أعلن ثلاثة من كبار قادة الموساد الإسرائيلي استقالتهم من منصبهم يوم 12 نوفمبر الماضي بعد شهور قليلة من تولي ديفيد برنيع رئاسة جهاز الموساد، خلفًا ليوسي كوهين. وقد اثارت الاستقالات الجماعية عدة تساؤلات لدى الرأي العام، كما أحدثت ضجة داخل جهاز الموساد نفسه، خاصة أن سياسة إسرائيل تجاه بعض الملفات الخارجية وتعاملاتها في الفترة الأخيرة، بعد وصول نفتالي بينيت للحكم، وبعده جو بايدن في الإدارة الأمريكية، جعلت الأمور تسير بشكل مغاير لما كانت عليه إبان فترة حكم بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، وكذلك الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب.
ماذا يحدث داخل الموساد؟
بداية المستقيلون الثلاثة من مناصبهم هم “رئيس قسم التكنولوجيا، ورئيس قسم مكافحة الإرهاب، ورئيس قسم تسوميت “قسم تجنيد العملاء داخل الموساد الإسرائيلي” وهو القسم المركزي في الجهاز، المسؤول عن تشغيل العملاء، مع احتمالات إقدام مسؤولون أخرون على نفس الخطوة مثل مسؤول قسم ” الحروب الاستراتيجية” في الموساد، نفس الأمر متوقع حدوثه مع 4 إلى 5 نواب رؤساء إدارات، والسبب رغبة رئيس الموساد في إحداث تغيير دراماتيكي داخل الجهاز، حيث يرى أن تلك الشخصيات لن تكون مواكبة للتغيرات التي يريدها في سياسته المقبلة لقيادة الموساد.
أحدثت الاستقالات السابقة ضجة وهزة داخل الموساد، وهو ما تحدث عنه المحلل العسكري الإسرائيلي “ألون بن دافيد” ووصف تلك الاستقالات ومغادرة هؤلاء لمناصبهم بالـ “مغادرة مدوية”، ويرى بن دافيد أن تلك الاستقالات ستحدث ضجة وخسارة على المستوى المستقبلي داخل جهاز الموساد، وعلى النقيض، فقد قلل البعض من تبعات تلك الاستقالات، ويرى أن أثرها لن يطول داخل الموساد، وتأتي في اطار ضخ دم جديد، وفي ظل رؤية جديدة يريد ريس الموساد تقديمها، وهو ما يحدث داخل أجهزة سيادية أخرى مثل الجيش وغيره، وأنه ليس بالضرورة أن تؤثر تلك الاستقالات بالسلب على الموساد وأنشطته، حتى أن يوسي ملمان المحلل الإسرائيلي الشهير يرى أن ما حدث زوبعة في فنجان، ولا يجب وصفه بالهزة العنيفة، مشددا على أن دافيد برنياع سيضع السياسة التي تخدم توجهات إسرائيل المستقبلية، وانه عازم على إجراء تغييرات واصلاحات جوهرية داخل الموساد[1]، ووصف “ايتمار ايخنر” المحلل العسكري الإسرائيلي ما حدث بأنه قرارات شجاعة لرئيس الموساد من أجل الرغبة في كسر الجمود داخل الجهاز، وكذلك الرغبة في مواجهة تحديات الملف النووي الإيراني.
إقالة أم استقالة؟
من خلال تتبع الأحداث والسياسات الأمريكية الإسرائيلية في السنوات الست الماضية، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الملف النووي الإيراني، كان لجهاز الموساد الإسرائيلي باع في التعاطي مع الملف النووي الإيراني، لما يمليه من سياسات ويضع الملفات أمام صانع القرار الإسرائيلي لاتخاذ اللازم، ومنذ 2015م وما قبلها بقليل حتى اليوم، مرت إسرائيل بعدة محطات فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني والتعامل معه، وكان هذا الأمر بالتنسيق مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ففي 2015م وقعت الولايات المتحدة الأمريكية اتفاقها الشهير مع إيران المسمى باتفاق 5+1 والموقع في فيينا، ووقتها برر باراك أوباما بأن الاتفاق يجنب الشرق الأوسط نشوب حرب كبيرة ويمنع طهران من حيازة سلاح نووي، وقتها اعترض نتنياهو بشدة وهاجم إدارة أوباما بل طالب العالم بأسره بالتصدي لهذا الاتفاق لأن إيران غير صادقة وتسعى لامتلاك سلاح سيدمر الشرق الأوسط، وبعدها بعام حاول أوباما استرضاء إسرائيل، فقدم لها في 2016م أكبر قدر من المساعدات، فصادق على منح إسرائيل المساعدات لم تحصل عليها أيّة دولةٍ أخرى: 3.7 مليار دولار سنويًا على مدار عقدٍ من الزمن، وكان التفسير هو تقوية جبهة إسرائيل ضد إيران وكل وكلائها، في محاولة لاسترضاء تل أبيب الغاضبة على اتفاق أمريكا وطهران، إلى أن ألغى الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب هذا الاتفاق.
وصف بنيامين نتنياهو حينها الانسحاب الأمريكي بأنه انتصار، وبعدها أعلن الموساد عن عملية ناجحة تخص سرقة أوراق الملف النووي الإيراني، وأكد نتنياهو أن الوثائق تتجاوز خمس آلاف وثيقة، وكان الثناء حاضرًا على دور الموساد، وهنا مر الملف النووي بمرحلته الثانية، قبل أن يأتي جو بايدن والذي يمثل اتجاهات أوباما نفسها، فكلاهما ينتمي للحزب الديمقراطي، لفتح ملف إعادة الاتفاق او إحياء الاتفاق كما يسميه البعض.
فكرة إعادة احياء الاتفاق النووي مع إيران تحتاج قبول إسرائيلي، خاصة داخل الموساد الذي قاد عملية قرصنة وسرقة ملفات إيران النووية، وذلك بمساعدة أقسام عديدة وإدارات مختلفة بالجهاز، منها قسم التكنولوجيا، والذي استقال مديره، بالتالي فإن قادة الموساد ومنهم الثلاثة المستقيلون عايشوا فترة الملف النووي في مرحلة الاتفاق أيام أوباما ومرحلة إلغاء الاتفاق أيام ترامب، وخلال الحدثين كان نتنياهو على سدة الحكم في إسرائيل، وبالتالي فإن تنفيذ سياسات جديدة، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لاحياء الاتفاق، تحتاج مرونة، ويلزمها استعداد لقبول وضع جديد تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان التغير الدراماتيكي هو تلويح إسرائيل في ظل حكومة نفتالي بينيت الحالية بقبول اتفاق نووي مع إيران، وهو أمر لم يحدث إبان حكم نتنياهو، وفي هذا الصدد قال وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس في مقابلة أجراها مع مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية بأن بلاده يمكنها التعايش مع اتفاق دولي مع إيران بشأن برنامجها النووي، كما أعلن بينيت أنه يتبنى سياسة “التقارب المرن” مع الحليف الاستراتيجي وهو واشنطن، مؤكدًا على ثقته في إدارة بايدن تجاه هذا الملف، وأنه لن يحدث أمر مفاجئ يضر إسرائيل.
خلاصة هذا التتبع لموقف الموساد والإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية، يؤكد أن دافيد برنيع ينفذ سياسة التخلص من أي شخص أو إدارة قد تعوق التوصل لاتفاق تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لإحياء الاتفاق النووي من جديد، كما أن بعض المحللين يرون أن المستقيلين كانوا من رجال يوسي كوهين المقربين، وهو من المقربين كذلك لنتنياهو، بالتالي فإن وجودهم أمر قد يعوق سياسات واتفاقات جديدة، أو أن ولاءهم لنتنياهو.
الخلاصة
ونرى من خلال تحليلنا السابق أن قادة الموساد المستقيلين ربما أجبروا على ذلك، او بمعنى أوضح أقيلوا، لأنهم لن يجدوا نفعًا في ظل التوجه الجديد للمهادنة مع إيران بقيادة أمريكية، لذلك يجب أن يكون القادة الجدد موالين ومرنين في تنفيذ ما تمليه الإدارة الأمريكية على الحكومة الإسرائيلية بقيادة بينيت، والموصوفة بالحكومة الهشة التي تنفذ ما تمليه عليها الإدارة الأمريكية الحالية.
من المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة هدوءً نسبيا في عمليات الموساد، خاصة في حربه ضد إيران، من نوعية حروب القرصنة والجيل الرابع والخامس، حيث إن الإدارة الأمريكية لا تريد مفاجآت، ومن ثم حرصت إدارة بايدن على تحذير تل أبيب بقمن قيام الموساد بأية عمليات يمكن أن تجهض المحاولات الأمريكية لإتمام الاتفاق النووي، خاصة أن هناك مباحثات جديدة تجرى هذه الأيام في فيينا، ولا تريد الولايات المتحدة أي عمليات سرية للموساد قد تفسد ما تريده إدارة بايدن، ومن المتوقع مثول الموساد والحكومة الإسرائيلية للتعليمات الأمريكية.
[1] للمزيد راجع: https://www.ynet.co.il/news/article/b1l251sdy