يكشف ضبط النفس الذى مارسته مصر خلال الجولات المتعددة لمفاوضات سد النهضة مدى تفهمها لمجمل الظروف التى تحيط بالنظام الإثيوبى، إلا أن تزامن عملية الملء الأول مع تصعيد بعض الأطراف الإقليمية لملفات تؤثر أيضاً على الأمن القومى بهدف الحصول على تنازلات مصرية مؤلمة، قد ضاعف من حجم التحدى الذى يحيط بمصر وحوّله إلى تهديد، وضعًا فى الاعتبار أن قضية سد النهضة تكتسب أهميتها من ارتباطها بعامل أكثر حيوية وهو عامل بقاء الدولة، وهنا يجب أن نشير إلى أن أجهزة ومؤسسات الدولة تدير تلك الأزمة باحترافية بالغة وبشكل شبه منفرد بعد انشغال الحلفاء التقليديين لمصر بالظروف المستجدة والمتلاحقة التى فرضتها سواء أزمة كورونا وما نتج عنها من أزمة اقتصادية انسحبت على أسعار النفط العالمية وأدت لانشغال دول الخليج بتداعيات ذلك التطور، أو إعادة الولايات المتحدة الأمريكية ترتيب أولوياتها عقب توتر الأوضاع الداخلية على خلفية سوء إدارتها لأزمة كورونا أو الإضطرابات الأمنية التى إنتشرت بعدة ولايات بجانب قرب حلول الإنتخابات الرئاسية، وذلك رغم سابق تبنى “ترامب” المفاوضات ورعايته الشخصية لتسوية الأزمة، وما استتبع ذلك من لزوم تغيير مصر لإسلوب إدارتها للملف بشكل سريع وتوجهها لمجلس الأمن الدولى، بجانب إشراك فاعلين ومراقبين جدد فى جولات المفاوضات الجديدة بعد إستئنافها، خاصة جامعة الدول العربية والمفوضية الأوروبية والاتحاد الإفريقى الذى تمثله دولة جنوب إفريقيا رئيس الدورة الحالية.
* وهنا يجب توجيه رسالة لكل المتابعين لملف سد النهضة والذين يشعرون بالقلق المشروع حرصاً على أمن بلادهم المائى، ورسالة لإثيوبيا نفسها التى تعتقد أن بإمكانها فرض شروط تفاوضية على مصر من موقف القوة وفرض الأمر الواقع، بل أيضا رسالة لقوى الشر الإقليمية التى تستخدم المخالب الإثيوبية للضغط على صانعى ومتخذى القرار بمصر ومحاولة إشغالها وفتح أكثر من جبهة فى توقيت متزامن لدفع القاهرة لتقديم تنازلات جوهرية تمس الأمن القومى، ولذلك دعونا نقرأ المشهد الإثيوبى من الداخل بهدوء ليستنتج منه الرأى العام حقيقتين؛ الحقيقة الأولى: أن إثيوبيا هى التى تقع تحت الضغوط المصرية غير المباشرة وليس العكس، وأن “أديس أبابا” تمارس الحرب النفسية بحرفية على القاهرة ، ولم لا فى ظل ما هو معروف عن ماهية وأسلوب القوى التى تخطط لها وتقف وراءها، والحقيقة الثانية:هى حتمية تجاوب إثيوبيا مع شواغل دولتى المعبر والمصب – ولو بعد حين- بغض النظر عن الضغوط الداخلية المعقدة، وضرورة إتخاذ الفائز فى الإنتخابات البرلمانية القادمة – أياً كانت إنتماءاته – قرارًا عكس التيار الذى شارك فى ترسيخه لدى الرأى العام كل من تولى إدارة البلاد خاصة خلال العقدين الأخيرين، ووجوبية إختيار النظام الإثيوبى مسار التعاون مع الجانب المصرى فى إطار مصلحته الوطنية.
* ولتأكيد ما سبق، يجب تقييم حجم الضغوط المحيطة برئيس الوزراء الإثيوبى “آبى أحمد” ومساحة الحركة المسموح له بها، بداية دعونا نتذكر ظروف وصوله للحكم، حيث إندلعت مظاهرات وتوترات واسعة عام ٢٠١٥ بين قومية “الأورومو” فى الجنوب والغرب إحتجاجاً على الأوضاع المتردية وإنفراد أقلية “التيجراى” بالحكم، ورغم إستمرار الإضطرابات نحو عامين إلا أن الإحتجاجات لم تجنِ ثمارها إلا عقب إشتراك قومية “الأمهرة” وإمتداد الإحتجاجات إلى الشمال والشمال الشرقى وإضطرار “هيلا ميريام دسالين” للإستقالة وإختيار مجلس “الجبهة الديمقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا” الحاكم “آبى أحمد” فى فبراير ٢٠١٨ ، حيث وجد الأخير نفسه مطالبًا بتنفيذ مشاريع قومية تنموية تتمحور حول المياه والزراعة والطاقة لاحتواء القوميات المتعددة الغاضبة، خاصة مع حاجته لدعم هذه القوميات وغيرها للفوز بالإنتخابات البرلمانية من جهة ، وسابق تقديم تلك القوميات مساهمات مالية ضخمة لتنفيذ سد النهضة بإعتباره مشروعًا وطنيًا من جهة أخرى، لذلك فضّل أن يغض الطرف عن التجاوزات التى مارسها مزارعو “الأمهرة” الذين اجتاحوا الحدود السودانية عدة مرات خلال صيف عام 2020 بحثاً عن المياه والأراضى الخصبة بدعم من ميليشيات “الشفته” المسلحة والقوات الأمنية المحلية، وما أسفر عن ذلك من إشتباكات خلفت مقتل وإصابة العديد من العسكريين والمدنيين من الطرفين والتى أدت لتوتير علاقات البلدين.
* ورغم أن قرار ” المجلس الاتحادى الإثيوبى” الصادر يوم 10/6/2020 والخاص بتأجيل الانتخابات البرلمانية لما بعد إنتهاء أزمة “كورونا” كان من المفترض نظرياً أن يحد من إشكالية تزامن موعد الملء الأول لسد النهضة مع الإنتخابات، إلا أن “آبى أحمد” لجأ لاستمرار نهج التشدد لدعم شعبيته الداخلية الهشة، وبصفة عامة فقد طرح تأجيل الانتخابات البرلمانية مزيداً من التأثيرات السلبية على شعبية النظام وأدت إلى إضعاف موقفه، بل يمكن التقدير أيضاً بتأثر الإئتلاف الحاكم الذى يسعى دائما – نتيجة لضعفه – لسياسة إسترضاء القوميات الرئيسية والولايات الفيدرالية التى تتمتع بالحكم الذاتى.
* وعلى الرغم من أن قرار التأجيل صادر عن “المجلس الإتحادى الإثيوبى” الذى يضم البرلمان ومجلس الشورى، إلا ان المشرعين الدستوريين أكدوا أن هذا القرار سيؤدى إلى فراغ دستورى وحتمية تشكيل حكومة إنتقالية لحين إجراء الإنتخابات، وبالطبع لن يتجاوب حزب “الإزدهار” الحاكم مع هذا الطرح لتعارضه مع الهدف الرئيسى الذى وراء التأجيل وهو تمديد فترة حكمه بدون انتخابات لقناعته بعدم قدرته على حسم نتائجها لصالحه، وضعاً فى الإعتبار ما أشارت إليه توصيات “مجلس التحقيق الدستورى” الموالى “لآبى أحمد” بإقامة الإنتخابات بعد ٩ إلى ١٢ شهراً من تاريخ إعلان منظمة الصحة العالمية إنتهاء فيروس كورونا، ونظرياً لن تتم الإنتخابات وفقاً لهذا السيناريو قبل الربع الأخير من عام 2021 .
* وبتقييم مجمل الأوضاع الداخلية، فمن المرجح فقد رئيس الوزراء الإثيوبى قطاعًا رئيسيًا من ظهيره الشعبى خلال الفترة القريبة القادمة لعدة أسباب، منها التأثير السلبي المتوقع لاتجاه “مجلس إقليم التيجراى” نحو إجراء الانتخابات فى موعدها بشكل منفرد، خاصة مع بدء إستقالة كوادرهم من مؤسسات الدولة، وما قد يطرحه ذلك من مناخ ملائم لإعلان إقليم “التيجراي” الانفصال، لاسيما مع إمكانيات الإقليم الإقتصادية المتميزة نتيجة لتولى أقلية “التيجراي” مقاليد الحكم قرابة ٢٧ عاما وحتى عام ٢٠١٨ وتميّز عهدهم بالفساد، فضلاً عن إنتقاد قومية “الأورومو” – التى ينتمي إليها “آبى أحمد”- للأداء الحكومي، وتأكيد “جبهة تحرير الأورومو” أن قرار المجلس الاتحادى الإثيوبي الخاص بتأجيل الإنتخابات ليس له أساس دستورى، وذلك بجانب تزايد حدة الإنقسامات بين القوميات الرئيسية والتى تسبب فيها اختيار النظام للإسلوب القمعى خلال مواجهته المظاهرات والإحتجاجات التى إندلعت عقب مقتل المغنى السياسى “هاشالو هونديسا” خلال شهر يوليو 2020 فى أعقاب انتقاده للنظام، والتى أسفرت عن انتقالها للعاصمة “أديس أبابا” ومقتل المئات وإعتقال نحو أربعة آلاف شخص بينهم المنافس الرئيسي”لآبي أحمد” فى الانتخابات المقبلة والمنتمى لقومية “الأورومو” أيضاً الإعلامى “جوهر محمد” مالك إحدى الشبكات الإعلامية، بجانب زعيم حزب “حركة أورومو الإتحادية الديمقراطية” المدعو “بيكيلى غيربا”.
* وإرتباطًا بمجمل ما سبق، فنحن أمام نحو عام من الفوضى السياسية والأمنية، وعدم إستبعاد إندلاع مزيد من المظاهرات والإضطرابات وإطلاق دعوات لمقاطعة الإنتخابات، ومناخ يسوده الصراعات والمناورات وإفتقاد الثقة المتبادلة، بجانب توافر العديد من عوامل التفكك، وما قد يستتبعها من قرارات مرحلية وتكتيكية ومزايدات، لاسيما مع الوضع الداخلى الهش سواء على المستوى الأمنى أو العسكرى أو الاقتصادى أو الاجتماعى، وبالتالى تزايد فرص التدخل الخارجى فى القرار الإثيوبى، الأمر الذى قد يؤثر سلباً على سير المفاوضات.
* ولكن دعونا نجيب عن السؤال الأهم، وهو لماذا يتحتم على إثيوبيا – من وجهة نظرنا – التجاوب مع الشواغل المصرية؟
بالطبع لا يمكن إغفال الحقوق التاريخية والإتفاقية الموقعة بين الأطراف الثلاث المعنية، بجانب المعاهدات الدولية، ودخول البنك الدولى كوسيط فى مباحثات واشنطن، وتأثر تدفق التمويل الخارجى سلباً بتعثر الملف، فى ظل ما طرحه التشدد الإثيوبي من تهديد للاستقرار الاقتصادى والاجتماعى والأمنى للإقليم ككل ، ولكن بتقييم الخطوة المستقبلية التالية لإنشاء السد نجد أن “أديس أبابا” تحتاج لتشييد بنية أساسية وإستصلاح للأراضى الصحراوية المتاخمة للمشروع والبحيرة التابعة له، وإقامة بنية أساسية للمياه المنتظمة، وإنشاء شبكة كهربائية ضخمة، وشبكة أخرى للطرق، بجانب بعض المشاريع الخدمية اللازمة لبناء مجتمع عمرانى جديد، وما يتطلبه ذلك من تمويل يبلغ على أقل تقدير نحو 12 مليار دولار – بخلاف الجهود المتعثرة لاستكمال تمويل تشييد السد نفسه والذى قد يحتاج لتعديلات لزيادة عوامل الأمان – وإعتماد أغلب ذلك التمويل على الإستثمارات الخارجية، وبالطبع هذه الاستثمارات المستهدفة غير متوافرة حتى الآن فى ظل منطقية تنفيذها بالتوازى مع تشييد السد.
* وفى هذا الإطار، تشير التوقعات إلى تقدير استهلاك كل من دول الجوار سواء بمنطقة القرن الإفريقى أو دول الجوار حوالى 10% من إنتاج الطاقة المتجددة الصادرة عن السد، بما فيها المشاريع التنموية بالداخل الإثيوبى بالنظر لموقع السد البعيد نسبياً عن العاصمة لوقوعه فى أقصى حدود البلاد الشمالية، وبالتالى حتمية التوجه نحو الشمال المصرى الذى سبق “أديس أبابا” بالفعل ومد السودان بشبكة كهربائية بلغت 30 ميجاوات فى إبريل 2020 ومن المقرر أن تصل إلى 300 ميجاوات عام 2021، على أن تبلغ 3000 ميجاوات فى مرحلتها الثانية ، كما يتطلب تصدير الطاقة النظيفة لأوروبا المرور عبر مصر بحكم الجغرافيا.
* ويعكس مجمل ما سبق، حتمية انتهاء المفاوض الإثيوبى من سلسلة المناورات المتكررة، وضرورة اختياره نهج التعاون الملزم مع دولتى المعبر والمصب لتنفيذ البرامج التنموية الملحة، مع عدم إستبعاد إرتباط المواقف الإثيوبية المتشدد تجاه مصر بالتجاوب المرحلى مع قوى إقليمية خارجية تستهدف مصر، أو لاستخدام هذا الملف لاحتواء الداخل ودفع الرأى العام للإلتفاف حول قيادته السياسية خلال هذه المرحلة، أو لكلا السببين، وهو ما يدفع المفاوض المصرى للهدوء وعدم تقديم أية تنازلات فى هذا الملف أو غيره من الملفات الإستراتيجية الأخرى التى تثار بالتزامن مع تصعيد إثيوبيا لمواقفها والإيحاء بقرب حسمه، وقدرتها على إتخاذ إجراءات أحادية الجانب بغض النظر عن التوصل لإتفاق شامل مع الأطراف المعنية، ويتطلب فى الوقت نفسه إستمرار تمسك مصر بالحقوق والإتفاقيات الدولية، وتكثيف اتصالاتها الدبلوماسية وممارسة أكبر قدر من الضغوط باستخدام أدواتها وعلاقاتها الدولية بما فيها جامعة الدول العربية والاتحادين الإفريقى والأوروبى ومختلف المؤسسات والدول المكلفة بمراقبة المفاوضات ومجلس الأمن الدولى.