حسين محمود التلاوي

وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب تهديدات واضحة إلى الحكومة النيجيرية على خلفية الاعتداءات التي تتعرض لها المناطق المسيحية في نيجيريا على يد الجماعات الإرهابية. وهدد الرئيسُ الامريكي الحكومةَ النيجيرية بالتدخل العسكري في الأراضي النيجيرية لوقف تلك الاعتداءات، ما لم تتخذ حكومة البلاد إجراءات لوقفها  منتقدًا ما اعتبره تراخيًا في أداء الحكومة النيجيرية إزاء هذه الاعتداءات.

ودعا ترمب وزير دفاعه مارتن هيجسيث إلى الاستعداد لتوجيه ضربات جوية أو حتى الانتشار على الأرض، وردَّ وزير الدفاع الأمريكي بأن قواته جاهزة للاحتمالات كافة؛ بما فيها التدخل البري.

في المقابل حاولت الحكومة النيجيرية تبني لهجة متوازنة؛ حيث قالت إن الاتهامات لا أساس لها من الصحة، وأوضح دانيال بوالا، المتحدث باسم الرئيس النيجيري، أن هذا التهديد العسكري الصادر عن ترمب يستند إلى تقارير مضللة، كما شدد على أن الأجهزة الأمنية في بلاده تبذل جهودها لمكافحة الإرهاب والجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وأعلن ترحيب نيجيريا بـ”التعاون مع الولايات المتحدة” في مجال مكافحة الإرهاب، بحيث ينبني أي جهد أمريكي في هذا السياق على احترام السيادة النيجيرية.

فهل الإدارة الأمريكية تهتم لأمر مسيحيي نيجيريا فعلًا؟!

بالنظر إلى ملف اعتداءات الجماعات الإرهابية في نيجيريا على المسيحيين، يمكن القول إن الاهتمام الأمريكي بالملف لا ينبع  في جزء كبير منه من الإخلاص إلى مبادئ حماية الحريات والأقليات، بل إن هناك العديد من المصالح الداخلية والخارجية التي تدفع الولايات المتحدة إلى إطلاق تلك التهديدات في هذه المرحلة الحساسة بمنطقة الساحل والصحراء وغرب القارة الأفريقية.

مسيحيو نيجيريا: واقع الملف

يتفاعل ملف اعتداءات الجماعات الإرهابية على مسيحيي نيجيريا منذ فترة طويلة، ولم تبدأ الولايات المتحدة في إعطائه أهمية من نوع ما إلا عام 2020، عندما وضعت نيجيريا في قائمة الدول “ذات الاهتمام الخاص”؛ وهي القائمة التي تضم الدول التي تراها الإدارة الأمريكية ضالعة في انتهاكات لحرية المعتقد، لكن الإدارة الأمريكية عادت وحذفت نيجيريا من القائمة في العام التالي، على الرغم من عدم حدوث أي تقدم في هذا الملف، وملف الإرهاب في نيجيريا عمومًا.

لكن الأمريكية للحريات الدينية الدولية أوصت في تقريرها الصادر في أبريل الماضي، بضم نيجيريا لهذه القائمة من جديد قائلة إن “المسيحيين النيجيريين يواجهون انتهاكات منهجية، ومستمرّة وخطيرة لحرية المعتقد”، وللمرة الثانية دون حدوث أية مستجدات في الملف تفوق ما جرى في السنوات السابقة تم إدراج نيجيريا فى هذه القائمة.

كذلك يتعين التنويه إلى أن الإرهاب في نيجيريا “أعمى” وفق تعبير المعلقين على الملف؛ حيث يعاني النيجيريون جميعًا من الإرهاب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الاجتماعية، وتشير الأرقام الواردة من منظمات حقوقية ونشرتها وكالة الصحافة الفرنسية إلى أن أعداد الضحايا المسلمين أكبر من أعداد الضحايا المسيحيين في الهجمات الإرهابية.

ما الجديد إذن؟!

هناك العديد من الاعتبارات الداخلية والخارجية التي دفعت بالرئيس الأمريكي إلى إطلاق تهديداته لنيجيريا، وفيما يلي أبرز تلك الاعتبارات.

أولًا – الاعتبارات الداخلية:

يستغل ترمب ورقة مسيحيي نيجيريا لكسب تأييد أنصار التيارات المسيحية اليمينية، أو على الأقل لإعادة تأكيد شعبيته، وتوسيع قاعدته فيها. ومن المعلوم أن أصوات هذه التيارات كانت مهمة في وصول الرئيس الأمريكي إلى البيت الأبيض، سواء في ولايته الأولى، أو الثانية الحالية.

انغمست سياسة ترمب الخارجية في ملفات بعيدة عن صورة أمريكا التي يراها أنصار هذه التيارات المدافعةً عن الحريات والأقليات في العالم، وعلى الرغم من أنهم شعروا بالرضا من إعلان ترمب التزامه الدائم بأمن إسرائيل والدفاع عنها طوال عدوانها على غزة، فإن كلمة “الأقلية المسيحية” تغازل أنصار التيار في انتمائهم الديني المباشر؛ خصوصًا الأنصار الشباب من جيل زد او جيل الألفية.

ثانيًا – الاعتبارات الخارجية:

هناك العديد من الاعتبارات الخارجية التي ربما تقف وراء تهديدات ترمب للنيجيريين؛ ومن أبرز تلك الاعتبارات:

١. سد فراغ الانسحاب الفرنسي من الساحل والصحراء:

خرجت فرنسا من منطقة الساحل والصحراء بعد الانقلابات المتوالية في النيجر وبوركينا فاسو ومالي، ورفضت الحكومات الجديدة، التي تشكلت بعد الانقلابات، التعامل مع الغرب ككل؛ بما فيه الولايات المتحدة، وتوجهت شرقًا نحو روسيا والصين؛ وبوجه خاص روسيا التي تعمل على ملء الفراغ الفرنسي.

جاء الانسحاب الفرنسي وتوجهت تلك البلدان شرقًا ليمثل ضربة مزدوجة للأمريكيين؛ فلم تبتعد تلك الدول عن الغرب فحسب، بل اقتربت من روسيا والصين بسبب عدم ثقتهم في الغرب؛ وفي القلب منه الولايات المتحدة، بعد ما لمست دول المنطقة عجز المقاربة الفرنسية عن  مكافحة الإرهاب بدليل عدم انتهائه بل تزايده، وعدم تقديم الأمريكيين ما يكفي من الدعم للتصدي للجماعات الإرهابية.

لذلك يتعين على الولايات المتحدة أن تتواجد في المنطقة من أجل هدفين:

الأول – التصدي للنفوذ الروسي المتزايد؛ حيث تنشط روسيا في تقديم نفسها بديلًا عن الغرب؛ فتقدم الدعم الاقتصادي والعسكري والأمني بسخاء لتلك الدول في سبيل تثبيت أقدامها في رمال المنطقة المتحركة.

الثاني – التواجد كـ”صديق” لدول المنطقة في مكافحة الإرهاب. وتأتي نيجيريا مكانًا مثاليًّا لتنفيذ تلك المهمة؛ لأنها مازالت نسبياً دولة مقربة من الغرب، ويمكن للأمريكيين العمل تحت مظلة بيئة صديقة تضم مناطق المسيحيين، على العكس من الدول الأخرى التي تعتبر “بيئة عدو” للأمريكيين والغرب عمومًا.، اذ تبدو نيجيريا نقطة انطلاق مثالية للتصدي للنفوذ الروسي والعودة مجددًا إلى المنطقة التي كانت دائمًا في فلك الغرب عبر النفوذ الفرنسي.

٢. التصدي للجماعات الإرهابية:

أيضاً تجدر الإشارة إلى أن الجماعات الإرهابية استشرت في منطقة الساحل والصحراء وغرب إفريقيا إلى درجة تهدد وحدة الدول. يأتي هذا بسبب ضعف جيوش دول منطقة الساحل؛ مثل مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وعدم تقديم أمريكا الدعم المطلوب لتبقى المنطقة أسيرة الإرهاب، وهو ما كان سببًا في توجه تلك الدول شرقًا.

بات الوضع في المنطقة  فوضويًّا للغاية؛ فهناك جماعات إرهابية، وجماعات انفصالية، ودعم القبائل العربية المعروفة بـ”عرب الشتات” لقوات الدعم السريع في السودان، وشبكات تهريب تعمل في كل شيء. ولا توقف الحدود الدولية هذه الجماعات، بل إن الجماعات الإرهابية تسيطر على الطرق السريعة؛ كما هو الحال في مالي والنيجر، وفق ما ذكرت تقارير صحفية عالمية؛ وعلى وجه التحديد فرنسية، إذن يكاد الوضع ينفلت حتى إن تقارير إعلامية تتحدث عن أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة تكاد تحاصر مدينة باماكو عاصمة مالي، وتقترب من السيطرة على العاصمة.

يمكن أن تتسامح الولايات المتحدة مع انتشار محدود و”محكوم” للإرهاب كورقة ضغط سياسي على الأنظمة لكن ليس لدرجة السماح بالسيطرة على عاصمة استراتيجية؛ مثل باماكو عاصمة مالي المليئة بالثروات الطبيعية والقريبة من موريتانيا والسنغال المستقرتين.

٣. موارد الطاقة النيجيرية:

لا بد أن ينجذب الأمريكيون إلى النفط النيجيري؛ فنيجيريا عملاق نفطي وغازي عالمي، وثالث أكبر اقتصاد في القارة. لذلك يهتم الأمريكيون بالتواجد في هذه المنطقة؛ مثلما يهتمون بالتواجد في أي مكان به ثروات طبيعية ومصادر طاقة حول العالم.

ما يزيد من الرغبة الأمريكية في إيجاد موطئ قدم في نيجيريا أن هناك مشروعات قيد الإعداد بين نيجيريا والعديد من الدول في مجال الغاز؛ من بينها مشروع أنبوب غاز مع الجزائر لتصدير غاز من جنوب نيجيريا إلى أوروبا عبر الجزائر. كذلك تحضر نيجيريا مشروعًا مماثلًا مع المغرب؛ وهو أنبوب لتصدير الغاز يمتد من الجنوب النيجيري إلى أوروبا عبر المملكة المغربية. يتمركز المسيحيون في جنوب نيجيريا؛ حيث مشروعات الغاز، ووجود الجيش الأمريكي هناك يجعله قريبًا من صنابيرها بحيث يفتحها أو يغلقها، حسب الرغبة الأمريكية التي تقتضي في الفترة الراهنة دفع أوروبا إلى شراء الغاز الأمريكي فقط كبديل عن الغاز الروسي الذي امتنعت الدول الغربية عن استخدامه بعد العملية الروسية في أوكرانيا.

الخلاصة

لهذه الأسباب تريد الإدارة الأمريكية أن تتواجد في نيجيريا، ورأت في ورقة المسيحيين فرصة للتدخل. ولا أحد يمكن أن ينكر أن المسيحيين يتعرضون للقتل على الهوية، لكن وكما جرت العادة، تمنح الجماعات الإرهابية حول العالم الفرصة تلو الأخرى للولايات المتحدة كي تتدخل في المناطق التي تراها استراتيجية، تحت شعار “الحرب على الإرهاب”؛ وهي الحرب التي تكاد تتقلص لتكون حربًا من أجل المصلحة الأمريكية بذريعة مكافحة الإرهاب.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version