في واحدة من أخطر القرارات الإسرائيلية، أقرّ المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر (الكابينت) خطة لاجتياح كامل قطاع غزة، بعد جلسة استمرت عشر ساعات وسط أجواء مشحونة بالتوتر والانقسام. وجاء القرار رغم تحذيرات صريحة من هرم القيادة العسكرية، متمثلا في رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، الذي شدد على أن ذلك الخيار ينطوي على “كلفة باهظة” سياسيًا وعسكريًا.
خلفية القرار
منذ السابع من أكتوبر 2023، دخلت إسرائيل في حرب مفتوحة ضد حركة حماس في قطاع غزة، دون أن تحقق أهدافها المعلنة، وعلى رأسها “تفكيك حماس” وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. ومع تراجع الزخم العسكري والضغط الدولي المتصاعد بسبب أعداد الضحايا المدنيين، تصاعدت الضغوط داخل حكومة نتنياهو، خصوصًا من وزراء اليمين المتطرف في تيار الصهيونية الدينية، للدفع نحو “الحسم الكامل” عبر احتلال كامل لقطاع غزة وإعادة هندسة واقعه السياسي والديمغرافي.
مبادئ الخطة:
أفاد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن الجيش يستعد للسيطرة على مدينة غزة، مع توزيع المساعدات الإنسانية خارج مناطق القتال، حسب البيان. كما تبنى الكابينت ما سماه “المبادئ الخمسة لإنهاء الحرب”، وتشمل:
1- القضاء على حركة حماس.
2- استعادة الأسرى.
3- نزع سلاح القطاع.
4- فرض السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
5- إنشاء إدارة مدنية بديلة لا تخضع لحماس أو للسلطة الفلسطينية.
وتتضمن الخطة تهجير سكان مدينة غزة نحو الجنوب، ثم تطويق المدينة والتوغل في مراكزها السكنية. وقد حذّر رئيس الأركان من أن الخطوة قد تُعرّض حياة الأسرى الإسرائيليين للخطر، وتؤدي لاستنزاف القوات، وتُضعف شرعية إسرائيل الدولية.
مراحل الخطة:-
أولا: إدخال مساعدات “إنسانية” واسعة إلى غزة، بهدف تهدئة الوضع المدني في مناطق القتال.
ثانيا: تهجير السكان من مدينة غزة إلى جنوب القطاع والمخيمات الوسطى، على أن يُستكمل الإخلاء بحلول 7 أكتوبر 2025، وهو موعد له رمزية خاصة تشير إلى يوم اندلاع “طوفان الأقصى”.
ثالثا: فرض حصار كامل على مدينة غزة، ثم السيطرة عليها عسكريًا ضمن مساعي هزيمة حركة حماس. وستُمهل الحركة للاستسلام قبل بدء الاقتحام العسكري.
خلافات داخلية
حذر قادة أمنيون إسرائيليون من تداعيات الخطة الجديدة، في ظل إنهاك الجيش وقوات الاحتياط بعد نحو 22 شهرا من الحرب المستمرة. من جانبه، بذل رئيس الأركان إيال زامير جهودًا لإقناع الوزراء برفض الخطة، محذرًا من مخاطرها على حياة الأسرى الإسرائيليين، واحتمال سقوط الجيش في “مستنقع غزة”. وعمومًا فإن قرار الكابينت الإسرائيلي يعكس اتساع الشرخ العميق بين القيادتين السياسية والعسكرية، ويطرح تساؤلات حول تسييس القرار الأمني لحسابات سلطوية وأيديولوجية.
كما هاجمت المعارضة الإسرائيلية قرار الكابينت، معتبرة أنه سيطيل أمد الحرب ويؤدي إلى مقتل الرهائن وسقوط مزيد من الجنود. وقال زعيم المعارضة يائير لابيد إن القرار “كارثي” ويتجاهل تحذيرات الجيش، وأن نتنياهو قد خضع لضغوط بن غفير وسموتريتش في خطوة ستكلف إسرائيل سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
أما أفيغدور ليبرمان، فإتهم نتنياهو باتخاذ قرارات خطيرة دون مراعاة المصالح الأمنية، وقال إن “رئيس وزراء 7 أكتوبر يضحي من جديد بأمن الإسرائيليين من أجل البقاء في الحكم”.
هدف إطالة أمد الحرب
تسعى حكومة نتنياهو، بتحالفها مع التيار الديني القومي المتطرف، إلى مواصلة الحرب واحتلال كامل قطاع غزة، خدمة لأجندات أيديولوجية ولضمان بقائها في السلطة. لكن هذه السياسة تهدد بتداعيات كارثية على إسرائيل ذاتها، من تفكك في المؤسسة العسكرية، وانقسام داخلي، إلى عزلة دولية خانقة، وانهيار اقتصادي متسارع.
لكن نتنياهو يُوظف إطالة أمد الحرب كأداة لإضعاف المعارضة وتفتيت قدرتها على الحشد. ففي البداية، خرج مئات الآلاف احتجاجًا على إقالة وزير الدفاع يوآف جالانت، ثم تراجع الزخم إلى عشرات الآلاف بعد مقتل رهائن بيد الجيش، واليوم، رغم قرارات الحكومة التي توصف بالكارثية، أصبح الحراك الشعبي محدودًا ومشتتًا، ما يعكس حالة الإحباط والانهاك داخل المجتمع الإسرائيلي.
التداعيات
إن الاجتياح العسكري الإسرائيلي الكامل لقطاع غزة سيحمل العديد من التداعيات الخطيرة داخليا وخارجيا.
أولا: داخليًا
سيؤدي الاجتياح العسكري في بدايته لاشتعال موجة احتجاجات من جانب أهالي الرهائن والمتعاطفين معهم، وكذلك من جانب المعارضة. كما سيؤدي الاجتياح إلى الانقسام في صفوف الجيش، مما قد يُسفر عن إنهاء الحرب دون إنجاز استراتيجي، ما يهدد مستقبل حكومة تل أبيب ويقود لانتخابات مبكرة، ستُسفر عن إسقاط ائتلاف نتنياهو وإحالته للقضاء في التهم الموجهة إليه
ثانيا: إقليميًا
منذ اندلاع العدوان على غزة في 7 أكتوبر 2023، بدأت تداعيات الصراع تتجاوز الجغرافيا الفلسطينية لتُهدد أمن واستقرار دول الجوار، لاسيما مصر والأردن. ومع إعلان إسرائيل نيتها اجتياح القطاع بالكامل، تتزايد المخاوف من انفجار أوسع يعيد تشكيل المشهد في الشرق الأوسط. وستضع الخطة الإسرائيلية الجديدة، مصر والأردن أمام معضلة أمنية وإنسانية، مع مخاوف من موجات نزوح وفوضى قد تمتد إلى حدودهما.
فيما يخص مصر، فإن القاهرة تخشى من محاولات “ترحيل صامت” للفلسطينيين نحو سيناء، ومن اختراقات أمنية محتملة تعيد سيناريو الفوضى في الشريط الحدودي.
كما أن الاحتلال الكامل لقطاع غزة سيُنهي دور الوساطة المصرية وسيُضعف مكانة مصر الإقليمية والدولية. فضلا عن أن إطالة أمد الحرب ستؤثر سلبا على الاقتصاد المصري وستعطل المشاريع التنموية في سيناء.
وفيما يخص الأردن، فإن عمَّان ستواجه أزمة خطيرة لأن جيش الاحتلال سيزيد من عدوانه على الضفة الغربية مما قد يفتح الباب أمام اضطرابات وموجات نزوح نحو الأردن. كما سيتصاعد الغضب الشعبي في الأردن نتيجة الحرب، ما يضع الحكومة في موقف حساس نظرًا لعلاقاتها الرسمية مع إسرائيل.
وهناك تداعيات إقليمية أخرى، منها عرقلة محاولات تل ابيب للتطبيع مع الرياض، لأن المملكة السعودية لن تقبل بالتطبيع طالما استمر العدوان على الفلسطينيين وطالما لم يتم التوصل لحل عادل للقضية الفلسطينية. ولقد أعلنت الرياض تجميد أي خطوات في هذا الاتجاه منذ بدء العدوان على غزة في أكتوبر 2023. ونظرًا لمكانة السعودية الدينية والعربية، فإنها لن تقبل بالتقارب مع حكومة إسرائيلية متطرفة ترتكب الجرائم بحق الفلسطينيين.
خلاصة القول
يتجاوز قرار اجتياح قطاع غزة الحسابات العسكرية المنطقية، ويعكس الإخفاق الاستراتيجي والاندفاع السياسي. وفي ظل غياب خطة واقعية لليوم التالي، ستجد إسرائيل نفسها أمام مأزق مفتوح، حيث لا نصر واضح، ولا مخرج آمن، ناهيك عن الاستنكار الإقليمي والرفض الدولي.
كما أن الاجتياح العسكري الشامل لقطاع غزة دون رؤية استراتيجية، سيجرّ إسرائيل إلى مستنقع شبيه بتجارب العراق وأفغانستان. وسيواجه جيش الاحتلال مقاومة عنيفة كعادة القتال داخل بيئة حضرية مكتظة ومعادية. لذا فمن المتوقع أن تطول مدة الحرب ربما لسنوات، مما قد يؤدي لفتح جبهات أخرى.
وأخيرًا، فإن إعلان نتنياهو عن نية احتلال غزة يعكس مأزقًا سياسيًا أكثر منه خيارًا استراتيجيًا، ليبقى سكان القطاع هم الضحية الأولى في حرب تُدار بمنطق المزايدات السياسية، لا الحسابات الواقعية.