الشواغل المصرية
أولت مصر اهتمامًا بمكونات الشعب الجنوب سوداني، فكانت ثاني دولة في العالم تعترف بجمهورية جنوب السودان كدولة مستقلة بعد السودان، مما يؤكد حرص مصر على دعم وتعزيز العلاقات وإقامة علاقات دبلوماسية معها، ودعم رغبة شعبها في تكوين دولة مستقلة، والتوصل إلى حلول للصراعات بالطرق السلمية لتحقيق الاستقرار وبما يؤمن علاقات جيدة مع جنوب السودان والقارة الأفريقية، ومنذ ذلك التاريخ حرصت القاهرة وجوبا على التنسيق لتحقيق الاستقرار في جنوب السودان ومنطقة القرن الأفريقي، كما شهدت العلاقات المصرية – الجنوب سودانية تطورًا كبيرًا في المجالات المختلفة، ومن ضمن تلك المجالات وأكثرها أهمية هو ملف التعاون المائي، بالإضافة إلى استمرار المساهمة المصرية بأكبر مكون في قوات حفظ السلام الدولية بجنوب السودان.
فتُعتبر جنوب السودان حجر الزاوية في حالة الاستقرار أو عدم الاستقرار في دول القرن الأفريقي وحوض النيل، نظرًا لحالة التشابك القبلي والعرقي بينها وبين جيرانها، وهذا الاستقرار له أهميته القصوى في ضمان الأمن المصري والإقليمي على حد السواء، ويعد عنصرًا من أهم عناصر الأمن القومي المصري على الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، فعدم استقرار جنوب السودان أو وجود لاعبين إقليميين منافسين للدولة المصرية، يُفسر بالضرورة وجود مهددات لبعض عناصر الأمن القومي المصري في عدة مجالات، فمثلًا قد يؤدي عدم الاستقرار في جنوب السودان إلى حرمان مصر من استمرار العمل في عدد من المشروعات المائية المرتبطة بتطوير حصتها من مياه النيل مثل مشروع قناة “جونجلي”، على الرغم من أن موارد مصر من مياه النيل المتدفق من جنوب السودان لا يتجاوز 15%، وعلى جانب أخر، هناك تخوفًا من قيام جنوب السودان بإعادة النظر في جميع الاتفاقيات السابقة المتعلقة باستخدام مياه النيل خاصةً اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان، استنادًا لكونها كانت جزءًا من تلك الاتفاقيات قبل أن تنال استقلالها عام 2011، وحسم الأمر عبر مشاورات مع السودان كي تنال حصتها، خاصةً بعد انضمامها إلى اتفاقية “عنتيبي” في يوليو 2024.
كما تُلقي استمرار الصراعات السياسية الحالية بين الرئيس “كير” ونائبه “مشار” وتصاعد حدة الانقسامات داخل المعارضة بظلالها على الأوضاع في المنطقة، حيث تضع كافة الاحتمالات لفوضى شاملة أو سيناريوهات التقسيم، وربما صراعات مسلحة ونشاط لعناصر الإسلام السياسي المتطرفة، علاوة على تأجيج هذه الصراعات من الخارج، مما يعني وجود بيئة محيطة بمصر تحمل عناصر عدم الاستقرار، فضلًا عن زيادة الضغوط المرتبطة بالتوجه إلى مصر للحصول على المأوى والسلع الغذائية لاسيما الضغط على البنى التحتية للدولة المصرية جراء تدفق اللاجئين من الدولتين حال نشوب صراعات مسلحة بينهما.
التدخلات الخارجية
خرقت حكومة جنوب السودان الاتفاق المبرم مع السودان بشأن منطقة ” أبيي” الغنية بالنفط والمتنازع عليها من الطرفين، وسعت لتقنين نتائج إستفتاء أجرى داخل الإقليم من طرف إحدى العشائر التابعة لجوبا حول الإنضمام لجنوب السودان، وربما تستغل الأولى الأوضاع السياسية والأمنية المتردية والحرب الدائرة بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع في احتلال المنطقة وضمها إلى أراضيها والسيطرة على حقول النفط الغنية بأبيى، محاولة منها فرض أمر واقع لتأكيد أحقيتها في المنطقة لاسيما وأن الحصول عليها قد يدفع في سبيل تهدئة الأوضاع الداخلية، وكذا تحقيق زيادة إنتاج النفط ورفع معدلات التصدير لإنعاش الاقتصاد الجنوب السوداني المتواضع، لم يكن هذا الخرق بدوافع داخلية فحسب، بل كان استنادًا على تحريض من دول إقليمية تسعى للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية من خلال التوغل في الشأن الأفريقي تحديدًا في جنوب السودان، بهدف السيطرة على منابع النفط، ومن ناحية أخرى دعم أطراف مناوئة لمصر في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي، لاستمرار حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وكانت لمصر مواقف واضحة إزاء قضية ” أبيي”، والتي تم تحويلها إلى محكمة التحكيم الدائمة بلاهاى لتحديد حدودها، إذ رحبت مصر – بجانب السودان – بالقرار الذى صدر عن المحكمة ودعت الأطراف إلى الالتزام به.
الدور المصري
وفقًا لهذه المعطيات، يبدو أن الموقف المصري في سعيه لضمان استقرار جنوب السودان من ناحية، وضمان المصالح المصرية فيها من ناحية أخرى، أمام توازنات حرجة، ويتبلور هذا الموقف من خلال الحرص على خلق علاقات تعاونية لا صراعية مع جنوب السودان، لضمان الأمن الإقليمي والمصالح المصرية، وكذا فتح فرص لمجالات التعاون التنموي تحقق حالة من التوازن الدقيق في العلاقات مع كافة الدول المعنية، وقد يكون من المفيد طرح بعض المقترحات لتحقيق ذلك كالتالي:
1- دراسة إمكانية توفير التمويل اللازم لتفعيل وتسريع الحكومة المصرية لمجالات التعاون المستهدفة مع جنوب السودان في الملفات الاستراتيجية (الطاقة والكهرباء – البنية التحتية – المياه والري والسدود المائية – الزراعة والثروة الحيوانية – الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات – الطرق والكباري – الصناعة) وتذليل العقبات التي تواجه تنفيذ تلك المشاريع الإستراتيجية، بالإضافة إلى ملفات التعليم والصحة وتدريب الكوادر البشرية، وذلك من خلال زيادة حجم الاستثمارات المصرية والمشروعات الإستثمارية المشتركة، عبر إفساح المجال لمشاركة القطاع الخاص ورجال الأعمال المصريين وإعطائهم ميزات للاستثمار في جنوب السودان، تحقيقًا للأمن القومي المصري في شتى المجالات.
2- محاولات التهدئة وعودة الاستقرار في السودان، لتقديم أفضلية لاستمرار نقل النفط الجنوب سوداني عبر الأنابيب في بورتسودان، لوقف المخططات الخارجية الرامية إلى نقل النفط عبر إثيوبيا أو صومالي لاند.
3- التعاون مع حكومة جنوب السودان في تقوية المؤسسات الأمنية والدفاعية، لمواجهة التحديات المرتبطة بتواجد عناصر إرهابية في المنطقة.
4- نقل الخبرات المصرية في مجال بناء مؤسسات الدولة، ضمانًا لإحداث حالة من التوافق السياسي الوطني لإعادة الاستقرار في جنوب السودان.
5- العمل على انضمام جنوب السودان لتجمع “السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا – الكوميسا”، لما له من النفع على دول التجمع بشكل عام وجنوب السودان بوجه خاص، لاسيما الاستفادة المتبادلة من المميزات التي تمنحها “الكوميسا” للدولتين خاصةً المتعلقة بالإعفاءات.
6- التنسيق المشترك مع الأطراف الفاعلة بشكل أساسي في الأزمة السياسية بجنوب السودان، للعمل على إيجاد حلول سياسية وتوافقية لها ، بما يضمن الحفاظ على إستقرار جوبا والمصالح المصرية.
7- استمرار دعم مصر عسكريًا ضمن قوات حفظ السلام في جنوب السودان، مع دراسة إمكانية تقديم الخبرات والمساعدات اللوجيستية وتدريب كوادر المؤسسات العسكرية وبناء القدرات عسكريًا وأمنيًا، لمواجهة التحديات الأمنية والحركات الإرهابية، وذلك بهدف بناء جيش وطني موحد.
8- التحرك بصورة أسرع في الانتهاء من مشروعات إقامة السدود متعددة الأغراض لتوليد الكهرباء من الطاقة المائية، ودراسة الربط الكهربائي مع السودان ومنها لمصر، لقطع الطريق على أي محاولات من دول أخرى مجاورة في ذات الشأن.
9- العمل على تقريب مواقف السودان وجنوب السودان في مختلف الأصعدة، وإيجاد أرضية مشتركة بين الجانبين في المجالات السياسية والاقتصادية والتنموية والأمنية، لتأمين الجبهة الجنوبية من أي مخاطر محتملة مستقبلًا.