تُعد الصومال بموقعها الجيوستراتيجى هدفاً بل مَطمعاً للعديد من القوى الدولية والإقليمية ، ويزيد من تعقيد الموقف الوضع الأمنى غير المستقر فى الصومال . ولتوضيح مدى أهمية الصومال فى الوقت الراهن فلابُد من الإشارة إلى ما يُعرف “بالمُقاربات الإستراتيجية” :
المُقاربة الأولى: تُعتبر الصومال هى الجانب المُقابل لليمن (المُسيطر على بعض سواحلها من قِبَل جماعة الحوثى) ، وهو المكان الذى تُركز القوى الدولية على تخفيض حجم التهديد الصادر منه تجاه إسرائيل منذ بدء أزمة غزة فى أكتوبر 2023 ، لذلك نجد تضافر جهود الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا فى توجيه ضربات جوية مشتركة للحوثيين.
المُقاربة الثانية: الصومال هى المجال الحيوى الأكثر مناسبة لإثيوبيا لتنفيذ سياساتها أحادية الجانب وفرض الهيمنة بل والتعدى على مقدرات الشعوب ، ولعل هذا برز من خلال تدشين أثيوبيا لقوات بحرية وهى دولة حبيسة (بدعم دولى)، أعقب ذلك توقيع إتفاق مع أرض الصومال لإستغلال ميناء بربرة كنافذة تجارية وقاعدة عسكرية ، أى أنَّ أثيوبيا تُحاول فرض أمر واقع (لايتسق مع طبيعتها الجغرافية كدولة حبيسة) بإستغلال الأراضى الصومالية.
لذلك يُمكن القول أن إثيوبيا دشنت لمفهوم جديد وهو ما أطلقنا عليه إصطلاحاً (الإحتكار الإستراتيجى) بل وتسعى لترسيخه فى إقليم شرق أفريقيا بشكل عام وفى الصومال بشكل خاص ، ونعنى بهذا المصطلح أنَّ إثيوبيا ترى أن التعاون الإستراتيجى مع الصومال هو حِكراً عليها فقط.. وهذا الأمر برز جلياً فى ردود أفعالها المضطربة وغير المنضبطة تجاه الصومال بعد إعلان مصر عن مشاركتها فى بعثة حفظ السلام التابعة للإتحاد الأفريقى فى الصومال ، ولكى نفهم المشهد بشكل واضح لابد من أن نجاوب عن عدة أسئلة :
السؤال الأول – ما هى أبرز المتغيرات الإستراتيجية فى الصومال ؟
أرشيفية
المتغير الأول – هو وصول الرئيس “حسن شيخ محمود” للسلطة والذى سبق أن حكم الصومال وهو معروف بعدم رضوخه للضغوط الإثيوبية التى يُمارسها النظام الحاكم الأثيوبى تجاه دولة الصومال بإستغلال الأوضاع الداخلية غير المُستقرة فى الصومال بهدف الهيمنة على مُقدّرات الشعب الصومالى (فعلى سبيل المثال لا الحصر أثيوبيا مازات مُحتلة لإقليم أوجادين الصومالى ، ومازالت تتحكم فى مياه نهرى “جوبا وشبيلى” شُريانَىّ الحياة للصوماليين) .
المتغير الثانى – هو إدراك القيادة السياسية الصومالية لخطورة الممارسات الإثيوبية على الأمن القومى الصومالى ، فرفضت مقديشيو الإتفاقية التى وقعتها إثيوبيا مع أرض الصومال والتى تتضمن حق إثيوبيا فى إستغلال ميناء بربرة بأرض الصومال والذى يسيطر على منطقة جنوب البحر الأحمر وباب المندب . وقد أدّى التحرك الإثيوبى إلى توتر فى العلاقات الصومالية / الإثيوبية مما إستدعى وساطات بعض القوى الإقليمية ، وهذا ما ينقلنا للسؤال عن الدور الإقليمى فى ذلك.
السؤال الثانى – ما هى أبرز أدورا القوى الإقليمية تجاه المُتغيرات فى الصومال ؟
تعددت أدوار القوى الإقليمية وأهدافها تجاه الصومال وسنكتفى هنا بالإشارة إلى بيان جامعة الدول العربية الرافض للتدخل الإثيوبى فى الشئون الداخلية للصومال مع التأكيد على وحدة أرض الدولة العربية ، بجانب كلاً من الدور التركى والإماراتى ، والقاسم المشترك هنا هوالعلاقات القوية بينهما مع إثيوبيا لذا سمحت إثيوبيا بتعزيز تواجدهما فى الصومال :
1 – تركيا – يُمكن تصنيف الدور التركى أنه الأبرز على الساحة الصومالية ، فتركيا لها عدِّة أشكال من التواجد فى الصومال [عسكريا / قاعدة التدريب – إقتصاديا / إنشاء عدد من المستشفيات وتنقيب عن البترول – سياسياً / من أكبر البعثات الدبلوماسية فى الصومال] . ومِن هذه المُنطلقات بادرت تركيا بالوساطة بين أثيوبيا والصومال وعقدت عدة إجتماعات بين وزراء خارجية الدولتين لتقريب وجهات النظر . ومؤخراً طلب الرئيس التركى “رجب طيب” من برلمان بلاده التصديق على نشر قوات بحرية على السواحل الصومالية .أما عن العلاقات التركية الإثيوبية فيكفى الإشارة إلى توقيع بروتوكول تعاون عسكرى عام 2021 فضلاً عن دعم تركى لإثيوبيا فى مجالات متعددة .
2 – الإمارات – تتفاوت قوة الدور الإماراتى من فترة لأخرى ، فخلال السنوات السابقة كانت الإمارات (صاحبة كبرى السفارات والبعثات الدبلوماسية فى مقديشيو) هى الرقم الصحيح فى المعادلة الصومالية ، فقدمت العديد من المساعدات الإقتصادية بسخاء ، كما أنها أنشأت مركزاً لتدريب القوات المسلحة الصومالية (يتشابه فى المهام مع الجانب التركى” وقد تم إيقافه بعد توتر العلاقات”). وفى فترات أخرى تراجع هذا الزخم لبعض الخلافات متعددة الأبعاد (منها ميل الرئيس الصومالى السابق “فرماجو” للدعم القطرى بديلاً عن الإمارات ، وإتهامات بتدخل الإمارات فى الشأن الصومالى) ، ولعل بروتوكول التعاون العسكرى الذى وقعته البلدين فى 2023 دليل على عودة العلاقات ، فضلاً عن إعادة تشغيل مركز التدريب السابق الإشارة إليه. أما عن العلاقات الإثيوبية الإماراتية فنشير لمجموعة من الأرقام (تجاوز الإستثمارات الإماراتية فى أثيوبيا “3” مليار دولار – تقديم الدعم المالى يتجاوز “5” مليار دولار – بلغ التبادل التجارى نحو “2” مليار دولار).
السؤال الثالث – هل للقوى الدولية رؤية بشأن الصومال ؟
تتنافس القوى الدولية بشكل عام على الممرات البحرية فى العالم ، وتعتبر منطقة القرن الأفريقى المتحكمة فى إتصال البحرين الأحمر والمتوسط (قلب العالم القديم ومحور التجارة بين القارات) ، لذا برز إهتمام المعسكرين الشرقى “الصين وروسيا” والغربى “الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا” بالتواجد الميدانى فى هذه المنطقة الهامة ، فنجد قواعد عسكرية فى جيبوتى للصين والولايات المتحدة الأمريكية ، كذا تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم العديد من البرامج العسكرية التدريبية للقوات الصومالية وتساهم فى تمويل بعثة الإتحاد الأفريقى بالصومال “الأميصوم” ، مقابل تدشين الصين ما يُعرف بمبادرة الحزام والطريق التى تمر من منطقة القرن الأفريقى . كما تجدر الإشارة إلى سابق إنشاء روسيا لقاعدة عسكرية جوية فى أرض الصومال (وقامت بإخلائها منذ سنوات طويلة ولكنها ترى أن لها أهمية إستراتيجية بالغة لذا تحاول التواجد فى منطقة البحر الأحمر بأى شكل من الأشكال ، وهذا الفهم هو ما دفعها لتوقيع إتفاقية مع السودان لتدشين قاعدة لوجيستية على البحر الأحمر). إذاً فالجميع يرى الصومال ذات أهمية إستراتيجية ولكن طرق التعاون والتواجد تختلف وفقاً لمنظور كل طرف .
السؤال الرابع – ماذا بعد ، وما هى السيناريوهات المتوقعة؟
تتعدد السيناريوهات المُحتملة لتطورات الموقف فى الصومال ، ولعل ترجيح أى سيناريو على الآخر يتوقف على شكل وأسلوب كلاً من الصومال وأثيوبيا والأطراف الفاعلة على إختيار التحركات الأنسب ، ولعل أبرز هذه السيناريوهات – الآتى:
السيناريو الأول – إستمرار إثيوبيا فى سياساتها أحادية الجانب لترسيخ مفهوم (الإحتكار الإستراتيجى) – من خلال محاولة إستخدام كافة أوراق الضغط التى تمتلكها تجاه الصومال لعزلها عن المحيط العربى والأفريقى والإستمرار فى إستنزاف مقدراتها ، وقد ظهر هذا جلياً فى قيام إثيوبيا بـالسيطرة على عدة مطارات صومالية دون التنسيق مع الصومال وكأنها أرض أثيوبية ، فضلاً عن سحب قواتها من خط المواجهه مع جبهة تحرير تيجراى الإثيوبية وحشدها تجاه الحدود الصومالية ، هذا بخلاف التصريحات غير المتزنة للمسئولين الإثيوبيين ، وتعيين سفيراً لها فى أرض الصومال .
السيناريو الثانى – تنامى الإدراك الصومالى لمخاطر التوجهات الإثيوبية وإعادة سيطرته على المُقدرات الصومالية التى تحتكرها إثيوبيا- وتوجد العديد من المؤشرات التى تؤكد إختيار مقديشيو لهذا السيناريو، بدءاً من رفض الصومال للإتفاق الإثيوبى مع أرض الصومال وصولاً للإنفتاح على تنوع العلاقات مع القوى الإقليمية المختلفة وعدم إقتصارها على إثيوبيا. كما يمكن إضافة التقارب المصرى التركى ،حيث شهدت العلاقات التركية المصرية نوع من أنواع الإتساق فى الرؤى الإستراتيجية (تبادل الزيارات الرئاسية – توقيع العديد من الإتفاقيات وتدشين مجالات جديدة للتعاون) ، وبالطبع كانت رؤية البلدين فى أهمية إستقرار الصومال على قمة الأولويات المُشتركة ، وصولاً إلى القمة الصومالية / المصرية / الإريترية ، التى عُقدت فى أسمرة يوم 10 أكتوبر 2024 والتى بلورت موقفاُ إقليمياً موحداً فى مواجهة التدخلات الإثيوبية.