حسين التلاوي
تنشر مراكز الأبحاث الإثيوبية العديد من التقارير بشأن السياسة الخارجية لإثيوبيا وعلاقاتها الدولية، لكن اللافت أن هذه التقارير لا تخلو بشكل أو بآخر من الإشارة إلى سد النهضة الإثيوبي والخلاف مع مصر بشأنه؛ حيث يكاد يكون هذا الموضوع بندًا ثابتًا في كل التقارير.
ومن بين التقارير التي خصصتها مراكز بشكل كامل لموضوع سد النهضة تقرير أصدره في 24 نوفمبر 2025م معهد الشئون الخارجية الإثيوبي بعنوان “نزع الصبغة الأمنيّة عن النيل: لماذا يجب أن تتعلم مصر من اتفاق التعاون المائي بين تركيا والعراق؟” أعده “سواديق سفيان” الباحث الأول في المعهد، و”أماري كيناو” الباحث الأول ومدير عام شئون بحوث الشرق الأوسط في المعهد. تضمن التقرير عددا من المحاور نعرضها هنا، مع عرض التعليقات على ما ورد فيه، وتفنيد بعضها.
نموذج العراق وتركيا، وسيناريوهات مطروحة
في البداية نقدم ملخصًا للتقرير المنشور على الموقع باللغة الإنجليزية. يبدأ التقرير بذكر الاتفاق المائي بين العراق وتركيا، الذي ينظم استخدام المياه بينهما، وجاء ضمن مجموعة من الاتفاقيات بين الجانبين عام 2024م. ويشير التقرير إلى أن الاتفاق المائي قام على مبدأ “الأخذ والعطاء” وفق مبدأ “النفط مقابل المياه”؛ حيث ينص الاتفاق على تحويل أموال النفط من العراق إلى تركيا لتُستخدم في تنفيذ مشاريع مائية داخل العراق، ويمنح الاتفاق كذلك شركات تركية فرصة تنفيذ مشروعات في البنية التحتية المائية بالعراق.
يرى الكاتبان أن هذا النموذج هو الأكثر فاعلية في إدارة الموارد المشتركة حاليًّا، ويمكن أن يُحتذى به في مناطق أخرى مثل حوض النيل؛ وبوجه خاص في ملف سد النهضة، إلا أنهما يزعمان أن العقبة الوحيدة أمام ذلك إضفاء مصر الطابع الأمني على نهر النيل، والاستناد إلى اتفاقات قديمة “تعود إلى الفترة الاستعمارية”، ويؤكدان على أن مصر لن تحقق أمنها المائي إلا عبر دبلوماسية تعاونية مع دول المنبع، “بعيدًا عن الضغوط”. ينتقل التقرير إلى السيناريوهات المحتملة لملف سد النهضة؛ فيلخصها في ثلاث سيناريوهات، نوجزها فيما يلي:
أولًا: نزع الطابع الأمني عن ملف النيل – يرى التقرير أن هذا غير مرجح للغاية، ويبرر هذا بأن الدستور المصري رسّخ اعتبار النيل قضية أمن قومي و”حقًا تاريخيًّا”، ويزعم أن ذلك يجعل أي تفاوض مرن حول حصص المياه شبه مستحيل؛ لأن تعديل هذا النهج يتطلب “تعديلًا لمواد دستورية، وهو أمر مستبعد في ظل الوضع السياسي الداخلي والخشية من ردود فعل شعبية”. لذلك يرى التقرير أنه من غير المتوقع أن تنفتح مصر على “اتفاقيات جديدة عادلة” في المدى القريب.
ثانياً: التعاون الأمني في البحر الأحمر – يقول الكاتبان إن هذا السيناريو أفضل سيناريو. ويفترض هذا أن تخفّف مصر مما يراه “إضفاء الطابع الأمني على النيل” أو “أمننة النيل”؛ ما يفتح الباب أمام تعاون مصري – إثيوبي في قضايا البحر الأحمر والأمن الإقليمي. ويشير التقرير إلى أنه بينما تتهم مصرُ إثيوبيا بانتهاك القوانين المائية عبر مشروعات مثل سد النهضة، تتهم إثيوبيا مصرَ بمحاولات عزلها ومنع مشاركتها في ترتيبات البحر الأحمر، مثل “تجمع البحر الأحمر”. ويرى الكاتبان أن تخفيف التوتر حول النيل كان سيخلق فرصًا لتعاون مفيد للطرفين وللمنطقة، لكنه يظل سيناريو نظريًّا وغير مرجّح.
ثالثًا: استمرار الوضع القائم – يقول الكاتبان إن هذا السيناريو الأكثر ترجيحًا بين الثلاثة؛ فمن المرجّح أن تواصل مصر اعتبار النيل قضية أمن قومي، ما يدفعها للإبقاء على مواقفها التقليدية والانسحاب من مسارات التفاوض التي تتطلب مرونة. واستمرار هذا النهج يعني بقاء الصراع دون حلول، مع استمرار مصر دولة مصب “إلى أجل غير مسمى، ولن تكون قادرة على المطالبة بحقوق أكثر من إثيوبيا فيما يتعلق بالنيل”.
ويختم التقرير بالقول إن الاتفاق العراقي التركي كان يمكن أن يكون نموذجًا يحل الخلاف في سد النهضة، لكنه يزعم أن الموقف المصري المستند إلى “أمننة النيل” يجعل من الصعب على مصر تبنى نهج مماثل للاتفاق العراقي التركي، على الأقل في المستقبل المنظور.
ملف البحر الأحمر.. الاستراتيجية المصرية تؤتي ثمارها
ينطلق الكاتبان من مبدأ “لي الحقائق” بصورة واضحة؛ وهو ما تجلى في العديد من المواضع. لكن قبل ذكر هذه المواضع، يتعين الإشارة إلى ما ورد في التقرير بخصوص البحر الأحمر والاستراتيجية المصرية فيه؛ لأن ما أورده التقرير يفيد بإن الاستراتيجية المصرية هناك تحقق مكاسب جمَّة. أين ظهر ذلك؟!
في السيناريو الأول المسمى “تعزيز التعاون الأمني في منطقة البحر الأحمر”، يقول الكاتبان: “أكدت إثيوبيا أن مصر تستخدم باستمرار المناورات الدبلوماسية لعزلها عن الوصول إلى البحر الأحمر واستبعادها من أي تعاون أمني يتعلق بالبحر الأحمر، ولا سيما (تجمع البحر الأحمر)، عن طريق وضع معايير إقصائية بمهارة”. ويضيف التقرير أن إلغاء ما يزعم الكاتبان أنه “أمننة مصر للنيل” يمكن أن يفتح الباب أمام تحقيق الأمن في البحر الأحمر.
هذا يعني أن الكاتبين يستبدلان مبدأ “النفط مقابل الماء”، في الاتفاق العراقي التركي، بمبدأ “البحر الأحمر مقابل النيل” في الاتفاق المصري الإثيوبي الذي يروجان إليه. يؤكد ذلك أن الاستراتيجية المصرية في البحر الأحمر أزعجت إثيوبيا التي رأتها مؤثرة على مصالحها بشكل لا يمكن تجاوزه؛ مما يجعلها مستعدة لتقديم “التعاون” في ملف سد النهضة مقابل التعاون في ملف البحر الأحمر وأمنه. إذن، بدأت إثيوبيا تشعر بالضغط المصري على البحر الأحمر، وبأنه “ماهر” على حد تعبير التقرير.
كذلك ينطوي هذا الإقرار من الإثيوبيين على أن للبحر الأحمر جانبًا أمنيًّا على مغالطة كبيرة؛ فبينما يلقي الكاتبان اللوم على مصر بزعم أنها تضفي الطابع الأمني على النيل، يريان أنه من الطبيعي أن يكون للبحر الأحمر “جانبًا أمنيًّا”؛ فهل الأمن قاصر على البحر الأحمر، ولا يجب أن يشمل النيل؟! كذلك هل يمكن المساواة بين قضية أمن قومي مصري ذات بعد حضاري مثل مياه النيل مع قضية مصالح أمنية بين البلدان يمكن أن تتغير لأي اعتبارات سواء داخلية أو خارجية، يصبح معها الاتفاق الأمني للبحر الأحمر لاغيًا أو خاليًا من المضمون؟!
لكن هذه ليست المغالطات الوحيدة التي وقع فيها الكاتبان في التقرير الذي يخرج عن نطاق التقرير البحثي إلى مقال سياسي الدوافع بامتياز؛ فأين تجلت المغالطات الأخرى؟!
مغالطات وحقائق ملتوية
وقع الكاتبان في العديد من المغالطات فيما يخص المقارنة بين الاتفاق العراقي التركي وملف سد النهضة، وتقييم رؤية مصر لملف النيل، وتقييم تعامل إثيوبيا مع ملف سد النهضة والاتفاقات الدولية.
الاتفاق العراقي التركي.. بيئة مختلفة تمامًا
من بين تلك المغالطات تقديم الاتفاق المائي العراقي التركي على أنه نموذج يمكن تطبيقه في ملف سد النهضة. لماذا؟! لأن المقارنة بين الوضعين غير متكافئة؛ فحوض دجلة والفرات تحكمه ديناميكيات جغرافية وسياسية مختلفة جذريًّا عن حوض النيل. كذلك فإن العلاقات بين العراق وتركيا قائمة على ترتيبات اقتصادية وأمنية مختلفة كل الاختلاف بين مصر وإثيوبيا؛ فالعراق وتركيا دولتان مجاورتان بينهما علاقات اقتصادية؛ مثل التبادل التجاري الحدودي وامتداد أنابيب النفط، وعدد من القضايا الأمنية؛ مثل قضية حزب العمال الكردستاني. كل هذه العوامل أدت إلى إيجاد بيئة تسمح بـ”صفقة” تبادلية واضحة: النفط مقابل الماء؛ وهي العوامل التي تغيب عن العلاقات بين مصر وإثيوبيا.
“أمننة النيل” في مقابل الاستغلال السياسي الإثيوبي للسد
ينطلق التقرير من فرضية مغلوطة مفادها أن مصر تضفي الطابع الأمني على نهر النيل وترفض أي تعديلات في حصتها لاعتبارات داخلية “تجنبًا للسخط الشعبي”. هنا يتجاهل التقرير عن عمد أن مصر تعتمد على مياه نهر النيل في توفير نحو 97% من احتياجاتها من المياه؛ الأمر الذي يجعل بالفعل من نهر النيل شريان حياة للمصريين وقضية وجودية. في المقابل يتجاهل التقرير أن إثيوبيا تستخدم ملف سد النهضة كورقة سياسية لدعم الموقف الداخلي للحكومة، والترويج لذاتها في القارة الإفريقية باعتبارها نموذجًا تنمويًّا يؤكد قدرة بلدان القارة على التنمية بعيدًا عن قوى الاستعمار القديم؛ وهي السردية التي تلعب بها إثيوبيا على وتر كراهية الأفارقة للاستعمار. إذن، الإشارة إلى أن “أمننة” مصر لنهر النيل مجرد محاولة للتغطية على الاستغلال السياسي الإثيوبي للملف في الداخل والخارج.
الدستور المصري أم التعنت الإثيوبي؟!
يلعب التقرير على وتر أن وضع النيل في مصر مذكور في دستور البلاد؛ مما يجعل أى اتفاق يتطلب تعديلات في الدستور المصري؛ وهو ما يزعم الكاتبان أنه عائق. لكنَّ الكاتبين هنا يتغافلان أن التوقيع على اتفاقات مرنة، تتماشى مع الدستور المصري، وتحفظ حقوق البلاد، لا يتطلب تعديلًا دستوريًّا. كذلك يتغافل الكاتبان أن السبب الحقيقي وراء عدم توقيع أي اتفاق ينهي أزمة الملف هو رفض إثيوبيا الانخراط في مفاوضات دبلوماسية حقيقية، ورفضها أي إطار ملزم قانونيًّا لملء السد وتشغيله يضمن التدفقات المائية لمصر والسودان خلال فترات الجفاف الممتدة، بالإضافة إلى رفض تقديم أي ضمانات بخصوص سلامة السد. يشكّل كل هذا تحديات جوهرية تعرقل أي جهود لتسوية الملف بما يحفظ حقوق الأطراف كافة.
مغالطات أخرى…!
من أوجه لي الحقائق الأخرى في التقرير الإثيوبي أنه بينما ينتقد اعتماد مصر على الاتفاقيات القديمة، ويصفها بأنها “تعود إلى الحقبة الاستعمارية”، لا يعالج بوضوح مدى التزام إثيوبيا بمبادئ “عدم إحداث ضرر ذي شأن” و”الإخطار المسبق”؛ وهي المبادئ المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997. وعلى الرغم من عدم توقيع إثيوبيا على الاتفاقية، فهي تُعد مرجعًا قانونيًّا معتبرًا في تفسير قواعد الاستخدام المنصف.
كذلك يغالط التقرير الإثيوبي من خلال تصوير خلاف سد النهضة على إنه خلاف تقني إداري على التعامل مع السد؛ فذلك يغفل العديد من الحقائق الحضارية والأمنية والاقتصادية والجيوسياسية المرتبطة بالملف؛ ومنها موقع النيل في الهوية الجمعية المصرية، والتنافس السياسي بين البلدين في القرن الإفريقي؛ وهو ما يتجاوز مجرد خلافات تقنية إدارية.
وبينما يشن التقرير هجومًا حادًّا على السياسة المصرية، “يتعامى” عن التشتت الداخلي في إثيوبيا، وتأثير النزاعات الداخلية فيها على التزاماتها الإقليمية؛ لأن أي نموذج تسوية لا بد أن يراعي هشاشة الدولة الإثيوبية وقدرتها المحدودة على بناء توافق داخلي طويل الأمد حول قضية بحجم السد.
الخلاصة
يقدم التقرير الإثيوبي نموذجًا مهمًّا للنظر في إمكانات التعاون المائي بطرحه النموذج العراقي التركي، لكنه يقدمه في قراءة غير متوازنة وأحادية للواقع في حوض النيل تلوي الحقائق وتمتلئ بالمغالطات التي لا تحتاج سوى إلى خلفية بسيطة لكشف مدى هشاشتها ومراوغتها.

