كان لتصريح داوود أوغلو الأخير بالتلفزيون التركي: “إنني يجب أن أتحدث عن ما يحدث في الكواليس” دلالات مهمة حين وجه نصائحه لرئيس الدولة وحليفه السابق قبل الاستقالة في 2016 وتأسيس حزب المستقبل في يناير 2020.
حيث قال: “إن المواجهة بين مصر وتركيا لن تكون جيدة من أجل تركيا، ولكن من الصواب ألا ننسحب من ليبيا لأن مصر أو غيرها أرادت ذلك. يجب استخدام قدرة تركيا بحكمة، ويجب تحسين العلاقات مع دول الجوار الغربي لليبيا تونس والجزائر، والحفاظ على الخط الغربي والمكاسب بالغرب الليبي”
هذا هو الجزء الأول من نصائح السيد داوود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية لتركيا لسنوات عديدة في ظل الحزب الحاكم حاليا.
ونوضح أن نصائح داود أوغلو تمثل جميع الجيل السابق بالعدالة والتنمية، وهي النظرة التوسعية التركية دون أي صدام عسكري تركي مع أى طرف، وهو ما حدث في مواقف إقليمية عديدة منها الملف السوري، حيث لم يتدخل الجيش التركي داخل الحدود السورية في بداية الحرب السورية، بل قام بتدعيم وتقوية الجيش السوري الحر، وقام بدعمه بالتدريب والسلاح حتى يستطيع أن ينهك الجيش الوطني السوري، ويستطيع إجهاد الدولة والنظام السوري، واستطاع الجيش السوري الحر منذ اندلاع الثورة السورية في تحقيق العديد من المكاسب الميدانية وعلى مشارف دمشق أيضا، بل إنه كان يستطيع حسم معارك عديدة مع الجيش الوطني السوري لو استمر الدعم التركي بالسلاح المدفوع الثمن من قطر، ولكن الرئيس التركي كان يتراجع حتي لا تنتهي الحرب بسوريا، لأن التعليمات لديه باستمرار الحالة السورية بين الكر والفر دون نصر محدد للجيش السوري الحر.
هكذا أدار جيل أردوغان وداود أوغلو المعركة والأزمة السورية حتى يتدخل الجيش التركي بشكل مباشر، بعد أن يسيطر الجيش السوري الحر على المساحة المطلوبة ويسلمها للجيش التركي الذي دخل الأراضي السورية مدعيًا بأنه يحمي حدوده من الأكراد، ويدعم العملية الديمقراطية، وتسليم البلاد من بشار الأسد إلى رئيس منتخب من الشعب السوري.
هذه الاستراتيجية في سوريا من الجانب التركي، هي نفس الاستراتيجية التي اتبعتها تركيا في الجانب الليبي، باختلاف في بعض التفاصيل فقط. فحكومة السراج أتت إلى الحكم بدعم سياسي تركيّ، وهي التي طلبت منها أنقرة توقيع مذكرة الحدود البحرية والأمنية لكي تجد لها مقعدًا داخل منطقة غاز شرق المتوسط، والذي يحتوي على ثروة كبيرة داخل الحدود البحرية للدول المطلة عليه.
كما استطاعت تركيا بالاتفاقية الأمنية تلك وضع قدم لها بشكل أساسي مع حكومة السراج ذات التوجه الإسلامي السياسي، لتكون الحاضنة لنموذج الإسلام السياسي داخل ليبيا.
أما الجزء الثاني في نصائح داود أوغلو إلى إردوغان
“إن فرنسا ليست الممثل الوحيد للاتحاد الأوروبي في ليبيا، و يجب تحسين العلاقات مع إيطاليا وألمانيا في الملف الليبي، ولنأخذ في عين الاعتبار عواقب زيادة فعالية الولايات المتحدة وروسيا، إجلس صراحة وتحدث مع روسيا وقل لهم عندما نتعاون في سوريا لا تطلقوا النار علينا في ليبيا، ولو توصلت إلى نتيجة معقولة فلتجلس وتتحدث مع مصر إذا لزم الأمر”.
يحتوي هذا الجزء من النصائح على أمور عدة نوضحها فيما يلي: –
أولا: تقوية العلاقات مع الجانب الإيطالي والألماني، وهو ما تم بالفعل من خلال زيارة وزير الخارجية الإيطالي لأنقرة، ومشاركة الشركات الإيطالية للشركات التركية في مشروعات الطاقة الكهربائية، وإعادة الإعمار بليبيا.
ثانيا: طالب داود أوغلو بالحديث الواضح والشفاف مع الجانب الروسي، وأنه عند التعاون في سوريا لا تطلقوا النار علينا في ليبيا، في إشارة منه إلى قصف قاعدة الوطية العسكرية بالطيران المجهول، كما أن التفاهم مع روسيا بخصوص ليبيا سيعيد ترتيب تركيا عسكريًا داخل الأراضي الليبية، وسيمكن تركيا من دعم المرتزقة السوريين تحت قيادة حكومة الوفاق في الهجوم والكرّ والفرّ مع قوات الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر المدعوم من مصر والامارات وروسيا وفرنسا ، وستعمل تلك القوات بمناوشاتها المستمرة على كسر الخط الأحمر الذي رسمه الرئيس السيسي.
ثالثا: من وصايا داود أوغلو، أنه إذا توصلت إلى نتيجة مع الروس إجلس وتحدث مع مصر إذا لزم الأمر، وهنا تختلف صيغة الحديث وتتغير الكلمات في الحديث عن مصر “إذا لزم الأمر”، وذلك لأن داوود أوغلو يعلم أن أردوغان لن يجلس ويتحدث مع مصر إذا وصل لتفاهمات مع روسيا، وذلك لعدم قدرة أردوغان على أخذ قرار مشترك داخل مطبخة السياسي على ذلك؛ لأن الجميع يعرف اتجاه أردوغان مع مصر ورئيس مصر؛ لذلك أطلق داود أوغلو هذه النصيحة على استحياء ولكنه كان واضحًا بعدم الدخول بحرب مباشرة مع مصر؛ لأن الحرب ستمثل خسارة بالنسبة لتركيا
وهنا يجب التأكيد على أهمية التنسيق بين المحور المصري الروسي الفرنسي الإماراتي والتنسيق بينهم داخل الحدود الليبية ومنطقة سرت والجفرة، لأن ما يسعى إليه أردوغان هو حشد القوات من المرتزقة السوريين وبلاد المغرب العربي ومن الصومال والدواعش إلى مواجهة الجيش الليبي، وذلك لإحداث حالة من الكرّ والفرّ العسكري بين تلك القوات، هذا ما يجول في عقل أردوغان في ما يتعلق بشرق ليبيا، من ناحية أخرى فقد بدأت تركيا في تجهيز طرابلس والمنطقة الغربية بمبانٍ حديثة وشبكة طرق وخدمات حديثة خططت لها في القريب العاجل الحكومة التركية مع حكومة السراج، ليكون الغرب الليبي أكثر تميزًا عن الشرق .