مؤشرات عسكرية علي تراجع النفوذ الفرنسي
باتت غالبية التقديرات تتفق على تراجع النفوذ الفرنسي في وسط وغرب أفريقيا، على الرغم من مساعي باريس تغيير استراتيجيتها في المنطقة، للحيلولة دون تقويض نفوذها تماماً. وبعد أن كانت فرنسا تهيمن على نحو ثلث دول القارة في مرحلة ما، بدأ النفوذ الفرنسي يتراجع بشكل مضطرد منذ مطلع القرن الحالي.
تشهد الفترة الحالية بداية الإنهيار الفعلي لنفوذ فرنسا التاريخي في القارة الأفريقية بشكل عام وغربها بشكل خاص، حيث سحبت فرنسا قواتها كاملة من مالي منتصف أغسطس الماضي، وبعد أسابيع قليلة من اكتمال انسحابها من مالي، أشارت تقارير فرنسية إلى سحب باريس أيضًا بقية قواتها الموجودة في جمهورية أفريقيا الوسطى قبل نهاية 2022، وهو ما يعكس مؤشراً مهماً بشأن استمرار تراجع نفوذ باريس في الساحل وغرب أفريقيا، لاسيما في ظل تصاعد الحضور الروسي في هذه المنطقة، وأشارت تقارير إلى استعداد فرنسا لسحب آخر 130 عسكرياً لها موجودين في أفريقيا الوسطى، وأن الانسحاب بدأ من منتصف أكتوبر الماضي، وذلك بعد أن أعلنت بإكتمال سحب قواتها من مالي بشكل نهائي ١٥ / ٨/٢٠٢٢.
أرشيفية
المؤشرات الاقتصادية خير برهان
انخفضت القيمة الإجمالية للصادرات الفرنسية للدول الأفريقية إلى النصف بين عامي 2000 و2021، في ظل وجود منافسيين دوليين آخرين، حيث تجاوزت الصين الحصة الفرنسية من السوق الأفريقي منذ عام 2007، وأصبحت بكين تمتلك حالياً أكثر من ثلاث أضعاف حصة باريس، بل أن ألمانيا باتت تتفوق على فرنسا كأكبر الموردين الأوروبيين لأفريقيا. أما من حيث حجم الاستثمار في القارة السمراء، فتحتل هولندا المركز الأول بين الدول الأوروبية، وتعكس مؤشرات التجارة الفرنسية مع أفريقيا أن شركاء باريس الرئيسيين في أفريقيا باتوا من خارج دول غرب أفريقيا الناطقة بالفرنسية.
ووفقاً لنتائج استطلاع الرأي السنوي “أفريكا ليدز” (AfricaLeads) الأخير الذي تجريه “جمعية أرباب العمل الفرنسية”، فإن صورة فرنسا تتدهور بشكل مستمر في أفريقيا، فقد باتت باريس تحتل المرتبة التاسعة في ترتيب الدول الأكثر فائدة بالنسبة لدول القارة الأفريقية، فيما تصدرت الولايات المتحدة وكندا وألمانيا الترتيب
لماذا فشلت فرنسا في أفريقيا؟
١-سياسة التعامل الفرنسي في أفريقيا
إن إقليم غرب أفريقيا كان تحت الاستعمار الفرنسي، وبعد استقلاله ظلت فرنسا تتعامل بشكل معين كأنها الوصية عليه، ولم تستطع فرنسا حل أي مشكلة تواجه أفريقيا، حيث تدخلت في أفريقيا الوسطي، ولكن لم تحل أي شيء، أما مع دخول روسيا أصبح هناك استقرار نسبي للوضع.
وفيما يخص التحالف المالي لم تستطع فرنسا أن تصل إلي أي إنجاز ملموس، واعتبر أن تلويح فرنسا بسحب جنود قوة برخان لمحاربة الإرهاب للضغط علي حكومة مالي تأكيد علي أن باريس لا تفكر إلا في مصلحتها فقط، وليس مصلحة الشعوب الأفريقية، ويُري أن الوضع في مالي بدأ يتغير في العلاقات الموجودة بين الدول، وكذلك كره الشعب للوجود الفرنسي، لذا رحب الشعب بالبديل حتي لو كان روسيًا.
٢-الإنقلابات
شهدت بوركينافاسو إحدى مستعمرات فرنسا السابقة في 30 سبتمبر 2022 انقلاباً أطاح برئيس المجلس العسكري الحاكم الذي وصل إلى السلطة إثر انقلاب في 23 جانفي 2022، وكان هذا الانقلاب الذي أطاح الرئيس المنتخب روش مارك كريستيان كابوري الذي فشل في احتواء العنف الجهادي في البلاد، ليفقد الجيش البوركينابي السيطرة على نحو 40% من أراضي الدولة، و خرجت التظاهرات الشعبية قبل ساعات من الانقلاب للمطالبة برحيل القوات الفرنسية من بلادهم ما أظهر أن الوجود الفرنسي لا يحظى بقبول البوركينابيين الذين تظاهر المئات منهم أمام السفارة الفرنسية في واجادوجو .
وهو تقريباً نفس ما حدث في مالي المستعمرة الفرنسية السابقة أيضاً، إذ كانت مالي قد شهدت انقلاباً في بداية 2020، أطاح خلاله العسكريون بالرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا وتم تنصيب مجلس انتقالي يدير البلاد وصولاً إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية كانت مقررة في 2022، لكن في شهر مايو 2021 قام الكولونيل آسيمي جويتا الذي كان يشغل منصب نائب الرئيس الانتقالي باعتقال الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار وان، وتم احتجازهما في قاعدة عسكرية ليمسك بمقاليد الأمور في البلاد، كما أن القائد العسكري الجديد يعتبر فرنسا القوة الاستعمارية السابقة حليفاً للرجل الذي أطاح به، وقد شكل الرأي العام المالي المساند للانقلاب والحكومة الجديدة والرافض للوجود العسكري الفرنسي سببا لانقلاب مفاجئ في موازين القوى الداخلية في مالي لم يكن بحسبان باريس وحلفائها، ووضعها أمام تحد جعل أقل الخيارات خسارة بالنسبة لها هو الانسحاب العاجل من بلد فقدت فيه السيطرة على مفاصل الدولة بعد فقدان القدرة على حشد رأي عام موالٍ لها.
وقد أبرزت الانقلابات في مالي و بوركينا فاسو ملامح تحول غرب أفريقيا من الحضن الفرنسي إلى الحليف الروسي، فالدعم الروسي الضمني للانقلابيين في إفريقيا يمنحهم الحماية من العقوبات الأممية، كما يوفر لهم السلاح والذخيرة بشروط ميسرة، ناهيك عن إرسال مرتزقة فاجنر لدعم أنظمتهم الهشة، ما قد يغذي طموحات العسكريين في غرب إفريقيا للاستيلاء على السلطة مثلما حدث مؤخرا في غينا بيساو.
كما أن الشعوب الأفريقية تفطنت إلى ازدواجية المعايير التي تستعملها فرنسا، عندما يتعلق الأمر بمصالحها. ففرنسا التي تدين الانقلابيين في مالي وغينيا وبوركينا فاسو هي نفسها التي تبارك الانقلابَين في تشاد، وبالنسبة لهذه الطبقة العسكرية المشبعة بمشاعر القومية الرافضة للهيمنة الفرنسية، فإن حكومات بلدانها خاضعة لنفوذ باريس وتنازلت عن جزء من السيادة الوطنية لصالح المستعمر القديم.
أرشيفية
تنامي الحضور الروسي في أفريقيا وغضب فرنسي
عملت موسكو على استغلال تراجع الوجود العسكري الفرنسي في بانجي بعد عام 2016 لتعزيز حضورها هناك، حيث أرسلت موسكو منذ عام 2018 مجموعة من المدربين العسكريين إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، قبل أن ترسل المئات من عناصر فاجنر الروسية شبه العسكرية في 2020.
تصاعد الحضور الروسي في أفريقيا الوسطى بشكل لافت خلال الفترة الماضية، حتى أصبحت إحدى الدول الحليفة لموسكو، كما لم تشهد أعداد عناصر فاجنر في بانجي أي تراجع منذ بداية الحرب الأوكرانية، بل شهدت زيادة ملحوظة خلال الأشهر الأخيرة، حيث يقدر العدد الإجمالي لعناصرها في أفريقيا الوسطى بنحو 1400 عنصر، وباتت الشركات التابعة لفاجنر تتحكم في إنتاج مناجم الذهب والماس في بانجي.
وعلى الرغم من بدء التقارب بين بانجي وموسكو منذ عدة سنوات، فإن باريس عمدت خلال الفترة الماضية إلى التمسك بوجودها العسكري في أفريقيا الوسطى، تحسباً لأي تحول محتمل في المشهد الداخلي، يمكن أن يمهد الطريق أمام استعادة باريس نفوذها هناك، لكن يبدو أن المعطيات الداخلية جعلت فرنسا تدرك صعوبة تخلي موسكو عن نفوذها المتنامي في بانجي، وهو ما دفع باريس لسحب قواتها.
صبّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال حضوره قمّة منظمة الدول الفرنكوفونية في جربة التونسية، والتي انعقدت في 19 و20 نوفمبرالماضي، غضبه على روسيا، التي يتزايد نفوذها في أفريقيا، على حساب المستعمر الفرنسي السابق.
وحمّل ماكرون، موسكو، مسؤولية تغذية الشعور المناهض لفرنسا، في القارة السمراء، مع تنامي الدور الروسي، في عدد من دول القارة، لا سيما في منطقة الساحل الأفريقي (بوركينا فاسو، مالي، النيجر، تشاد وموريتانيا)، وحيث يعمل مرتزقة شركة “فاجنر” الروسية في أكثر من بلد أفريقي على دعم السلطة، وفق تقارير وثّقت النشاط العسكري الروسي غير الرسمي فيها.
وأعاد ماكرون أسباب تنامي النفور الشعبي في عدد من المستعمرات الفرنسية السابقة في القارة، بالتدخل الروسي، وحتى من قبل جماعة “المؤثرين” من الناشطين الأفارقة، المناهضين للسياسة الفرنسية في أفريقيا، الذين بات يربطهم الفرنسيون بالكرملين. ويضاف هذا إلى “الطلاق” السياسي الذي انتهجته مالي مثلاً مع باريس، وإضعاف الانقلاب في بوركينا فاسو للنفوذ الفرنسي فيها.
تقديرات انسحاب فرنسا من أفريقيا
يمثل قرار باريس بسحب قواتها الموجودة في بانجي ومالي أحد ملامح الاستراتيجية الفرنسية الجديدة، والتي تستهدف توسيع انتشارها في خليج غينيا، والتحول من الانخراط العسكري المباشر إلى الاعتماد أكثر على القوات المحلية، في ظل تنامي وتيرة السخط الشعبي في غالبية دول منطقة الساحل وغرب أفريقيا من الوجود العكسري الفرنسي، وبالتالي تستهدف باريس تخفيف المشاعر المعادية لها في المنطقة عبر تقليص الانخراط العسكرى المباشر.
توظيف الفراغ الأمني
تسعي باريس إلى محاولة إيجاد حالة من الفراغ الأمني لدى الدول التي تسعى للتخلص من النفوذ الفرنسي، لمحاولة التأكيد على أهمية دورها في المنطقة، والحيلولة دون استمرار انحسار دورها في المنطقة.
لاتزال الميليشيات المحلية التابعة لتحالف “سيليكا” تشن حرب استنزاف ضد قوات الجيش في أفريقيا الوسطى وعناصر فاجنر الروسية، وهو التحالف الذي كان قد أطاح بالرئيس السابق، فرانسوا بوزريزي، في عام 2013. وفي هذا السياق، ألمحت بعض التقديرات إلى أن باريس ربما تستهدف زيادة الضغوطات على بانجي وفاجنر، من خلال خلق فراغ أمني متعمد في البلاد.
وفي الختام، تشير محصلة ما سبق إلي تراجع للنفوذ الفرنسي في أفريقيا، فإنه يبقى مرشحا لمزيد من التراجع بسبب استمرار سياسة باريس في تعاملها مع القارة السمراء بنظرة أمنية استعمارية خالية من أي بعد اقتصادي، على عكس كثير من الدول الأخرى التي رأت في التنمية والشراكة التجارية المنفذ لولوج أفريقيا المرشحة لأن تشهد في السنوات المقبلة تزايد معدلات النمو الاقتصادي عالميا،وذلك التراجع ساهم في تزايد التنافس الدولي في إفريقيا خصوصا مع دخول لاعبين جدد مع روسيا وفرنسا وهم لا يملكون مشتركات كثيرة مع فرنسا بل يعتبرون نفوذها عقبة أمام تمددهم في إفريقيا.