أظهرت الصين في الآونة الأخيرة اندفاعاً كبيراً نحو تعزيز مكانتها كقوة عالمية، وذلك بعد تحقيقها نمواً اقتصادياً متسارعاً خلال العقود الثلاثة الماضية، مكنها أخيراً من احتلال المركز الثاني على مستوى العالم من حيث حجم الاقتصاد، بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وكشفت الاستخبارات الأمريكية عن سعى الصين لإنشاء قاعدة عسكرية لها بدولة غينيا الاستوائية البلد الصغير الواقع في وسط إفريقيا، موضحة أن تلك الخطوة الصينية من شأنها أن تمنح بكين أول وجود بحري دائم لها في المحيط الأطلسي.
وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال»، بأن المسئولين رفضوا التعليق على هذه المعلومات، وقالوا إن التقارير تثير احتمال أن تصبح السفن الحربية الصينية قادرة على إعادة التسلح، مشددين على أن ذلك تهديد يدق أجراس الخطر في البيت الأبيض والبنتاجون.
لماذا غينيا الاستوائية؟
تتمتع دولة غينيا الاستوائية الواقعة فى وسط أفريقيا بوفرة من الموارد الطبيعية الأكثر قيمة فى العالم، لكن على الرغم من أن البلاد تتمتع «بالثراء الطبيعى»، إلا أنها واحدة من أفقر الدول وأقلها نموًا فى العالم.
تعاني غينيا من عدم الاستقرار السياسى والفساد المستشرى منذ استقلالها عن اسبانيا فى عام ١٩٦٣ وعلى الرغم من ضعف البنية التحتية للبلاد، إلا أن هناك تواجدًا أجنبيًا كبيرًا فى غينيا، فالبلدان الغربية فى الغالب تتنافس على مواردها المعدنية، مثل خام الحديد والتيتانيوم والمنجنيز واليورانيوم والذهب غير المستخلص ومن ثم القدرة على التأثير على حكومة البلاد.
والسبب وراء الشهرة التي اكتسبتها هو اكتشاف البترول الذي ظل غير مكتشف حتى منتصف التسعينيات، وقد زاد إنتاج البترول أكثر من عشرة أضعاف منذ عام 1996، حيث بلغت احتياطيات النفط المؤكدة لدى غينيا الاستوائية 1.1 مليار برميل مع نهاية عام 2020، بحسب المراجعة الإحصائية السنوية لشركة بي بي.
تُعد غينيا الاستوائية مٌصدرًا صافيًا للغاز الطبيعي، وتمتلك 39 مليار متر مكعب من الاحتياطيات المؤكدة، وبلغ إنتاج الغاز الطبيعي في غينيا الاستوائية 6.235 تريليون متر مكعب بنهاية عام 2019، مقارنة مع 30 مليون متر مكعب فقط في عام 2000، بحسب تقرير أوبك السنوي.
يوجد في غينيا الاستوائية حقل ألبا، الذي بدأت شركة ماراثون أويل إنتاج الغاز الطبيعي فيه خلال عام 1991، كما تمتلك الدولة الأفريقية حقل زافيرو لإنتاج النفط والغاز الطبيعي، الذي بدأ في عام 1996.
وفي حقلي ألبا وزافيرو -الواقعين في جزيرة بيوكو- توجد احتياطيات الغاز الطبيعي المؤكدة في غينيا الاستوائية، وفي عام 2005، شهدت غينيا الاستوائية اكتشاف حقل ألين للغاز الطبيعي على بُعد 32 كيلومترًا من الساحل الشرقي لجزيرة بيوكو، وفي مارس 2021، بدأت شركة شيفرون في إنتاج الغاز الطبيعي من حقل ألين البحري، الذي تبلغ احتياطياته نحو 17 مليار متر مكعب، كما يوجد حقل أسينغ للنفط والغاز قبالة ساحل غينيا الاستوائية في غرب أفريقيا، الذي اُكتشف في عام 2007.
وفى حين أن جمهورية الصين الشعبية هى حاليًا المنافس العالمى الرئيسى للولايات المتحدة، فإن بكين ليست الوجود الأجنبي الوحيد فى غينيا.
القواعد الصينية في أفريقيا:
بدأت الصين عام 2016 في بناء أول قاعدة بحرية لها إفريقيا وخارج حدودها في جيبوتي، إذ جاء بداية المشروع الصينى في المعاهدة الأمنية والدفاعية التي تم توقيعها في شهر فبراير 2014 في قاعدة الشيخ عمر في جيبوتي بين الحكومتين الصينية والجيبوتية، وهي المعاهدة التي تتضمن إضافة إلى تأهيل القوات المسلحة والأمنية الجيبوتية، وبناء قاعدة بحرية عسكرية صينية في جيبوتي مقابل إيجار سنوي 20 مليون دولار، بعقد لمدة عشر سنوات ويجدد لفترات مماثلة بعد انتهائه.
واستمرت الشركات الصينية في تنفيذ مشروعاتها وخططها الاقتصادية لتثبيت أقدامها في منطقة جغرافية استراتيجية.
وفى جيبوتي، موّلت الصين عددًا من المشاريع العامة، ومنذ اليوم الأول لتدشين منتدى التعاون الصيني الإفريقي عام 2000، قدمت بكين 16.6 مليون دولار لتمويل المشروعات التنموية في جيبوتي، وقامت بشراء حصص فى ميناء دوراليه مقابل 185 مليون دولار، وتنفق شركات حكومية صينية مبلغ 420 مليون دولار على رفع كفاءة تجهيز الميناء.
وأكدت الصين، فى تصريحات إعلامية، أن قاعدتها بجيبوتى ستقتصر على الخدمات اللوجسيتية لسفنها المدنية والحربية العابرة للمنطقة، حيث إنه مخطط لها أن تحتوي على ورش لصيانة السفن والمروحيات، وإن القوات العاملة بها ستقتصر على بضع آلاف من الموظفين والمهندسين والعمال مع وحدات من القوات الخاصة ومشاة البحرية الصينية لتأمينها أو كنقطة استراحة وتموين للقوات العاملة بالمنطقة، سواء فى مكافحة القرصنة أو لعمليات إنسانية، وتحتل القاعدة مساحة 90 فدانًا، وتتضمن رصيفًا من ميناء دوراليه الجيبوتي.
وعلى أرض الواقع، وبعيدًا عن الإعلام، فالصين تتوقع من وراء تلك القاعدة قيمة استراتيجية وفقًا للأولويات العسكرية للحزب الشيوعي الصيني المسمى بالأوراق البيضاء التي تم إصدارها في مايو 2015، وقد نصت على أن الصين تسعى لامتلاك مبادرات استراتيجية في الصراع العسكري، على نحو يقوم بالتخطيط الاستباقي للكفاح المسلح في كل الاتجاهات والمجالات، واغتنام الفرص لتسريع البناء العسكري.
يجدر الإشارة إلى أن الصين امتلكت في السنوات الأخيرة ربع ميناء جيبوتي، كما أنها شريكة في إنشاء البنية التحتية للموانئ ومنشآت الطاقة والقطارات، ومسئولة عن التجارة الحرة في جيبوتي وإثيوبيا أيضًا.
قاعدة عسكرية صينية جديدة
وبحسب ما نشرته “وول ستريت جورنال”، فإن تقارير استخباراتية أميركية ذكرت أخيراً أن الصين تعتزم إنشاء قاعدة عسكرية في غينيا الاستوائية (شرق أفريقيا)، لتكون الأولى لها في هذه المنطقة، والثانية لها في القارة الأفريقية.
وأن هذه الخطوة ستمنح بكين أول وجود بحري دائم لها في المحيط الأطلسي، بالاشارة إلى أن المعلومات الاستخباراتية الأميركية، ترجح احتمال امتلاك تلك القاعدة سفناً حربية صينية قادرة إعادة التسليح وإجراء أعمال الصيانة، مقابل الساحل الشرقي للولايات المتحدة، ما يشكل تهديداً يثير مخاوف البيت الأبيض والبنتاجون.
وبكين تستهدف في غينيا الاستوائية، عاصمتها الاقتصادية “باتا”، التي تضم ميناءً تجارياً صينياً في مياه خليج غينيا، بالإضافة إلى طرق سريعة تربط المدينة بدولة الجابون المحاذية، وأفريقيا الوسطى.
في المقابل، ووفق ما أوضحته “وول ستريت جورنال”، فإن واشنطن تحركت في الأشهر الأخيرة لإقناع الدولة الأفريقية برفض المطالب الصينية، وهو ما تم خلال زيارة نائب مستشار الأمن القومي الأميركي، جون فاينر، لغينيا في أكتوبر الماضي، ونقلاً عن مسؤول أميركي بارز، قوله، إنه “في إطار جهودنا الدبلوماسية لمعالجة قضايا الأمن البحري، أوضحنا لغينيا أن بعض الخطوات المحتملة التي تتعلق بنشاط صيني هناك تثير مخاوف تتعلق بالأمن القومي”.
وتتمثل مخاوف أمريكا أن الميناء سيكون أكثر من مجرد ميناء للتوقف والحصول على الوقود والخضراوات، حيث ستتيح للصين إمكانية إعادة التسلح بالذخائر وإصلاح السفن البحرية.
ويمكن رصد الدوافع الرئيسة وراء قرار بكين بإنشاء قواعد عسكرية لها في افريقيا على النحو التالي:
المصالح الاقتصادية في إفريقيا
تشهد القارة السمراء سباقاً محموماً بين الدول الكبرى للحصول على امتيازات للاستثمار في أسواقها الناشئة ولاستغلال ثرواتها الكبيرة، أهمها القوى الاستعمارية السابقة كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا، إضافة إلى الولايات المتحدة.
ومنذ عام 2007، أخذ الاستثمار الخارجي المباشر للصين يتصاعد بشكل كبير، ورغم التأثير السلبي لجائحة «كوفيد-19» على الاقتصاد والتجارة حول العالم، فقد ارتفع حجم الاستثمار الصيني داخل القارة الأفريقية خلال سنة 2020، إذ قُدر بـ2.96 مليار دولار، بزيادة قدرها 9.5% مقارنة مع 2019، بحسب التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأفريقيا لسنة 2021، الصادر في سبتمبر.
وتعد الاستفادة من الموارد الطبيعية والأراضي الزراعية، وإنشاء مصانع تقربها من السوق الأفريقية، وتخلصها من القيود التي تفرضها مجموعة من الدول على منتجاتها الصينية، ونشر الثقافة الكونفوشيوسية، وإنشاء البنى التحتية، وبيع الأسلحة، وغيرها، كلها أسباب تجعل الصين مهتمة بالاستثمار وإنشاء قواعد عسكرية في القارة الأفريقية.
وبحسب وكالة «ماكنزي» الأمريكية، فمن المتوقع أن تبلغ قيمة الأرباح المالية، التي تحققها الصين في القارة الأفريقية 440 مليار دولار بحلول سنة 2025، كما كشفت الوكالة نفسها عن أن عدد الشركات الصينية العاملة في أفريقيا يفوق الـ 1000 شركة.
أورد التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأفريقيا لسنة 2021، الصادر في سبتمبر الماضي، أنه تم إنشاء 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 بلداً أفريقياً، وأن تلك المناطق استطاعت، حتى نهاية سنة 2020، جذب 623 شركة، باستثمارات إجمالية تقدر بـ7.35 مليار دولار، وخلقت أزيد من 46 ألف فرصة عمل في الدول الأفريقية المعنية.
وعلى مستوى التجارة الثنائية، فقد استطاعت الصين، في عام 2020، أن تبقى أفضل شريك تجاري لأفريقيا، وهو الوضع الذي ظلت الصين تنتزعه لمدة 12 سنة متتالية.
وبلغت قيمة التجارة الثنائية بين الصين وأفريقيا 187 مليار دولار خلال سنة 2020، و139.1 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من سنة 2021، بارتفاع قدره 40.5%، مقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية، بحسب التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأفريقيا لسنة 2021.
منح هذا الوجود الاستثماري الكبير للصين في المنطقة المفتاح لدخول جيبوتي وكذلك غينيا من بوابة الاقتصاد، قبل الإقدام على خطوة إنشاء قواعد عسكرية .
منافسة القوى الكبرى
تظهر الصين منذ عام 2014 رغبة حثيثة بمنافسة الدولة الكبرى على مستوى العالم، فقد اعتبرت بكين توجه الولايات المتحدة نحو تعزيز وجودها العسكري في شرق وجنوب شرق آسيا تهديداً لها، الأمر الذي اتخذته ذريعة لتتحرك عسكرياً في منطقتي بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي.
لم تتوقف الصين عند تحد الولايات المتحدة في بحري الصين الشرق والجنوبي، حيث أعلنت عن استراتيجية بعيدة المدى لمزاحمة واشنطن وموسكو في مجال الفضاء، علاوة على سعيها للعب أدوار مهمة في ملفات دولية، خصوصاً في الشرق الأوسط.
ولم يخل اختيار بكين لموقع قاعدتها العسكرية في جيبوتي من ذلك التحدي، حيث يوجد بالفعل في ذلك البلد الصغير قواعد عسكرية كبيرة لكل من أمريكا وفرنسا، علاوة على وجود مركز عسكري لليابان، الغريم التقليدي للصين.
وقد أثار قرب موقع القاعدة الصينية من القاعدة الأمريكية في جيبوتي، الأكبر في إفريقيا، حفيظة أوساط أمريكية، حيث لا تتجاوز المسافة بين الموقعين 8 أميال (12.9 كيلومتر).
وكذلك إذا تم تأكيد إنشاء الصين قاعدتها العسكرية في غينيا سيكون على السياسة الأمريكية الإجابة على سؤال كيفية التعاطي مع الخطوة الصينية، ومع أبعادها وخلفياتها، وما سيتلوها من خطوات، تسعى بكين من خلالها لتعزيز موقعها كقوة كبرى، على حساب قوى تقليدية، أهمها الولايات المتحدة الأمريكية.