بينما أنظار العالم مشدودة نحو حرب غزة، تشهد السودان حالة من التشرذم وتواجه معتركاً دامياً يعد الأخطر فى تاريخها السياسي الحديث، حيث اشتعال فتيل الأزمة بين قوات الدعم السريع والجيش، ويستمر الصراع الدموي في السودان دون مؤشرات على قرب نهايته، فهل يتحول إلى حرب أهلية طويلة الأمد؟ أم ينتهي بتقسيم البلاد؟ وتدخل قوات دولية لحفظ السلام؟
هل السودان على طريق التقسيم؟
أدت تسعة أشهر من الحرب المتواصلة في السودان إلى مقتل الآلاف ونزوح الملايين داخلياً وإلى دول الجوار، وجعلت احتمال التقسيم خطرا قائمًا في السودان التي تعاني من التفكك والصراعات، حيث إن الحرب الدائرة الآن صنعت بتدبير إقليمي ودولي لتقسيم السودان إلى خمس دويلات تشمل دويلة في دارفور، وأخرى في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وثالثة في وسط السودان والخرطوم، ورابعة في شرق البلاد، وخامسة لقبائل النوبة في أقصى شمال البلاد على الحدود مع مصر.
وهناك العديد من المؤشرات على أن حالة الإنقسام موجودة بالفعل على أرض الواقع من خلال سيطرة الدعم السريع على دارفور، وقوات الحركة الشعبية شمال بزعامة عبدالعزيز الحلو، على النيل الأزرق وجنوب كردفان، وسيطرة مجموعات البيجا والرشايدة على الشرق رغم عدم وجود قوات مسلحة لهم، إضافة إلى مطالبات ثقافية لأبناء النوبة بدولة لهم في الشمال، تصاعدت فكرتها بعد ظهور مناجم للذهب في مناطقهم لتبقى دولة الوسط وحيدة بعد انصراف الأطراف عنها.
أرشيفية
لآن وفقًا للتطورات الميدانية في دارفور، هنالك مؤشرات تغذي مشروع التقسيم، منها انسحاب الجيش السوداني من المناطق الغربية في الجنينة ونيالا والضعين، وترك دارفور للدعم السريع، في حين لم يتبق سوى ولاية الفاشر شمال دارفور، والتي تتحصن فيها الحركات المسلحة التي وقعت اتفاقية سلام جوبا، وهما حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، إلى جانب حركة القائد مصطفى تمبور، فجميعهم قرروا الخروج من الحياد والقتال إلى جانب الجيش السوداني؛ دفاعًا عن وحدة السودان، وهو تقريبًا الموقف الذي أبطأ مشروع التقسيم.
وسيؤجج صراع السلطة الجاري بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع الانقسامات العرقية والإقليمية القائمة، ويدفع بالسودان نحو حالة التفكك، كما سيؤدي تنافسهما من أجل السيطرة والهيمنة على السودان إلى تفاقم التوترات، ما سيزيد استقطاب الفصائل والمناطق على حدٍ سواء. ومع تصعيد الصراع أكثر، ستضعف الحكومة المركزية لتطغى عليها طموحات القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بينما سيعطي كلا الفصيلين الأولوية لتعزيز سلطته على المناطق الخاضعة لسيطرته، مما سيسفر عن تفكك الحكومة المركزية وظهور مناطق الحكم الذاتي.
ومع تقسيم السودان ستنفجر الصراعات المسلحة وصراعات السلطة بين المناطق والجماعات العرقية المختلفة، التي ستتنافس للسيطرة على الأراضي أو الموارد أو النفوذ السياسي، وستستمر المظالم التاريخية والصراعات التي لم تُحَل بعد -مثل صراع دارفور أو انفصال جنوب السودان- في تشكيل الديناميات الإقليمية وتحريك مطالبات حق تقرير المصير.
ولا شك في أنّ تفكك الحكومة المركزية سيفاقم الأزمات الإنسانية القائمة، ما سيؤدي إلى زيادة النزوح وتدفق اللاجئين، وتقييد قدرات الاستجابة الإنسانية إقليمياً ودولياً حيث ستضطر الجهات الخارجية، سواء من الدول المجاورة أو القوى الدولية، إلى التعامل مع تعقيدات الاعتراف بالمناطق المقسمة حديثاً والتفاعل معها، وسيتعين على تلك الجهات تحقيق التوازن الهش بين دعم مطالبات الحكم الذاتي والدعوة إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية. كما ستظهر تحديات اقتصادية بالتزامن مع بروز الخلافات حول توزيع الموارد، والسيطرة على القطاعات الاقتصادية الرئيسة، وتقسيم الدَّين والأصول الوطنية.
ما الأسباب الحقيقية للحرب في السودان؟
تعد الثروة المعدنية التي يتمتع بها السودان هي المحرك الرئيسي لهذه الحرب، فالسودان يحتل المرتبة الثانية من إنتاج الذهب في إفريقيا، والثالثة في إنتاج النحاس إفريقيًا، إضافة إلى المعادن الأكثر أهمية مثل اليورانيوم والكوبالت، والكثير من تلك المعادن التي تدخل في صناعة التقنيات الحديثة.
وفي هذا الإطار، شهدت حرب السودان صراعات مكشوفة وعلنية بين الشركات الأمريكية والأوروبية من ناحية، والشركات الصينية والروسية، من ناحية أخرى، وقد ساندت قوات فاجنر الروسية شركاتها العاملة في مجالات التعدين بمناطق السودان المختلفة، وأصبحت فاجنر أكثر نفوذًا لتحالفها مع قوات الدعم السريع، وهو ما انعكس بدوره على مسار الحرب الدائرة الآن، حيث فاجأت قوات الدعم السريع طائرات الجيش السوداني بمضادات أرضية متقدمة، وطائرات مسيرة، وبنادق قنص حديثة، وكلها أسلحة تخص قوات فاجنر، وتخص قناصين فاجنر، وهو ما تسبب في إطالة أمد الحرب، وصمود قوات التمرد بشكل أكبر أمام الجيش السوداني.
كما أدى الصراع بين الشركات الأجنبية إلى تدخل دولها كأطراف، حيث تسعى كل شركة إلى الحصول على أفضل الصفقات، ودخلت هذه الشركات في صراع مع الحكومة السودانية التي تسعى بدورها إلى الحصول على أكبر قدر من الإيرادات من التنقيب عن المعادن.
وقد أدى هذا الصراع إلى تهميش السكان المحليين من أبناء الشعب السوداني، الذين لم يستفيدوا من هذه الموارد بشكل عادل، إضافة إلى تدمير البيئة المحيطة نتيجة لقيام الشركات الأجنبية بعمليات تنقيب غير قانونية، وهذا بدوره أدى إلى تزايد التوتر في السودان، حيث أصبح السكان المحليون أكثر عداءً للشركات الأجنبية والحكومة السودانية في آن واحد، مما خلق أجواء من التوتر والعنف في كل المناطق المحيطة بمناجم الذهب والمعادن الأخرى، مما دفع تلك الشركات للاتفاق مع قوات الدعم السريع على حماية مواقعها وموظفيها نظير دفع أموال شهرية لها.
ويمكن الإشارة إلى بعض الشركات الأجنبية التي تعمل في السودان في هذا المجال، وهي : شركة سينوفارم الصينية، شركة موانسل الأسترالية، شركة ريو تينتو البريطانية، شركة بي إتش بي بيريو الأسترالية، شركة تشاينا مينرال ريسورسز الصينية، إضافة إلى الشركات الروسية؛ شركة “ميروجولد” (Myrogold)، شركة “كوش” (Kush)، شركة “جيمكو” (Gemco)، شركة “روسجيو” (Rusgeo).
وهكذا يتضح أن صراع الدول والشركات على المعادن في البلاد قد انعكس بدوره على حالة السلم الاجتماعي، حيث أنتج غضبًا شعبيًا للحرمان من عوائد تلك الثروات المعدنية، إضافة إلى تأسيس وشرعنة قوات من المرتزقة تنتسب إلى الجيش السوداني لحماية موظفي تلك الشركات، وكان هذا التوتر أحد المناخات التي ساعدت وتساعد على استمرار الحرب في السودان.
السيناريوهات المتوقعة للحرب في السودان
السيناريو الأول: حرب أهلية
إذا استمرت المواجهات المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع لفترة طويلة نسبياً، فإنها يمكن أن تتحول إلى حرب أهلية شاملة، في ظل عمق الانقسامات في المجتمع السوداني من ناحية، وإرث الحروب الأهلية الممتدة التي شهدتها البلاد في مرحلة ما بعد الاستقلال، والتي لاتزال تداعيات بعضها تتواصل حتى الآن، من ناحية أخرى. ويقوم هذا السيناريو على عدة عناصر، منها: غياب سلطة مركزية مدنية، حيث لا توجد حكومة في السودان، وانشغال مجلس السيادة الانتقالي بالحرب مع قوات الدعم السريع، فضلاً عن تصدع أجهزة الدولة ومؤسساتها بسبب حالة الحرب، وما يترتب عليها من فوضى وانعدام الأمن.
كما ينطوي هذا السيناريو على نقل المواجهات بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى ولايات ومدن أخرى، وتدخل قوى قبلية وعرقية وميليشيات مسلحة وتنظيمات سياسية لدعم هذا الطرف أو ذاك. كما أن حالة الانفلات الأمني قد تدفع قوى قبلية وعرقية للانخراط في مواجهات مسلحة على غرار ما حدث في إقليم دارفور. يُضاف إلى ذلك، أن حركات التمرد المسلحة، والتي كان من المتوقع دمج العديد منها في الجيش السوداني، قد تنشط من جديد. وقد يتمكن بعضها من فرض سيطرته على بعض مناطق السودان، خاصة وأن القوتين اللتين كانتا تتعاونان لمواجهة هذه الحركات (الجيش وقوات الدعم السريع) قد تحولا إلى عدوين لدودين، وانخرطا في حرب استنزاف، يُرجح أن تكون طويلة.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن اتساع نطاق الحرب سوف يسمح لقوى خارجية بالتدخل لدعم أحد الأطراف وفق مصالحها وأجنداتها، مما يغذي استمرار الحرب.
ويُعد هذا السيناريو كارثياً بالنسبة للسودان، حيث سيفضي إلى حالة من الفوضى قد تقود إلى تصدع الدولة وتمزقها على غرار ما حدث في الصومال وليبيا واليمن، حيث ينعدم وجود السلطة المركزية، وتصبح أجزاء من إقليم الدولة تحت سيطرة مليشيات وحركات مسلحة. كما سيترتب على هذا السيناريو تفاقم الوضع الإنساني بسبب حجم الدمار والخراب في البنية التحتية، مما سيترتب عليه تصاعد عمليات النزوح الجماعي، والتهجير القسري، وربما تحدث مذابح على أسس عرقية، فضلاً عن تحويل البلاد إلى ساحة للاستقطاب الإقليمي والدولي، كما سيكون لهذا الوضع تداعياته السلبية الخطيرة على الصعيد الإقليمي، وبخاصة دول جوار السودان.
السيناريو الأمريكي بنقل السلطة للمدنيين في السودان
تسعي الولايات المتحدة لتمرير بديل يرتكز على نقل السلطة للمدنيين، واقتراح أمريكا الخروج من الصراع في السودان عن طريق التفاوض وهو ما يصعب تحقيقه في ظل عدم جديتها في استعادة التحول الديمقراطي في السودان من خلال نقل السلطة إلى حكومة انتقالية مدنية، ولكن من الممكن أن تلجأ أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي الي عقد مؤتمر يضم (اجباريا) البرهان وحميدتي، وحضور رؤساء دول الجوار السوداني لوضع حل نهائي وعادل لعودة الأمن والأمان إلي السودان.
السيناريو الثالث: دخول قوات أممية
هذا السيناريو أصبح متوقع بدرجة كبيرة، وهو دخول قوات أممية بقيادة الولايات المتحدة إلى السودان بدعوي الفصل بين القوات، وهو الاقرب من بين كل السيناريوهات الأخرى متوقع نزوله إلى أرض الواقع بنسبة كبيرة.
خلاصة:
على الرغم من الإغراءات التي يمثلها تقسيم السودان لتلك الدول الطامعة في ثرواته، إلا أن اشتعال نار التقسيم لهذا البلد الذي يضم أكثر من 500 قبيلة محلية، وحدود مشتركة مع سبع دول أخرى، يمكن أن يؤدي إلى تدمير البلاد وثرواتها، وإشعال فوضى عارمة لا يمكن لأى دولة من تلك الدول الطامعة أن تحقق أي هدف من أهدافها، كما أنه لا يمكن السيطرة على تلك الأطراف الممتدة إقليميا والمتداخلة قبليًا في هذه المنطقة،
وإذا تحقق ذلك السيناريو ستكون تداعياته كارثية، ليس على الدولة والمجتمع في السودان فحسب، بل على الصعيد الإقليمي. فتفكك الدولة السودانية، وغياب السلطة المركزية، وعسكرة المجتمع، وتمدد الفاعلين المسلحين من غير الدول، كل ذلك وغيره سوف يلقي بتأثيراته على دول جوار السودان، لاسيما وأن معظمهما يعاني من أوضاع داخلية هشة. فهل يمكن تفادي هذا السيناريو الكارثي؟