منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كثفت الحكومة التركية جهودها من أجل التواصل مع مختلف الأطراف الدولية الفاعلة في الأزمة للعمل على حلها، والتي يمكن إيجازها في التالي:
- تواصل الرئيس التركي هاتفياً مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج، والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وشيوخ دول الإمارات وقطر، ورئيس الوزراء اللبناني.
- قيام وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، بالتواصل مع نظرائه في دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة والسعودية، وقطر، ومصر، وإيران. وقد شملت الاتصالات التركية أيضاً قادة حركة حماس، بتوجيهات مباشرة من الرئيس التركي، في محاولة منها للتفاوض والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس منذ بداية الأزمة في 7 أكتوبر الماضي.
- زيارة وزير الخارجية التركي لعدة دول عربية بدأً بمصر ثم لبنان والمملكة العربية السعودية، حيث التقى خلال زيارته لها بنظرائه من سفراء دول منظمة العالم الإسلامي، لبحث تطورات الأزمة الراهنة.
- شارك وزير الخارجية التركي، ممثلاً عن بلاده في قمة القاهرة للسلام والتي أكد خلالها للمرة الثانية عن توافق الموقف التركي المصري تجاه القضية الفلسطينية. لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع وزير الخارجية التركي، خلال زيارته لمصر.الموقف التركي:
يمكن أن نقسم تحولات الموقف التركي تجاه التصعيد على غزة على النحو التالي:
- يمكن أن نطلق على الموقف الأولي لتركيا، تجاه التصعيد الواقع بين حركة حماس وإسرائيل بـ “موقف محايد”، بالنظر لمواقف تركيا السابقة بين إسرائيل وحماس في مواجهات 2014، و2021، والتي أعلنت فيهما تركيا دعمها الكامل للجانب الفلسطيني وحماس.
- قد يعتقد البعض أن “حياد” الخطاب التركي منذ بدء الأزمة قد خرج عن مساره بعض الشيء عقب حادثة مستشفى الأهلي المعمداني، وما تبع ذلك من تكثيف الغارات الجوية الإسرائيلية، والتي أودت بحياة أكثر من 500 شخص، حسب بيانات السلطات الصحية في غزة. إلا أن الدبلوماسية التركية والتي تدعم حل الدولتين، تميزت منذ بداية الأزمة بلهجتها المحايدة جداً، فمثلاً لم توجه تهم الإدانة لأي من طرفي النزاع، وإنما اكتفت بتصريحات تؤكد إدانتها للخسائر في أرواح المدنيين، وتوضح أنها على اتصال مع جميع الأطراف المعنية للمساعدة في إنهاء الصراع، والعمل على فتح ممرات آمنة للمدنيين.
في الوقت نفسه بادرت تركيا بإرسال التالي:
- ست طائرات محملة بمساعدات ومواد إغاثية إلى مطار العريش، تمهيداً لعبورها لقطاع غزة.
- إرسال فريق طبي مكون من 20 طبيبًا في مختلف التخصصات للمعاونة في علاج مصابي غزة داخل مستشفيات شمال سيناء في حال تم الاتفاق على نقل المصابين خارج غزة.
- تحول الموقف التركي منذ 28 أكتوبر الماضي، بإعلان الرئيس التركي، صراحة أن ما ترتكبه إسرائيل تجاه المدنيين في غزة ما هو إلا “جريمة حرب”، كما لم يقتصر التحول في الموقف التركي على الخطاب الرسمي للدولة وإنما امتد إلى:
- إيقاف خطط التنقيب المشترك بين البلدين في البحر المتوسط، وذلك من خلال الغاء زيارة وزير الطاقة التركي لإسرائيل والتي كان من المفترض أن تتناول تنمية التعاون بين البلدين في مجال الطاقة.
- إيقاف التعاون المشترك لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، – كان من المخطط ربط تركيا بخط الغاز الإسرائيلي الحقل البحري “ليفيا ثان” ومنه إلى دول جنوب أوروبا لتقليل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي بعد نقص الإمدادات الروسية منه على خلفية الأزمة الروسية الأوكرانية -.
الداخل التركي:
تولي الصحف التركية والمجتمع التركي تطورات الموقف والتصعيد العسكري الإسرائيلي في غزة اهتماماً كبيرًا منذ بدء التصعيد. وفي الوقت الذي ينظم فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم، تظاهرة كبيرة في اسطنبول السبت المقبل 28 أكتوبر الماضي، واجهت قوات الأمن التركي تظاهر الألاف أمام السفارة الإسرائيلية في أنقرة، وأمام القنصلية الإسرائيلية في اسطنبول معلنين رفضهم للتصعيد الإسرائيلي، بتحذيرات شديدة حتى أنها لجأت لغاز الفلفل لفض هذه التظاهرات.
تلك المظاهرات لم تقتصر على أنقرة وإسطنبول فقط، بل امتدت لمختلف الولايات التركية التي لم تكتف بإدانة العدوان الإسرائيلي، بل طالب المتظاهرين فيها بذهاب قوات فرقة “الجيش المحمدي” إلى القدس لدعم أشقائهم الفلسطينيين.
المعارضة التركية:
انتقدت المعارضة التركية سياسات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حيال الموقف في فلسطين، وأعلنت الأحزاب المعارضة جميعها رفضهم للتصعيد الإسرائيلي في غزة. إلا أن موقف بعض هذه الأحزاب شهد تراجعًا، بعد دعوة دولت بهتشالي رئيس حزب الحركة القومية وحليف أردوغان بضرورة التدخل العسكري التركي في حال لم تتراجع إسرائيل عن موقفها خلال 24 ساعة. دعوة بهتشالي لاقت قبولاً من كلاً من أحمد داوود أوغلو رئيس حزب المستقبل وكرم تمل الله أوغلو رئيس حزب سعادات المعارضين وأعضاء الطاولة السداسية.
ملاحظات هامة:
- عكست مواقف وتقديرات الجانب التركي حرصه على التواجد بالقرب من عناصر التأثير في الأزمة الموقف الإسرائيلي، مع إدراكها بضرورة الاعتماد على مصر خلال الفترة الراهنة كونها موجودة بالفعل على خط الأزمة بين الجانبين الأمريكي والفلسطيني، ولديها حدود برية مع غزة، حيث أوضحت تحركاتها نحو مصر التي زارها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان 13 أكتوبر الماضي، والتي استغرقت يومين أكد خلالها الجانب التركي على ما يلي:
- محورية دور مصر في الحفاظ على استقرار المنطقة.
- وقوف تركيا إلى جانب مصر في رفض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.
- رفض ممارسات إسرائيل في إنشاء المستوطنات غير الشرعية، والتصعيد في القدس والمسجد الأقصى، والاعتقال غير المبرر، والتي تؤدي لتعميق الاحتلال، والتوافق مع الموقف المصري باعتبار أن الحل الوحيد هو إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة قائمة على اتفاق حدود عام 1967م، وعاصمتها القدس الشريف.
- تسعى تركيا بكل دأب للعمل على نزع فتيل الأزمة والحيلولة دون تطور الصراع، في ظل تطورات الأوضاع السائدة والتي لا تصب في مصلحتها على النحو التالي:
- الأوضاع الاقتصادية الحالية لتركيا، لا تتحمل أي تأزم إقليمي محتمل.
- مصلحتها الإقليمية مع دول جوارها العربية الإسلامية وموقفها المعلن من دعم القضية الفلسطينية.
- تمتلك تركيا علاقات طبية مع إسرائيل والتي استعادتها منذ فترة وجيزة؛ وخوفاً على المصالح الاقتصادية والعسكرية القديمة – الجديدة مع إسرائيل، خاصة وأن الرئيس التركي يسعى إلى إنشاء علاقة وطيدة مع نتنياهو وتحالفه اليميني من أجل تأمين موافقة إسرائيلية على السماح لتركيا بأن تلعب دورًا مهمًا في نقل غاز شرق المتوسط عبر أراضيها، وليس عبر أيّ دولة أخرى، وهو ما أشار إليه الرئيس أردوغان في أكثر من مناسبة.
مستقبل العلاقات التركية الإسرائيلية، واحتمالات الواسطة التركية:
- رغم أهمية تركيا الإقليمية وبالرغم من العلاقات الجيدة بين الدولتين إلا أنه من الواضح إسرائيل -التي طالبت رعاياها وهيئتها الدبلوماسية بمغادرة تركيا في 19 أكتوبر الماضي- لن تمنح تركيا دوراً كبيراً في عملية الوساطة في الوقت الحالي، لأنه سبق لتركيا أن رفضت الضغوط الإسرائيلية لطرد عناصر حركة حماس المتواجدين على أراضيها وإغلاق مكتبها هناك، وإعلانها حركة “إرهابية”.
- يرتبط استمرار العلاقات التركية الإسرائيلية على القرار الإسرائيلي بوقف التصعيد والجلوس إلى طاولة المفاوضات، وفي حال استمر الرفض الإسرائيلي فإن القطيعة بين الدولتين مؤكدة نتيجة للتحولات الأخيرة في خطاب الحكومة التركية.
ختاماً:
تحاول تركيا التي توجه تصريحاتها الحالية نحو الولايات المتحدة والغرب إلى إيجاد حل مشترك ونزع فتيل الأزمة في المنطقة، من خلال إيجاد مخرج لاستمالة الغرب الداعم لإسرائيل من خلال التالي:
- إعلان تركيا قبول عرض مشروع قرار الموافقة على انضمام السويد لحلف الناتو على البرلمان التركي، بعد أشهر طويلة من المماطلة.
- يعد إشراك تركيا لإيران الداعمة لحماس وحزب الله في دائرة التباحث العلني حول الموقف في غزة، ما هو إلا رسالة واضحة للولايات المتحدة، عما يمكن أن يؤول إليه الوضع في حال استمر الدعم الأمريكي المقدم لإسرائيل، خاصة وأن إيران لوحت بالفعل عن سياستها تجاه التمادي الإسرائيلي الأمريكي.