقة، وإذا كانت هذه هى استنتجاتنا الرئيسية “لكارثة” يوم كيبور فيمكن تكرارها اليوم أيضًا.
صورة أخرى نشرها أحدهم من صفحة باسم “أرشيف يونا وايتمار حاتصور” لدبابة تحمل لافتة عليها سؤال وجودى فى حياة اليهود الإسرائيليين منذ وطأت أقدامهم أرض فلسطين المحتلة وعلى مر التاريخ “من هو اليهودى؟” وبالبحث فى خلفيات تلك الصورة وجدنا قصة أثرت فى وجدان الجنود الإسرائيلين : فبينما هم فى أرض المعركة، كانت المحكمة العليا الإسرائيلية تناقش مسألة نهو اليهودى بناءًا على دعوى من زوجة قائد البحرية” بنيامين شاليط” والتى لم تكن يهودية بحسب التقاليد الأرثوذكسية التى تعتبر المذهب الدينى الرئيسى فى إسرائيل وبالتالى فإن أولادها ليسوا يهودًا،ما كان سببًا فى بث الرعب فى نفوس الكثيرون إذا ما تم التصديق على هذه الدعوى،سيتم الدفع بهم وأبنائهم للحروب ، انطلقت الأصوات جئنا لأرض إسرائيل لنحيا لا لنموت، وانتهى الحال بزوجة شاليط إلى الهجرة إلى السويد على الرغم من الأموال التى تبرعت بها لإسرائيل ولم يتهود أحد من أولادها – ولا يزال موضوع الهوية اليهودية ملفًا مفتوحًا حتى اليوم.
أكتوبر فى الوجدان الإسرائيلي
نشرت صفحة هيئة البث الاسرائيلية “كان” من أرشيفها مقطع فيديو يبدأ بتقديم نشرة أخبار الثالثة والنصف عن عبور القوات المصرية والسورية فى الثانية أى قبل ساعة ونصف من إذاعة الخبر، ويظهر ذعرًا وارتباكًا بين المواطنين حال نزولهم للمخابئ ويتضح عنصر المفاجأة فى جُمل المعلق على الفيديو : “تم غزو اسرائيل فى وقت يتحد فيه شعبنا مع الله ” “لا وقت للتفكير فى السلم أو الحرب” .
دعت أبرز التعليقات على هذا الفيديو إلى عدم تكرار ذلك وعدم نسيانه كذلك ، كما يظهر نصر المفاجأة فى فيديو آخر لذكريات من كانوا فى سن صغيرة وقت الحرب ما بين 7 إلى 11 عام، يحكون كيف كانوا يصلون مع اهلهم فى الكُنس وقت سماع صفارات إنذار أصمت آذانهم، واختلطت عليهم الأمور كيف يقرع “الشوفار”(البوق- رمزًا يهوديا يعلنون به عن صلوات وأعياد دينية) فى هذا الوقت ، واعتقد بعضهم أنه يعلن عن ذكرى يوم الاستقلال أو حتى يوم ذكرى المحرقة النازية ، وكيف صرخت أمهاتهم ليسرعوا للمخابئ خوفًا من الهجوم، وكيف كان الأمر مرعبًا حتى ظنوا أن القوات فى الخارج سوف تحتل المخبأ، وكيف لا يذكر بعضهم وجوه أبائهم الذين ذهبوا للحرب، وأما ابرز التعليقات على هذا الفيديو من اليهود الإسرائيليين كانت : إن حرب يوم الغفران كانت تجديد عقد إيجار حياتنا لهؤلاء القادة، لا أدرى ماذا فعلنا لنرى كل هذا ، إن سحابة كهذه لن تمر أبدًا ، إنها تقطر أمطارٍ سوداء ، ألا توجد محكمة للفضيلة والشرف ، وإن لم يتبق من هؤلاء القادة أحد فإننا لن ننسى ولن نسامح .
أما صورة الجندى الإسرائيلى الذى يحتمى فى علب الطعام المحفوظة فى أحد المواقع كانت مثارًا للسخرية من الحرب كلها ، قال أحد الاسرائيليون : يبدو أننا كنا نبيع الخبز وأما الجريب فروت فكان رائعًا مع البصل( قاصدًا خلط الأمور والارتباك اللذين كانا سيدا الموقف حينها).
تحمل صفحات “فيس بوك” آلاف الصور والحكايات وعشرات آلاف التعليقات والعديد من الدعوات لاجتماعات على تطبيق زووم إحياءً لهذه الذكرى، إلا أنه من الملاحظ أن دعاوى وسائل الإعلام الإسرائيلية بانتهاء الحرب لصالح الإسرائيليين لم تلق النجاح المطلوب،حيث يشير أغلبهم فى سياق نهاية الحرب لوقف اطلاق النار، وربما كانت المفاجأة والهزيمة أعمق أثرًا فى نفوسهم كما أشرنا ..
أما ما لم نستطع إنهاء التقرير دون الإشارة إليه؛ هو متابعة الإسرائيليون للصفحات المصرية التى تحمل أى إشارة لحرب أكتوبر، الذين قرروا بعد متابعاتهم، أنه بعد 47 عامًا من الحرب لاتزال الحرب مستمرة على الشبكات ، بناءً على رواية أحدهم : رفض مدير مجموعة مصرية تحمل اسم “أبطال وبطولات من حرب 73” طلبات عديدة من الاسرائيليين الذين طلبوا الانضمام للمجموعة وتلقوا ردودًا قوية تحمل معاني الكراهية والنية لإعادة الكرة ليعلموهم حقيقة الهزيمة .
ولا نجد أفضل مما انتهجه رجل الشارع المصرى الرافض للوجود الإسرائيلى على أى بقعة تخصه حتى ولو كانت افتراضية، وكما أثرت حرب أكتوبر فى نفوس الإسرائيلى ؛ أُثر النهج الصهيوني الاحتلالي فى نفوس المصريين حتى ترسخ فى وجدانهم أن الصهيونى عدوًا إن طال الزمن .. كما ترسخ فى وجدانهم قيمة الوطن ، الشرف والكرامة ، وكيف يكون الحرص عليهما أحد مكونات الشخصية التى لا تتبدل ولا تتغير.