تُقدَّم إسرائيل نفسها منذ عقود دولةً ديمقراطية تحترم التعددية الإعلامية وحرية التعبير، غير أنّ الواقع بشكل عام، والسنوات الأخيرة بشكل خاص، شهدت تحولاتٍ لافتة في المشهد الإعلامي في إسرائيل، خاصة مع تصاعد التوترات والحروب في المنطقة. فقد تراجع هامش الحرية الصحفية، وتزايدت الرقابة الرسمية، والتدخل الحكومي المباشر في توجيه السردية الإعلامية، ما أثار تساؤلات عميقة حول مستقبل الإعلام في إسرائيل ودوره في الحفاظ على- مايزعمون أنه- القيم الديمقراطية.

وفي ظلّ تصاعد التوترات العسكرية المتواترة في الشرق الأوسط، يحتلّ الإعلام الإسرائيلي مواقع متقدمة في المشهد العامّ وتبني السردية الرسمية، ليس فقط بصفته مُعلِنا عن الأحداث، بل بصفته مكوّنا أساسيا من مركّبات الحرب والإعلام المقنّن. لقد بات واضحًا أنّ العنوان ” الإعلام في إسرائيل بين دعايته وتراجع حريته في زمن الحرب” ليس مجرد وصف عابر، بل مفتاح لفهم تحولات الإذاعة والتلفزيون، والصحافة المكتوبة ، والرقمية في إسرائيل خلال فترات الصراع.

من جهة، تحاول الحكومة الإسرائيلية وصناع القرار الرسميّون توجيه الخطاب الإعلامي، باستخدامه آلية لنشر ما يُعرَف بـ “حرب السرديات”، حيث يصبح الإعلام أداة لتثبيت مواقف، وتعزيز الدعم الداخلي، وصوغ الصورة الخارجية للدولة.

ومن جهة أخرى تراجعت حرّية الصحافة بشكل ملحوظ، فظهرت على السطح قيود رقابية شديدة، ومتابعة أمنية مُشددة، وتشريع يمسّ أسس العمل الصحفي المستقلّ، ما يجعل الصحفيّين يعملون في ظلّ ضمانات أقلّ عن ذي قبل.

يتضمّن الإطار الزمني للحالة الإعلامية الإسرائيلية خلال الحرب ثلاثة محاور متشابكة:

أولا: الدعاية الرسمية: الإعلام بوصفه جزءا من سردية الدولة لكسب التأييد، وتشكيل الخطاب المجتمعي والدولي.

ثانيًا: الرقابة والحصار المعلوماتي: حيث يُفترض أن القوانين “العسكرية-الأمنية” تبرّر التدخّل في محتوى الإعلام، لكن في الواقع تُستخدم لتقييد حرّية الصحافة بشكل أوسع. على سبيل المثال، تمّ تسجيل قفزة في عدد المواد المحظورة أو التي خضعت لمراجعة رقابية مسبقة. وأكبر مثال على ذلك غلق إذاعة الجيش الإسرائيلي (جالي تساهال) بأوامر مباشرة من وزير الدفاع، لمجرد أنها خرجت قليلا عن الخط المرسوم لها.

ثالثُا: تداعيات العمل الصحفي في زمن الحرب: صحفيّون مهدّدون بالاعتقال أو الاعتداء أو إزالة التراخيص، بالإضافة إلى صعوبات عمليّة في الوصول والتغطية المستقلة، ما يؤثّر على نوعية وأمانة التغطية.

وإذا اقتربنا من الواقع اليومي  نرى أن الوسائل الإعلامية الإسرائيلية لا تعمل بمعزل عن البيئة السياسية والعسكرية التي تحيط بها؛ فالحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023م شكّلت نقطة تحوّل، ليس فقط في ساحات المواجهة، بل في ميدان الإعلام أيضاً، حيث تم تشُديد الرقابة، وتضاعفت التحدّيات، وبرزت تساؤلات حول مدى استقلالية الصحافة والإعلام داخل إسرائيل خاصة عند تغطية الصراع مع الفلسطينيين.

تكتسب هذه المعطيات أهمية كبيرة ليس فقط لإعلاميين وباحثين، بل لكلّ قارئ يرغب بفهم كيف يتغيّر “ما يُسمَع وما يُقال” في دولة تدّعي الديمقراطية وفي وقت تشن فيه حربًا مفتوحة، في ظل تشكل تحدّيات أمنية، وسياسية واجتماعية. تتناول هذه الورقة بتسلسل تحليلي الجوانب الرئيسة لهذا العنوان (الدعاية، والرقابة، وحرّية الصحافة)، ونطرح أسئلة جوهرية: هل الإعلام الإسرائيلي يواجه أزمة حرّية أم أن ما نراه هو إعادة مؤقتة للتنظيم بسبب حالة الحرب؟ وهل يمكن الحديث أصلاً عن “حرّية صحافة” في سياق يكون للأمن فيه السيطرة والسطوة؟

 


أولاً: تشريعات جديدة تُقيّد حرية الإعلام

أقرّ الكنيست الإسرائيلي في مايو 2025م  قانونًا مثيرًا للجدل يمنح الحكومة صلاحياتٍ واسعة لإغلاق أو حظر وسائل الإعلام الأجنبية التي تُعتبر “تهديدًا للأمن القومي”. وقد استُخدم هذا القانون مباشرةً لإغلاق مكاتب شبكة الجزيرة في القدس ومصادرة معداتها، في خطوةٍ اعتبرتها منظمات حقوق الصحافة سابقةً خطيرة ضد حرية الإعلام، فوصفت منظمة الصحفيين الوطنية البريطانية “NUJ”  هذا القرار بأنه “انتهاك واضح لمبدأ حرية التعبير”، مشيرةً إلى أنّ “السلطات الإسرائيلية تستخدم الأمن ذريعةً لإسكات الأصوات الناقدة”. كما أظهر مؤشر حرية الصحافة العالمي لعام 2025م الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود” تراجع إسرائيل إلى المرتبة 101 عالميًا بعد أن كانت في المرتبة 88 في عام 2023م بسبب القوانين الجديدة والرقابة المتزايدة على المحتوى الإعلامي.

تشير هذه الإجراءات إلى تراجع واضح في علاقة الدولة بالإعلام، حيث تُستخدم أدوات القانون والرقابة بدلاً من الحوار المهني، مما يخلق بيئةً من الخوف الذاتي والرقابة الذاتية بين الصحفيين.

ثانيًا: الإعلام الإسرائيلي وتغطية الحرب على غزة

منذ شن إسرائيل عدوانها على غزة في أكتوبر 2024م، ظهر بوضوح كيف تحوّل الإعلام في إسرائيل إلى ذراعٍ مكمّلة للآلة العسكرية. ففي الأسابيع الأولى من العدوان، انشغلت القنوات الكبرى مثل “كان” و”القناة 12″ بتكرار الرواية الرسمية للجيش الإسرائيلي دون مساءلة، مركّزة على الجانب الأمني والعسكري، بينما تم تجاهل المعاناة الإنسانية في غزة بشكلٍ شبه كامل.

لكن مع تفاقم الكارثة الإنسانية وانتشار مشاهد الجوع والموت بين المدنيين الفلسطينيين في غزة، بدأت بعض وسائل الإعلام العبرية تُغيّر نغمتها بشكل خافت، فظهرت تقارير تبدي قدرا محدودا من التعاطف مع الوضع الإنساني المتدهور. وقد أشارت صحيفة “واشنطن بوست” إلى هذا التحول قائلة: “مع انتشار الجوع في غزة، بدأ الإعلام الإسرائيلي لأول مرة في التركيز على الفلسطينيين ومعاناتهم”. وفي هذا السياق نشرت شبكة الجزيرة تحليلًا يُظهر كيف ساهمت القنوات الإسرائيلية في تضخيم خطاب الحرب والتقليل من حجم الكارثة الإنسانية، مؤكدةً أن معظم الإعلام الإسرائيلي تبنّى السرد الحكومي الذي يصوّر الحرب بوصفها ضرورة وجودية، وليس بوصفها أزمة إنسانية.

وقد عكس هذا التناقض في التغطية ما يُسمّى بـ “التعاطف الانتقائي”؛ أي الاهتمام الإنساني المشروط بالهوية والانتماء القومي. فبينما يعبّر الإعلام الإسرائيلي عن صدمة وطنية إزاء مقتل جنوده أو مدنيه، فنادرًا ما يُظهر مشاعر مماثلة تجاه ضحايا غزة، إلا في حالاتٍ متأخرة أو استثنائية سبقه إليها الإعلام الغربي.

ثالثًا: الرقابة العسكرية والسيطرة على السرد الإعلامي

تُعد “הצנזורה הצבאית الرقابة العسكرية” أحد أبرز أدوات التحكم والرقابة على الإعلام الإسرائيلي، وهي جهاز رسمي يخضع لإشراف وزارة الدفاع، ويملك صلاحية منع نشر أي مادة تُعتبرها “ضارة بالأمن القومي”. وتُلزم وسائل الإعلام الإسرائيلية قانونيًا بإرسال المواد الحساسة للمراجعة قبل نشرها، خاصةً تلك المتعلقة بالعمليات العسكرية أو مواقع الجيش. وفي كثير من الأحيان، يتلقّى الصحفيون تعليماتٍ مباشرة من الناطق العسكري باسم الجيش الإسرائيلي، الذي أصبح المصدر الأساسي للمعلومات في أوقات الحرب، مما يؤدي إلى احتكار السردية الإعلامية من قِبل المؤسسة العسكرية. وقد أشار تقرير “جمعية الإنترنت الإسرائيلية” في أبريل 2025م إلى أن هذه الرقابة باتت أداةً للسيطرة على النقاش العام ومنع تداول المعلومات غير المرغوب بها، خصوصًا فيما يتعلق بالخسائر العسكرية أو الاحتجاجات الداخلية.

رابعًا: الإعلام الرقمي كمساحة بديلة

رغم القيود الصارمة، برزت خلال العدوان الإسرائيلي على غزة حرب منصّات رقمية وصحفين مستقلين يحاولون تقديم سردية بديلة لما تبثّه القنوات الرسمية. فقد انتشرت حسابات عبر منصّات مثل X وTelegram تنشر تقارير ميدانية وصورًا تُظهر الواقع الإنساني في غزة من زاوية غير خاضعة للرقابة. من هنا نشرت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية في يوليو 2025م تقريرا أوضحت فيه أنّ الرقابة الحكومية بدأت تمتد إلى الفضاء الرقمي أيضًا، حيث تُستخدم تقنيات الرصد والتبليغ الجماعي لإزالة محتوى يُعتبر “تحريضًا” أو “مضرًا بالمعنويات الوطنية”.

لكن هذه المنصّات الرقمية أصبحت أيضًا مساحةً جديدة للنقاش المجتمعي، إذ يلجأ إليها الشباب الإسرائيليون للحصول على معلومات أكثر تنوعًا، بعيدًا عن الخطاب الرسمي. وهو ما يشير إلى تحوّل في ثقة الجمهور بالإعلام التقليدي، الذي بات يُنظر إليه على نطاق واسع كصوتٍ للسلطة وليس للمجتمع.

خامسًا: ما بين الأمن “القومي” وحرية التعبير

تُبرّر الحكومة الإسرائيلية تدخلها المتزايد في الإعلام بضرورات ماتسميه “الأمن القومي” و”منع التحريض”، لكنّ هذا التبرير لم يعد يُقنع الكثير من المراقبين داخل إسرائيل نفسها. فقد حذّرت نقابة الصحفيين الإسرائيلية من أن “الرقابة الزائدة تُضعف الديمقراطية الإسرائيلية من الداخل، وتحرم الجمهور من الحق في المعرفة”. ويرى باحثون في الإعلام أنّ الخطر الحقيقي يكمن في تآكل استقلالية المؤسسات الصحفية تحت ضغط الحرب والرقابة السياسية.

إنّ الديمقراطية لا تُقاس فقط بحرية الانتخابات، بل أيضًا بحرية الكلمة والقدرة على مساءلة السلطة. وعندما تُستخدم القوانين والرقابة لإسكات الإعلام، فإنّ النتيجة الحتمية هي تراجع الثقة العامة وتضييق دائرة النقاش الحر.

ختاما

يُظهر المشهد الإعلامي في إسرائيل اليوم مفارقة حادّة: دولة تقدم نفسها بأنها ديمقراطية، لكنها تمارس مستوياتٍ متزايدة من الرقابة والسيطرة على السرد الإعلامي، خصوصًا في زمن الحرب. وهكذا تحوّل الإعلام الإسرائيلي، بدرجاتٍ متفاوتة، من مراقبٍ للسلطة إلى شريكٍ في صياغة خطابها الرسمي. وإذا استمرّ هذا النهج، فإنّ إسرائيل قد تواجه أزمة ثقةٍ داخلية عميقة، حيث يصبح الإعلام جزءًا من المشكلة لا وسيلةً للحل. إنّ حماية حرية الصحافة ليست ترفًا سياسيًا، بل شرطًا أساسيًا لبقاء أي مجتمع ديمقراطيا. والأمر نفسه ينطبق على المجتمع الإسرائيلي، فحرية الصحافة- كما يراها خبراء ومحللون- شرطا لإسرائيل إذا كانت تريد أن تقدم نفسها دولة ديمقراطية قادرة على مواجهة ذاتها بصدق.

المصادروالمراجع :

– פרסיקו,אורן, מדינת ישראל ירדה 11 שלבים נוספים במדד חופש העיתונות, 02.05.2025

-משה נגבי, בת-חן, פירסט,חופש העיתונאי וחופש העיתונות בישראל : דיני תקשורת ואתיקה עיתונאית“      רעננה ,האוניברסיטה הפתוחה,תשע”א,  2011.

-עיתונות חופשית? זה כתב הוויתור שעליו נדרשים לחתום עיתונאים שנכנסים לעזה

– דוד כהן, עידו,ישראל הידרדרה למקום ה–112 במדד חופש העיתונות העולמי, הארץ, 03 במאי 2025.

-ארגון העיתונאים והעיתונאיות בישראל – הארגון לפעול לחיזוק חופש העיתונות

-ישראלי מיליטרי כנשור בנס היגהסט נאמבר אוף ארטיקלס אין עובר א דכד  +972 Magazine

– ישראל חותמת על חקיקה המגבילה סיקור של עיתונות זרה במצבי לחימה

– משה, נגבי ,חופש העיתונות,תקציר,פרסום מס’ 66, שנת פרסום: 1995.

– Matar, Haggai, Israeli military censor bans highest number of articles in over a decade, May 20, 2024.

– Tamari, Liran, Azulay, Moran, Israel imposes new restrictions on foreign media amid wartime coverage, June 20,2025.

– Cohen, Ido David, ‘Anarchy of Foreign Media Is Over’ Israeli Ministers Say Foreign Media’s War Coverage Is Subject to Military Censorship, June 20, 2025.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version