أفرز وباء كورونا انقساماً حاداً في إسرائيل بين طوائف المتدينين “الحريديم” من جهة والتيارات العلمانية من جهة أخرى، وقد بلغت ذروة الانقسام مرحلة من الصراع الحاد بينهما، بسبب رفض المتدينين الانصياع للإجراءات التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية لمواجهة الوباء.
الجدير بالذكر أن لدى أحزاب المتدينين تاثيرًا كبيرًا على الحياة السياسية في إسرائيل، فهي تستمد قوتها من تزايد أعدادهم التي بلغت أكثر من مليون نسمة في عام 2018م. وطبقا لمكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل، فإن عدد المتدينين الحريديم سيبلغ قرابة 2.3 مليون نسمة بحلول عام 2037م، ويرجع ذلك إلى درجة الخصوبة العالية بينهم واتباعهم عادة الزواج المبكر وزيادة عدد أبناء الأسرة الواحدة.
وتشكل جماعات المتدينين ضغطا متزايدا على صانع القرار السياسي في إسرائيل، ذلك بسبب سعيهم الدائم إلى فرض وممارسة قوتهم وسيطرتهم على كافة الشرائح اليهودية الأخرى خاصة العلمانيين منهم.
هذه الوضعية الخاصة بالمتدينين الإسرائيليين يراها البعض تشكل تهديدا خطيرا للنظام العلماني في إسرائيل، الذي تسعى الطوائف الدينية لاستبداله بنظام ديني صهيوني متزمت.
أسباب الهوس الدينى عند المتدينين

ويرجع السبب في ذلك الهوس الديني الذي يجتاح طوائف المتدينين الساعين لفرض سيطرتهم على مقدرات الدولة، إلى نسبتهم العددية المتزايدة والتى تبلغ 18% من مجمل السكان، فيما تذهب بعض التقديرات إلى أن نسبتهم تتجاوز 20% من العدد الكلي لسكان إسرائيل، وتلك النسبة مرشحة للزيادة في المستقبل القريب. يُضاف إلى ذلك نفوذهم المتنامي في الكنيست والحكومة وأجهزة الأمن، الأمر الذى يزيد من فرض إرادتهم على الحكومة وعلى عملية سن القوانين وتنفيذها.
الإمتيازات التى يتمتع بها المتدينون
إن هذا التميز العددي لطوائف المتدينين في إسرائيل أهلهم لتلقي دعماً مالياً ضخماً من ميزانية الدولة، ذلك للمساهمة في إعاشتهم اليومية، وفي تمويل مناهج مؤسساتهم الدينية التعليمية التي تختلف عن مناهج التعليم الرسمي، والتي لا تخضع لإشراف وزارة التعليم. كما يتمتع المتدنيون بإمتيازات وصلاحيات خاصة بهم في قوانين الأحوال الشخصية وقوانين التهود. هذا فضلا عن إعفائهم من أداء الخدمة العسكرية مقابل التفرغ لدراسة التوراة والتلمود والشريعة اليهودية التى يحافظون عليها منذ القرون الوسطى.
تلك المساعدات المالية الحكومية للمتدينين في إسرائيل تتيح لهم التفرغ الكامل لدراسة التوراة وتغنيهم عن السعى للعمل، الأمر الذى لا يجعلهم يشاركون في سوق العمل وعملية الانتاج، وبالتالي خروجهم من دائرة دعم الانتاج والاقتصاد الإسرائيلى.
كورونا والحريديم

ومع اجتياح وباء كورونا كافة أرجاء العالم، اندلع نزاع شرس بين الحكومة الإسرائيلية وطوائف المتدينين وعلى رأسهم الحريديم، ذلك بسبب رفضهم الرضوخ والانصياع لتعليمات وإرشادات الحكومة الخاصة بفرض إجراءات مواجهة الوباء. ولم تنجح الحكومة في فرض الحظر علي الحريديم.
وكان من مظاهر الرفض الجماعي للمتدينين الإسرائيليين لتعليمات الحكومة أنهم احتشدوا ونزلوا إلى الشوارع، محاولين اقتحام المسجد الأقصى وأداء طقوسهم عند حائط البراق. كما خالف المتدينون إجراءات الحظر وفتحوا مؤسساتهم التعليمية قائلين إن ” منع قراءة التوراة أخطر من وباء كورونا ” مستندين في ذلك على فتاوى سابقة أصدرها حاخامات يهود، منها: “أن العلاج والدواء يمثلان اعتراضًا على مشيئة الرب وقدره”.
وأطلق أتباع الحريديم شعارات أخرى منها “أن فيروس كورونا لن يطال شعب الله المختار” بل زادوا على هذا بقولهم ” إن الفيروس قد جاء لغير اليهود.” !! لكن رغم تلك التحديات والشعارات، إلا أن 70 ألفًا، من أصل 200 ألف من المتدينين الحريديم في “مدينة بنى براك”، قد أُصيبوا بفيروس كورونا. !!
المتدينون ساهموا فى زيادة معدلات الإصابة
وكشفت التقارير أن 29% من مصابي الفيروس في إسرائيل قد انتقلت إليهم العدوى من المعابد اليهودية والمدارس الدينية التى رفض المتدينون إغلاقها فى بداية الأمر، نتيجة عدم امتثالهم لتعليمات وزارة الصحة، ووصلت نسبة الإصابات فى مدينة بني براك، التي يقطنها اليهود المتطرفون، إلى 35% وذلك حسب صحيفة هآرتس.
ويرى المراقبون أن سبب انتشار وباء كورونا بين المتدينين الإسرائيليين هو عقيدتهم الدينية التى تقضي بتحريم متابعة كافة وسائل الإعلام بما في ذلك: تحريم استخدام الإنترنت ومشاهدة التلفاز، وكذلك عدم استخدام وسائط التواصل الاجتماعي عبر الهواتف الذكية التى يحرِّمونها أيضاً، وهو ما جعلهم لا يطلعون ولا يتابعون تعليمات وإرشادات الجهات المعنية. ومن جانب آخر كان لرجال الدين اليهودي دور كبير في التأثير على المتدينين في المجتمع وحضهم على عدم الامتثال لتعليمات الحكومة.
لقد أدى موقف الحريديم الرافض لتوجيهات السلطات إلى ارتفاع نسب الإصابة بفيروس كورونا في مدينة القدس المكتظة باليهود الحريديم، حتى أن مستشفيات المدينة واجهت نقصاً شديداً في المعدات الطبية. وقد حاولت الحكومة إجلاء 4500 مسن من الحريديم من الأماكن التى يسكنون فيها، إلا أنه لم يستجب منهم سوى 20 فرداً.
هذا وتشكل طوائف الحريديم وضعاً خاصاً وإستثنائياً في المجتمع الإسرائيلي وذلك لسببين، الأول: عدم مشاركتهم في الخدمة العسكرية الالزامية، لأنهم يعتبرونها عصيانًا لمشيئة الرب.!، والثنى: عدم اندماجهم في سوق العمل، الأمر الذى يمثل ضغطاً اقتصاديا على الحكومة، ويُعيق في الوقت نفسه إمكانية أن تصبح إسرائيل خلال العقدين القادمين، ضمن أفضل 15 دولة اقتصادية على مستوى العالم، بحسب المخططات والتوقعات المستقبلية والتى اعتمدتها إسرائيل في استراتيجياتها لسنوات 2028 و2065 و2070.
أسباب حرص الحكومة على إرضاء الحريديم
