في منتصف شهر إبريل عام 2023 تفجرت أزمة سودانية مسلحة ما بين القوات النظامية متمثلة في القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي القائد العام للقوات المسلحة، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بـ حميدتي، في نزاع سرعان ما أخذ طابعًا متعدد الأبعاد، خاصة أن الجنرالان المتحاربان كانت المنافسة بينهما واضحة منذ توليهما تلك المناصب سالفة الذكرعقب إسقاط النظام السوداني السابق برئاسة عمر البشير، إلا أن كليهما حافظ خلال السنوات التي تلت إسقاط نظام البشير على تحالفهما وصولا إلى الاتفاق الإطاري في ديسمبر 2022، والذي نص على الشروع في عملية انتقالية لإرساء حكم مدني في السودان ودمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، إلا أن الطرفين اختلفا حول مهلة إنجاز هذا الدمج، ما تسبب في تفجر الأزمة بينهما ونشوب صراع مسلح ألقى بظلاله على الداخل السوداني والدول المجاورة له جراء موجات النزوح المتتالية منذ بدء الأزمة، وعمليات الإجلاء المتسارعة من قبل مختلف الدول التي يتواجد لها رعايا داخل الأراضي السودانية.

عمليات الإجلاء من الأراضي السودانية صاحبها تواجد عسكري أجنبي في ولاية البحر الأحمر خاصة بمنطقة بورتسودان، أحد أبرز المناطق في الأراضي السودانية والتي يتواجد بها ميناء بورتسودان منفذ السودان على البحر الأحمر، والذي يضم  6 موانئ متخصصة تشمل ميناء حيدوب لتصدير الثروة الحيوانية، وميناء سواكن للمسافرين، وميناء الخير وميناء بشائر لتصدير المواد النفطية ومشتقاتها، والميناء الجنوبي لتصدير واستيراد الحاويات، والميناء الأخضر لاستيراد السكر والقمح والسماد، كما تتميز المنطقة ذاتها بتواجدها ما بين مضيق باب المندب وقناة السويس التي يمر من خلالها ما يقارب 12% من إجمالي حركة التجارة العالمية، ما يجعل بورتسودان واحدة من أهم المناطق الاقتصادية إفريقيًا وعالميًا في الوقت الراهن لما تمثله من أهمية للتجارة العالمية بالبحر الأحمر، ومنطقة عسكرية هامة للقوى المتنافسة على التواجد العسكري في القارة الإفريقية.

سفن حربية ومسيرات أمريكية في بورتسودان

استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية فئات مختلفة من السفن الحربية بمساعدة من المسيرات في عمليات الإجلاء عبر بورتسوادن، باستخدام المدمرة يو إس إس تروكستون (DDG-103) من طراز أرلي بيرك، والتي تستخدم صواريخ موجهة، حيث تواجدت تلك المدمرة قبالة سواحل السودان، كما أرسلت واشنطن قاعدة بحرية استكشافية USS Lewis B. Puller (ESB-3)، والسفينة العسكرية يو إس إس بولير، لدعم جهود وزارة الخارجية في عمليات الإجلاء، وإرسالهم من أماكن تواجدهم برفقة الأسطول الخامس للولايات المتحدة،عبر مضيق باب المندب في 18 إبريل. (1)

التواجد العسكري الأمريكي في منطقة بورتسودان كان مدعوم جوًا خلال عمليات الإجلاء من قبل مسيرات جوية وقوات خاصة مكونة من مئات الجنود التابعين للذراع العسكري الأمريكي المتواجد في القارة الإفريقية تحت مسمى أفريكوم والذي تمثل القاعدة الأمريكية في جيبوتي أحد الدول الهامة في منطقة القرن الإفريقية والقريبة من السودان وبورتسودان تحديدًا.

 

الصين تنافس أمريكا في إفريقيا عبر السودان

الصين أيضًا سارعت لإرسال إحدى سفنها العسكرية لإجلاء مواطنيها من الأراضي السودانية، حيث أعلنت البحرية الصينية بتاريخ التاسع والعشرين من إبريل 2023 اتمام ثاني عملية إجلاء باستخدام سفينة عسكرية من بورتسودان إلى ميناء جدة بالمملكة العربية السعودية، والذي يبعد عن ميناء بورتسودان أكثر من 290 كيلو(على الضفة المواجهة لبورتسودان من البحر الأحمر)، وليس إلى الأراضي الصينية مباشرة، كما أن الصين أيضًا تمتلك قاعدة بحرية في دولة جيبوتي بمنطقة القرن الإفريقي، القريبة من السودان، والتي لا ترغب بكين في بسط دولة منافسة لها سيطرتها على مسار تجارتها بالبحر الأحمر. (2)

 

بريطانيا تبحث عن مدخل في بورتسودان

بريطانيا من جانبها أيضًا عملت على إثبات تواجد عسكري لها في بورتسودان، حيث أرسلت فرقاطة تابعة للبحرية الملكية لانكستر، إلى جانب البحارة ومشاة البحرية الملكية، لإجلاء مئات المواطنين البريطانيين من الأراضي السودانية، حيث ساعدت 3 مجموعات كوماندوز الفرقاطة البريطانية. (3)

الهند تحضر رسميًا إلى القارة الإفريقية بسفن عسكرية

والهند الدولة المتواجدة في أقصى جنوب أسيا، أرسلت كذلك سفينة عسكرية إلى ميناء بورتسوادن الذي أضحى ملاذًا للسفن العسكرية للدول تحت مظلة إجلاء رعاياها ، من الأراضي السودانية إلى الشاطئ الآخر من البحر الأحمر في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية. (4)

فرنسا ترسل أحد قطعها البحرية للبحر الأحمر  

فرنسا أيضًا أدلت بدلوها بإرسال الفرقاطة لورين عبر رحلة إبحار طويلة الأمد وتكليفها بإجلاء 400 شخص من السودان، والتي تعد الفرقاطة الثامنة والأخيرة من فئة آكيتاين للبحرية الفرنسية، والتي يتم استخدامها في عمليات انتشار طويل الأمد. (5)

السعودية تعلن تواجدها على الشاطئ الآخر

في حين أرسلت السعودية العديد من السفن العسكرية وغيرها مدنية إلى ميناء بورتسودان، لإجلاء رعايها ورعايا دول اخرى من السودان على خلفية الصراع الدائر بين القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع.

مصر تجلي رعاياها و تستقبل موجات من النازحين

وعلى الصعيد المصري أرسلت القاهرة سفينة عسكرية لإجلاء رعاياها ورعايا دول أخرى عالقين في المناطق السودانية، من ميناء بورتسودان إلى الموانئ المصرية، ضمن مساعي الإجلاء المصرية برًا عبر منفذي أرقين وقسطل، وبحرًا وجوًا، حيث وصل عدد من استقبلتهم الأراضي المصرية لأكثر من 150 ألف نازح من الجنسية السودانية والجنسيات الأخرى (حتى كتابة تلك الدراسة)، فضلا عن الرعايا المصريين.

مطامع إثيوبية للحصول على منفذ للبحر الأحمر

وإلى جانب التواجد العسكري من خلال الدول السابقة خلال عمليات الإجلاء يجب الإشارة إلى رغبة إثيوبيا للحصول على منفذ بحري للدولة الحبيسة في القرن الأفريقي بالاستحواذ على حصة في بورتسودان، أكبر ميناء بحري في السودان، من خلال اتفاقية جرى الإعلان عنها عام 2018، بين رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد والرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير. (6)

وتمثل المساعي الإثيوبية للحصول على منفذ بحري من خلال بورتسودان تهديدًا بالغ الأهمية على الأمن القومي المصري، عبر تواجدها على سواحل البحر الأحمر بوابة قناة السويس الجنوبية، والقريبة من الحدود الجنوبية، خاصة في ظل استمرار تهديد أديس أبابا أمن مصر القومي من خلال سد النهضة.

 

مظاهر وأبعاد التواجد العسكري في السودان والقارة الإفريقية

خلال السنوات الأخيرة تكثف الدول الكبرى من مساعيها لبسط نفوذها وزيادته داخل القارة الإفريقية كونها أكثر القارات امتلاكًا للثروات المعدنية إلى جانب كونها تتمتع بثروات نفطية ليست بالقليلة والتي تمكنها من لعب دور في موازين الطاقة العالمية، كما تتنافس كل من روسيا وأمريكا على بسط أكبر قدر ممكن من النفوذ في القارة الإفريقية من خلال النفوذ الاقتصادي تارة والنفوذ العسكري تارة أخرى، إلى جانب التواجد التقليدي للقوى الاستعمارية المتمثلة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا المتواجدة في القارة الإفريقية من خلال قواعد عسكرية أو تواجد عسكري تحت مظلة مكافحة الإرهاب.

كما تسعى الصين خلال العقد الأخير للتواجد العسكري في القارة الإفريقية لحماية خططها الاقتصادية من خلال طريق الحرير المار بعدد من الدول الإفريقية، إذ تمثل القاعدة الصينية البحرية في جيبوتي مقدمة للتواجد العسكري الذي تطمح إليه بكين بشكل متنامي خلال السنوات المقبلة تطورًا مع عمليات تنفيذ طريق الحرير عبر دول القارة.

وتتنافس الدول على النفوذ في إفريقيا كونها تمثل ملاذًا اقتصاديًا ومسرحًا عسكريًا مفتوحًا للصراعات المستقبلية من خلال الميليشيات المسلحة تارة ومن خلال التواجد الرسمي عبر القواعد العسكرية، وبالنظر إلى ميناء بورتسودان موضع الدراسة، تمثل ولاية البحر الأحمر كونها تعد بوابة بحرية مميزة للقوات في البحر الأحمر من خلال ميناء بورتسودان الواقع على طريق تجاري عالمي يمكن وصفه بالأبرز والأهم في شرق المنطقة.

كما يجدر الذكر بالمساعي الروسية والتركية خلال السنوات الماضية الرامية إلى إنشاء قواعد عسكرية لكل منهما في جزيرة سواكن السودانية، فعدم إتمام قواعد عسكرية لكل منهما في سواكن لا يعني إنهاء الرغبة نهائيًا.

الأضرار الاقتصادية على مصر من التواجد العسكري في شرق السودان

التواجد العسكري البحري في منطقة بورتسودان من شأنه أن يضر بالاقتصاد المصري بشكل مباشر من خلال التأثير على قناة السويس وحركة التجارة العالمية حال احتقان الأوضاع في تلك المنطقة بين القوى المتنافسة على بسط نفوذها، وذلك لما تمثله حركة التجارة العالمية في البحر الأحمر بداية من مضيق باب المندب وصولا إلى قناة السويس ذاتها في الشمال من أهمية في توفير العملة الأجنبية الرافد الرئيسي في المعاملات التجارية المصرية مع الدول الأخرى،  الأمر الذي من شأنه أن يهدد توقعات القاهرة بنمو إيرادات القناة الدولارية لتسجل 8.8 مليار دولار حتى نهاية العام 2023.

كما أن التواجد العسكري المتباين بين القوى الإقليمية والدولية المختلفة على مقربة من الحدود المصرية الجنوبية من شأنه أن يهدد الاستثمارات المصرية القائمة على الشريط الساحلي بطول البحر الأحمر في الأراضي المصرية، إلى جانب إمكانية تهديد حركة التجارة من الموانئ المصرية ذاتها إلى الدول الإفريقية، وتهدد عمليات التبادل التجاري بين مصر والدول الآسيوية، التي تمثل الرافد الأساسي للمحروقات النفطية في مصر، والتبادل التجاري في مختلف القطاعات الأخرى مع دول القارة ذاتها.

ولا شك أن تلك الصراعات تلقي بظلالها على مصر كون البحر الأحمر الذي تطل عليه موانئ بورتسودان محل التواجد العسكري الأجنبي يقع على مقربة من باب المندب في الجنوب، وقناة السويس في الشمال، وتلك الأخيرة تعد أبرز شرايين الاقتصاد المصري، وأحد أعمدة الأمن القومي، إلى جانب قربها من الحدود الجنوبية المصرية ما يمثل تهديد أمني للقاهرة.

وارتباطًا بما سبق فمن المتوقع تكثيف مصر التواجد العسكري على الحدود البحرية السودانية لرصد أي عمليات تهريب يمكن أن تنطلق من السواحل السودان لما تشهده من انفلات، كما يتوقع زيادة وتيرة التنسيق الوثيق مع السلطات السعودية كونها تمثل الشاطئ المقابل للموانئ السودانية.

كذلك من المتوقع أن تلجأ مصر لزيادة قنوات التنسيق الأمني المكثف مع الجانبين الصيني والأمريكي كونهما يمتلكان قواعد عسكرية في دولة جيبوتي القريبة من ميناء بورتسودان، مع ترجيح التواجد المصري من خلال القوى الناعمة وغيرها في ولاية البحر الأحمر لمنع السيطرة عليها من قبل أي من القوى الإقليمية أوالدولية، مع عدم استبعاد زيادة الدعم المصري اللوجيستي للقوات البحرية السودانية لبسط كامل نفوذها على موانئ بورتسودان من جهة، مع تعزيز العلاقات المصرية مع كافة الأطراف السودانية والدول المحيطة بالسودان خاصة المطلة على البحر الأحمر وفي مقدمتها جيبوتي، إلى جانب تطوير الموانئ المصرية والخدمات المقدمة من خلالها في الجنوب المصري لتقديم الخدمات اللازمة للسفن في رحلات الذهاب والعودة من وإلى قناة السويس.ِ

المصادر

 

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version