وظفت إسرائيل علاقاتها الإقليمية والدولية للضغط على السودان الشقيق فى محاولة لانتزاع توافق من الحكومة الإنتقالية والمجلس السيادى السودانى للتطبيع مع “تل أبيب” والإنضمام لمنصة الاحتفال التى يتم الترتيب لها بواشنطن فى محاولة لإنقاذ كل من رئيس الوزراء الإسرائيلى “نتنياهو” والرئيس الأمريكى “ترامب” وحشد أصوات الناخبين فى الانتخابات التى من المتوقع أن يخوضها الأخيران خلال الأشهر القريبة القادمة، حيث تم رصد تحركات دولية تتمثل فى زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للخرطوم، متزامنة مع تحركات إقليمية أخرى قادمة من كل من إثيوبيا وقطر تجاه السودان المثقل بهمومه، وتستهدف تلك التحركات إجراء مقايضة على تقديم وعود بتسوية مشاكل السودان الداخلية المتشابكة والمتعددة مقابل الإعلان عن ترحيب الخرطوم بإقامة علاقات مع إسرائيل وإنهاء حالة العداء بين البلدين.
– وفى هذا الإطار توجه “بومبيو” يوم 25/8/2020 قادماً من تل أبيب فى أول زيارة لوزير خارجية أمريكى للسودان منذ 15 عاماً، إلتقى خلالها برئيس المجلس السيادى الفريق أول عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك، حيث أعلن الأخير أن المرحلة الانتقالية فى البلاد يقودها تحالف متنوع التوجهات مكلف بأجندة محددة لاستكمال عملية الانتقال وتحقيق السلام فيما بين مختلف الحركات السياسية والمسلحة للوصول لانتخابات حرة، وأن الحكومة الحالية لا تملك تفويضاً يتعدى هذه المهام واتخاذ قرار بالتطبيع مع إسرائيل، كما دعم موقف الحكومة البيان الصادر من المجلس المركزي “لقوى الحرية والتغيير” الذي يضم غالبية القوى التى قادت الحراك الشعبى والذى أشار فيه إلى أن “الحكومة الحالية غير مفوضة للتطبيع مع إسرائيل”، وهو ما شجع “حمدوك” لمطالبة واشنطن بفصل مسألة التطبيع عن قضية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بالنظر لتجاوب الخرطوم مع غالبية المطالب الأمريكية سواء المتعلقة بتعديل سياساتها الخارجية أو الداخلية وفتح ملفات السلام والديموقراطية وحقوق الإنسان والأقليات بجانب تسديد تعويضات مالية لأهالى ضحايا العمليات الإرهابية التى قدم لها الرئيس السابق البشير دعماً غير مباشر.
– ورغم سابق نجاح واشنطن فى إقناع الفريق “البرهان” لبقاء “نتنياهو” فى أوغندا خلال شهر فبراير الماضى، وتقديم الإدارة الأمريكية بعض الإشارات الإيجابية مثل بدء إعادة تبادل البعثات الدبلوماسية بين البلدين، وإعلان بعض المسئولين الأمريكيين صراحة أهداف الزيارة، والإشارة إلى أن التطبيع السودانى/ الإسرائيلى سيسهم في فتح آفاق استثمارية واقتصادية خليجية وغربية وسيوفر فرص للعمل (إرتفاع معدل التضخم فى السودان إلى 143% مؤخراً)، وينهى العزلة الدولية المفروضة على البلاد، بل وقد يفعل مخرجات مؤتمري برلين والرياض المتضمنين إسقاط الديون وتقديم مليارات من المنح والإستثمارات، ويمهد أيضاً لعقد مؤتمر إعادة إعمار السودان المتعثر، إلا أن الرد السودانى مثّل صدمة للإدارة الأمريكية المدفوعة من إسرائيل، ويمكن وصفه بالفشل الأمريكى فى قراءة الأحداث لاسيما مع سابق إقالة وزارة الخارجية السودانية المتحدث الرسمى باسمها على خلفية تصريحاته التى أكدت قرب إقامة علاقات بين الخرطوم وتل أبيب، لاسيما مع تعرض النظام الإنتقالى الهش إلى ضغوط وانتقادات التيارات القومية والسلفية والراديكالية واليسارية بجانب مكونات “قوى الحرية والتغيير” ذات التواجد الميدانى الفاعل، وبالتالى إمكانية فقدان جناحي الحكم العسكرى والمدني ما تبقى من شرعية أو تأييد.
– ومن جانب آخر، عكس تزامن زيارة رئيس الوزراء الإثيوبى على رأس وفد رفيع المستوى للخرطوم يوم 25/8/2020 مع زيارة المسئول الأمريكي وجود تنسيق إثيوبى /أمريكى/ إسرائيلى مسبق، خاصة مع إعلان “آبى أحمد” تأييده لإقامه السودان علاقات مع إسرائيل من جهة، وسعيه للإيحاء باتخاذه نهجاً تعاونيا مختلفاً مع السودان ودعمه مسار تسوية مختلف الملفات من جهة أخرى، وهو ما وضح من إستخدام رئيس الوزراء الإثيوبى لغة حوار مختلفة مع “عبد الله حمدوك”، واعتباره السودان دولة نهرية مشاطئة لبلاده، والتعهد ببذل الجهود للوصول لنهاية ناجحة للمفاوضات الثلاثية وصيغة “كلنا رابحون” وتحويل السد لأداة تكامل، ودعوته لرئيس الوزراء السوداني لزيارة المشروع المشترك، وإشارته لأهمية تسوية المسائل الحدودية العالقة، بجانب إيفاده سفيرين جديدين لبلاده مؤخراً بكل من السودان ومصر عقب سابق سحبهما منذ شهر مارس الماضى، بما يمثل تغييراً جذرياً فى سياساته المرحلية، حيث سبق أن شهدت علاقات البلدين خلال الفترة الأخيرة تصاعداً حاداً على خلفية اتخاذ “أديس أبابا” إجراءات أحادية الجانب خاصة بالملء الأول والتأكيد على اعتزام تنفيذ الملء الثاني بغض النظر عن التوصل لإتفاق، والإعلان عن أن نهر النيل ملك لبلاده وعلى دول المصب أن تتدبر احتياجاتها المائية من فوائض الماء الإثيوبى، وانتقال التوتر إلى مستوى الإشتباكات الحدودية المسلحة بشكل متكرر.
– وبصفة عامة، كشفت زيارة المسئول الإثيوبي وتوقيتها والتغير الواضح فى أسلوب معالجته للملفات العالقة والقضايا المفتعلة، مدى قدرة القوى الإقليمية والدولية المعنية على استخدام أدواتها وتوجيهها سواء للضغط على دول المنطقة أو للعمل على إدماجها فى المنظومة المستحدثة المراد تسويقها، خاصة مع احتفاظ إثيوبيا بعلاقات مميزة مع إسرائيل من جانب ومع مختلف القوى المدنية بالسودان على خلفية سابق قيامها بالوساطة بجانب الاتحاد الأفريقى فيما بين المدنيين والعسكريين عقب الإطاحة بالبشير والتوصل لتشكيل حكومة مدنية مدتها ثلاث سنوات بمشاركة الطرفين من جانب آخر، الأمر الذى يطرح مجدداً أهمية مشاركة مصر للجهود السودانية الوطنية الساعية لتسوية العديد من الملفات السياسية والأمنية، بجانب استعادة جامعة الدول العربية لدورها المفقود بالسودان الشقيق، لملء الفراغ الذى تسبب فى تغلغل القوى المناهضة لدول المنطقة العربية والساعية لتنفيذ أجندات تتعارض مع ثوابت الأمن القومى لكل من مصر والسودان .
– ورغم التسليم بأن الأبعاد السياسية المشار إليها قد طغت على مجمل المباحثات ، إلا أن تشكيل الوفد الإثيوبى الذى ضم وزراء الدفاع والخارجية والمياه والرى والطاقة، يطرح حرص “آبى أحمد” على إحداث قدر من التوازن مع النتائج الهامة للزيارة التى قام بها رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولى للسودان يوم 15/8/2020، والتى شملت الاتفاق على إقامة مشروعات مشتركة فى مجالات السكه الحديد ورفع مصر كفاءة خط الربط الكهربائى وإعطاء الأولوية للسودان فى إستيراد اللحوم وتوفير مواد البناء وعودة المنطقة الصناعية المصرية بالسودان وإعادة فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، وهو ما يذكّر بسابق قيام “آبى أحمد” برئاسة وفد عال المستوى خلال زيارته لأسمره يوم 18/7/2020 عقب عودة الرئيس الإريتري “أسياسي أفورقى” من القاهرة يوم 6/7/2020 ولقائه بالرئيس السيسي، وأيضاً توجه وفد إثيوبي لإقليم “صومالي لاند” يوم 28/8/2020، عقب زيارة وفد مصرى يضم عناصر مدنية وأمنية لنفس الإقليم يوم 15/8/2020.
– وفيما يتعلق بالتحرك القطرى الموازى، تجدر الإشارة إلى تزامن لقاء نائب رئيس المجلس السيادي السوداني الفريق/ محمد حمدان دقلو بالمبعوث الخاص للحكومة القطرية “مطلق القحطانى” أيضاً يوم 25/8/2020 بجوبا على هامش المفاوضات التي تستضيفها دولة جنوب السودان بين ممثلي الحكومة والحركات المسلحة التي تتواجد قياداتها بكل من الدوحة وباريس، وبالطبع فإن إعلان طرفى الأزمة فشل المفاوضات وتجميد رئيس الحركة الشعبية/ شمال “عبد العزيز الحلو” التفاوض مع الحكومة لأجل غير مسمى لم يكن مفاجئاً للمتابعين رغم سابق الاتفاق على التوقيع النهائى يوم 28/8/2020 وذلك بالنظر لارتباط قيادات الحركات المسلحة مثل جيش تحرير السودان بقيادة “عبد الواحد محمد نور” وغيره بأجندات خارجية، وهو ما قد يدفع وفد الحكومة لتوقيع اتفاق جزئي مع بعض الحركات الدارفورية غير المؤثرة، وإرجاء التوقيع مع القوى الرئيسية التي تنتشر عناصرها المسلحة بولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق وتنشط عملياتها بجبل مرة بدارفور وغيرها من أنحاء البلاد.
– بتقييم مجمل ما سبق، يتضح أنه رغم تعاظم حجم الضغوط الإقليمية والأمريكية على السودان واستثمار تلك القوى تعدد التحديات والتهديدات الداخلية لدفعه نحو إقامة علاقات مع إسرائيل أسوة بالإمارات، نجد أن النظام الإنتقالى نجح – حتى الآن – فى تجاوز تلك الضغوط، وإعلان تفضيله إرجاء مناقشة ذلك الملف لحين إنتهاء المرحلة الانتقالية وتسليم حكم البلاد للفصيل الفائز في الإنتخابات، وبالتالى أيضاً إنتهاء العملية الإنتخابية بكل من إسرائيل والولايات المتحدة، الأمر الذى لا يستبعد معه تزايد وتنوع حجم الضغوط التى قد يتعرض لها السودان خلال الفترة القريبة القادمة فى محاولة لدفعه نحو التعاطى مع ذلك الطرح