عقد يوم الخميس 14 مارس 2024، في العاصمة العراقية بغداد، اجتماع أمني رفيع المستوى، شارك فيه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، مترأسًا الوفد التركي، برفقة وزير الدفاع يشار جولر، ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم قالين، الاجتماع هو الثاني خلال يومين بعد لقاء قائد الجيش الثاني الميداني مع عسكريين عراقيين في منطقة المخلب- القفل على الحدود العراقية التركية، وقد تناقش الطرفان حول مسائل مثل اعتراف العراق بحزب العمال الكردستاني كحركة إرهابية، وبحث دورها في وقف تصدير البترول العراقي عبر خط جيهان- يومورتاليك التركي بالإضافة إلى بحث مسائل آخرى كقضية المياه، والتعاون الثنائي في مشروع طريق التنمية.
تأتي هذه التحركات في إطار السياسة التصالحية التي تنتهجها تركيا خلال السنوات الأخيرة مع دول جوارها الإقليمي، والتي يعد العراق أبرزها، فبالرغم من وصول عدد الوحدات العسكرية التركية على الشريط الحدودي مع العراق لأكثر من 20 وحدة عسكرية قوامها 4آلاف جندي، وبالرغم من قيامها بعمليات عسكرية على مناطق تمركز قوات حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي تعتبره العراق انتهاكًا لسيادتها، إلا أن تركيا ومنذ نهاية العام الماضي تسعى لعقد شراكة مع العراق.
تأتي هذه اللقاءات في إطار رغبة تركيا في تحقيق التالي:
- إنهاء تمركز حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، عبر عملية عسكرية موسعة على طول خط الحدود البالغ 378كم. سبق أن أعلن الرئيس التركي عن العملية عقب اجتماعه مع مجلس الوزراء مطلع شهر مارس 2024.
- أن تتم العملية هذه المرة بمساعدة كلاً من بغداد وأربيل وبمشاركة الحشد الشعبي المدعوم من إيران.
- أن تقيم حزاماً أمنياً بعمق يتراوح بين 30 و40 كيلومتراً على غرار ما تفعل في سوريا.
- أن تضمن من خلال هذه العملية قطع الصلة بين العمال الكردستاني في شمال العراق ووحدات حماية الشعب الكردي في شمال سوريا.
وزير الخارجية التركية ونظيره العراقي….. ارشيفية
بالرغم من الرفض العراقي لما اعتبرته تجاوزًا وتعديًا مستمر من جانب تركيا على أراضيها، إلا أن الحكومة العراقية تبدي استجابة وترحيبًا للتوجهات التركية نتيجة للأسباب التالية:
- قضية المياه: تشير التقديرات إلى أن حصة العراق قد تراجعت من حوالي 73 مليار متر مكعب عام 2003 إلى50 مليار متر مكعب عام 2020، بسبب عمليات ملء السدود في تركيا، ومن المحتمل أن تتراجع في السنوات المقبلة بنسبة أكبر إذا استمرت خطط الاستغلال التركية للمياه على حالها. وتُلقي تركيا باللوم على سوء استخدام العراق لموارده المائية، وعدم تحديث نظم الري، وتؤكد أن إدارتها لملف المياه تستجيب لحاجة الاقتصاد المحلي، وللقوانين الدولية.
- قضية النفط: يصدر النفط العراقي، منذ عقود عبر الأراضي التركية إلى العالم، ويعود الخلاف إلى توقيع أنقرة وحكومة إقليم كردستاناتفاقاً طويل الأمد يسمح لحكومة الإقليم بتصدير نفطها عبر الأنبوب العراقي – التركي دون العودة إلى حكومة بغداد. وهو ما اعتبرته بغداد خرقاً لسيادتها، وخرقًا للنصوص الدستورية التي تفسرها على أنّها تمنحها الحق الحصري بتصدير النفط، إلّا أنّها لم تكن قادرة على وقف تنفيذ الاتفاق، حتى جاء قرار المحكمة التجارية الدولية، الذي أقر في مارس2023، بعدم قانونية سماح تركيا لإقليم كردستان بتصدير نفطه عبر ميناء جيهان، وتغريم تركيا 1.5 مليار دولار، بما أدى إلى تصاعد حدة الخلاف العراقي التركي، وبرغم أن الحكم جاء لصالح العراق إلا أنها خسرت نحو 5 مليارات دولار بعد إيقاف ضخ النفط المتواصل منذ صدور الحكم.
وقد زادت حدة الخلاف عندما وظفت تركيا زلزال فبراير 2023، كحجة لتأخير استئناف تصدير النفط. ثم طالبت العراق بعد ذلك بدفع رسوم المرور أثناء فترة توقف تصدير النفط عبر الأنبوب، بالإضافة إلى طلبها التنازل عن دعوى التعويض الذي أقرته المحكمة.
- مشروع طريق التنمية: خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي لتركيا، في مارس 2023، التي اعتبرت نافذة أمل لتحسن العلاقات خاصة وأن الحكومتين العراقية والتركية أعلنتا تبينهم لمشروع “طريق التنمية”، الذي يتضمن إنشاء الطريق السريع بين جنوب العراق والحدود التركية، والذي يبلغ طوله نحو1190 كم، وإنشاء خط سكك حديدة يبلغ طوله نحو 1175كم. ويتوقع لهذا الطريق نقل 3.5 مليون حاوية من البضائع في المرحلة الأولى بما يعادل 22 مليون طن سنوياً بحلول عام 2028، على أن تزيد الطاقة الاستيعابية لتصل 7.5 مليون حاوية بحلول عام 2038فى المرحلة الثانية، ويخطط أن تكون السكك الحديدية ثنائية المسار لتستوعب 80-90 قطاراً يومياً تعمل بالكهرباء. ومن المخطط أن تنشئ الحكومة العراقية مدناً صناعية ومنشآت خدمية على طول الطريق، ويبلغ طول المشروع نحو 2200 كيلومتر.
خريطة مشروع طريق التنمية… ارشيفية.
وقد ساهمت المباحثات الأخيرة في تحقيق ما يلي:
- أ- قرر مجلس الأمن الوطني العراقي اعتبار حزب العمال الكردستاني(PKK) تنظيمًا محظورًا في العراق.
- ب- إنشاء لجان دائمة مشتركة تعمل في مجالات مكافحة الإرهاب والتجارة والزراعة والطاقة، والمياه، والصحة، والنقل.
- بدء التحضيرات لزيارة الرئيس التركي، عقب شهر رمضان، واتخاذ كافة الإجراءات المناسبة لإنجاح هذه الزيارة التي توصف بأنها “تاريخية”.
- تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، عبر إنشاء مركز عمليات عسكرية مشتركة بين الجانبين من أجل تأمين الحدود وتطهير المنطقة من “الإرهاب”.
أخيرًا…. لا تستهدف تركيا بتقاربها مع العراق حل مسألة حزب العمال الكردستاني وحسب، وإنما تستهدف تعزيز وجودها الاقتصادي في وسط وجنوب العراق، وتعزيز مساهمتها في إعادة بناء البنية التحتية في العراق الثالثة في ترتيب المشاركات التركية في قطاع المقاولات في الخارج بما يقدر بنحو 34 مليار دولار.
العراق أيضًا لا يستهدف قضيتي الماء والنفط وفقط وإنما يسعى نحو تحسين الأوضاع الداخلية عبر رفع حجم التبادل التجاري مع تركيا من خلال زيادة الاعتماد على التبادل بالعملات المحلية، كما يسعى لخلق نفوذ موازي للنفوذ الإيراني، وربما تحجيم تدخلات إيران إن أمكن، كما أن العوائد المتوقعة في حال نجاح مشروع “طريق التنمية” تعد دافعًا رئيسيًا لما له من جوانب أمنية واقتصادية وتطوير في الخدمات والبنى التحتية يعجز العراق عن تحقيقها منفردًا في الوقت الراهن.
عربيًا، يمكن الاستفادة من تطورات العلاقات العراقية التركية وخاصة مشروع طريق التنمية، عبر عقد شراكات متعددة في مجالات البنى التحتية والطرق والنقل البري، خاصة وأن المشروع يوفر نحو 100 أف فرصة عمل للعراق ودول جواره.
حقيقة أن تكلفة النقل البحري أقل بكثير من تكلفة النقل البري، إلى جانب زيادة حجم البضائع المنقولة عبر السفن والحاويات البحرية مقارنة بعربات السكة الحديد، وأن المرور بقناة السويس لا يحتاج إلى أعمال شحن وتفريغ للمنتجات التي تحملها السفن؛ ما يخفض نسب التلفيات، وعليه فمدى الضرر الواقع على مصر وقناة السويس محدود خاصة وأن القناة بموقعها الاستراتيجي تربط ثلاث قارات، فيما يربط طريق التنمية قارتان فقط، تقسم الرحلة فيه عبر طرق برية وبحرية تخترق العديد من مناطق التوتر وعدم الاستقرار داخل العراق؛ ما يعني أن المشروع مرهون بنجاح تركيا والعراق في القضاء على أنشطة حزب العمال الكردستاني وإقرار الأمن فيها.