إعداد/ محمود سامح همام – باحث متخصص في الشئون الأفريقية

منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، دخل السودان في أزمة سياسية وإنسانية حادة امتدت لأكثر من عامين. خلال هذه الفترة، أُجبر أكثر من 12 مليون شخص على النزوح داخلياً وخارجياً، بينما يحتاج نحو نصف سكان البلاد، أي حوالي 30 مليون شخص، إلى مساعدات إنسانية عاجلة لتأمين الغذاء والمأوى والرعاية الصحية. في ظل هذا الانهيار الأمني والإنساني، تبدو مسألة التقسيم المحتمل للسودان ليست مجرد احتمال بعيد، بل خياراً يتبلور تدريجياً مع استمرار النزاع وإعادة رسم خريطة النفوذ والسيطرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، ما يطرح أسئلة سياسية حاسمة حول مستقبل الدولة ووحدتها.

موازين القوة الميدانية بين الجيش والدعم السريع

يشهد السودان منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع حالة من الانقسام الجغرافي والسياسي العميق، انعكست بوضوح على خريطة السيطرة والنفوذ داخل البلاد. فقد استطاع الجيش السوداني أن يفرض وجوده العسكري في مناطق الشمال والشرق والوسط، وهي مناطق ترتبط ببنية الدولة ومؤسساتها الرسمية، وتضم أهم المراكز الاقتصادية والإدارية في البلاد. في الشمال، يسيطر الجيش على ولايات نهر النيل والشمالية، حيث تتركز البنية التحتية الحيوية ومخازن الوقود والمعابر الحدودية مع مصر. أما في الشرق، فتُعد ولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف مناطق نفوذ رئيسية للجيش، لاحتوائها على الموانئ والمنافذ التجارية التي تمثل شريان الحياة الاقتصادي للدولة، كما اتخذت الحكومة من مدينة بورتسودان مقراً مؤقتاً للسلطة المركزية وقيادة العمليات العسكرية. وفي الوسط، يحكم الجيش قبضته على أجزاء من ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأبيض، في محاولة لتأمين العمق الاستراتيجي للبلاد ومنع تمدد قوات الدعم السريع نحو الشرق.

في المقابل، تتركز قوة الدعم السريع في الغرب والجنوب الغربي، حيث تسيطر على معظم ولايات دارفور الخمس، من الفاشر شمالاً حتى الجنينة غرباً وزالنجي والضعين ونيالا جنوباً. هذا الانتشار الواسع جعل من دارفور مركز ثقل رئيسي للدعم السريع، إذ تستفيد قواته من الطبيعة الجغرافية المعقدة، والتحالفات القبلية، والممرات الحدودية مع تشاد وحتى النيجر، ما يمنحها قدرة على المناورة والإمداد المستمر. كما توسعت قوات الدعم السريع باتجاه كردفان، لا سيما في غربها وجنوبها، لتجعل منها خط تماس نشطاً في مواجهتها مع الجيش. وقد تمكنت من السيطرة على عدد من المدن والبلدات هناك بشكل متقطع، في حين يشن الجيش هجمات متواصلة لاستعادة السيطرة وإغلاق الطرق الحيوية التي تربط الغرب بالوسط. بهذا التوزيع الجغرافي بات السودان مقسوماً فعلياً بين سلطة مركزية تمثلها المؤسسة العسكرية في الشمال والشرق، وسلطة ميدانية شبه مستقلة لقوات الدعم السريع في الغرب، ما يعكس تآكلاً تدريجياً في وحدة الدولة الجغرافية والسياسية.

وتبلورت خلال الأشهر الأخيرة دينامية ميدانية معقدة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، تميزت بتغير مستمر في خطوط التماس وتبادل السيطرة على المدن. فقد تمكن الجيش من تثبيت وجوده في الموانئ البحرية والمدن الاستراتيجية وتنظيم خطوط الإمداد من الشرق إلى الشمال، فيما واصلت قوات الدعم السريع ضغطها في دارفور وكردفان مستفيدة من شبكة طرق غير رسمية تربطها بالحدود الغربية. وشهدت مناطق مثل الأبيض وأم روابة وسودري معارك متكررة أظهرت هشاشة التوازن العسكري، بينما ظل وجود الدعم السريع متقطعاً في بعض أحياء الخرطوم. وفي الجزيرة، التي تضررت بشدة، استعاد الجيش أجزاء واسعة لتأمين طريقه نحو الشرق، في حين عززت قوات الدعم السريع سيطرتها في دارفور وجعلت منها قاعدة لعملياتها، ما يعمّق تعقيد المشهد ويؤكد أن الصراع لا يزال بعيداً عن الحسم أو التسوية.

الواقع الجغرافي الجديد: من حرب النفوذ إلى ملامح التقسيم”

 تتجه الأوضاع في السودان نحو واقع جديد تتقاطع فيه موازين القوى السياسية والعسكرية لتشكّل ملامح تقسيم فعلي، وإن لم يُعلن رسمياً بعد. فالصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لم يعد مجرد مواجهة على السلطة، بل تحوّل إلى إعادة توزيع شاملة لمناطق النفوذ والسيطرة داخل الدولة. بات الجيش يتمركز في مناطق تمثل الامتداد المؤسسي للدولة وبوابتها الاقتصادية نحو الخارج. أما قوات الدعم السريع فقد أحكمت قبضتها على معظم مناطق الغرب الغنية بالذهب والموارد الطبيعية التي تموّل بها عملياتها وتمنحها هامش استقلال مالي واسع. وبين هذين المعسكرين تشكل مناطق التماس في وسط البلاد التى تشهد مواجهات متقطعة خطوطاً غير رسمية يمكن أن تتحول في المستقبل إلى حدود فاصلة بين كيانين سياسيين مختلفين.

هذا الواقع الميداني يعكس بوضوح أن السودان يسير نحو نموذج مزدوج للسلطة، حيث تتشكل دولتان فعلياً داخل الإطار الجغرافي الواحد: الأولى مركزية يديرها الجيش وتحتفظ بشرعية الدولة التقليدية، والثانية أمر واقع تسيطر عليها قوات الدعم السريع وتدير مناطقها بشبه إدارة مستقلة، لها نظمها الخاصة في جمع الموارد وتنظيم الأمن المحلي. وتتقاطع في هذا المشهد أبعاد إقليمية ودولية تزيد من عمق الانقسام؛ إذ تنظر بعض القوى إلى هذا الوضع باعتباره فرصة لإعادة ترتيب النفوذ في القرن الأفريقي ومنطقة الساحل. فالإمارات، على سبيل المثال، تُتهم بدعم قوات الدعم السريع عسكرياً ولوجستياً، لما يتيحه ذلك من نفوذ واسع في مناطق التعدين وطرق التجارة العابرة للصحراء، بينما تساند مصر الجيش السوداني بوصفه الحصن الأخير لوحدة الدولة واستقرار حدودها الجنوبية. وبين هذين الموقفين، تنخرط أطراف أخرى مثل روسيا  في علاقات مرنة مع كلا الجانبين، ساعية إلى حماية مصالحها في مجالات التعدين والموانئ. وهكذا، تتكوّن داخل السودان خريطة نفوذ متشابكة تتجاوز الحسابات المحلية، لتعبّر عن صراع إقليمي على موقع استراتيجي بالغ الأهمية في قلب أفريقيا.

الدوافع الجيوسياسية وراء مشروع تقسيم السودان

تتعدد الدوافع التي تغذي النزعة نحو تفكك السودان، وتتشابك بين أسباب داخلية مزمنة وأجندات خارجية متنافسة داخلياً . ورث السودان عبر عقود طويلة من الحكم المركزي نمطاً غير عادل في توزيع السلطة والثروة، جعل من العاصمة مركز القرار والسيطرة، بينما عانت الأقاليم الغربية والجنوبية من التهميش السياسي والانكماش الاقتصادي. هذه الفجوة العميقة أنتجت شعوراً متنامياً لدى سكان الأطراف بأن الدولة المركزية لا تعبّر عن مصالحهم، بل تستغل مواردهم دون أن تعود عليهم بفوائد ملموسة. ومع اندلاع الحرب بين الجيش والدعم السريع، وجدت هذه القوى المحلية في الصراع فرصة لتكريس واقع حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع، يمكّنها من التحكم في مواردها وإدارة شؤونها بمعزل عن سلطة الخرطوم

أما على الصعيد الإقليمي، فقد أصبح السودان ساحة تنافس مفتوحة بين القوى الإقليمية التي تسعى لتثبيت مواقع نفوذها في القرن الأفريقي والبحر الأحمر. فبعض الدول ترى في غرب السودان منطقة استراتيجية غنية بالذهب يمكن أن تعزز نفوذها الاقتصادي والعسكري، وتؤمن خطوط إمدادها عبر الساحل الإفريقي. في المقابل، تعتبر مصر وحدة السودان قضية أمن قومي لا يمكن التفريط فيها، إذ يمثل تفككه تهديداً مباشراً لاستقرار حدودها ومصالحها المائية. وتشاد وإريتريا بدورهما تخشيان من أن يؤدي قيام كيان مستقل في دارفور إلى تغذية النزعات الانفصالية داخل أراضيهما. أما روسيا، فتتعامل مع الأزمة السودانية ببراغماتية واضحة، إذ تحافظ على قنوات اتصال مع الجيش والدعم السريع في آنٍ واحد، لضمان استمرار نفوذها في مجالات التعدين وتأمين مشروع قاعدتها البحرية على البحر الأحمر.

يتضح من ذلك أن فكرة التقسيم ليست وليدة لحظة الحرب الراهنة، بل نتيجة تراكمات سياسية واقتصادية استُغلت من قِبل أطراف خارجية رأت في ضعف الدولة المركزية فرصة لتوسيع مصالحها. فبينما يدفع السودانيون ثمن انهيار مؤسساتهم الوطنية، تتحول بلادهم إلى رقعة صراع جيوسياسي مفتوح، تتصارع عليها القوى الإقليمية والدولية لتشكيل واقع جديد قد يعيد رسم حدود السودان وموازين القوى في القارة الأفريقية.

في الختام، توضح الوقائع الراهنة أن السودان يقف اليوم أمام مفترق طرق مصيري، فالصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع لم يعد مجرد مواجهة عسكرية، بل أصبح عامل إعادة رسم الجغرافيا السياسية والاقتصادية للبلاد. ومع تعقد خطوط السيطرة وتداخل النفوذ المحلي والإقليمي، يزداد احتمال بروز نموذج الدولة المزدوجة، حيث تفرض كل قوة واقعها على الأرض بمعزل عن السلطة المركزية. وفي ظل هذه المعادلة، فإن استمرار الأزمة دون حسم سياسي أو عسكري يهدد وحدة السودان ويطرح تحديات إنسانية جسيمة، في حين تستمر القوى الإقليمية والدولية في استغلال الانقسام لصالح مصالحها الاستراتيجية. يظل المستقبل السوداني معلقاً بين احتمالات التدهور الكامل لوحدة الدولة، وفرصة لإعادة التفاوض على صياغة مركزية أكثر توازناً، تتماشى مع واقع النفوذ الجديد وتحديات القرن الإفريقي.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version