هند رجب، طفلة فلسطينية من غزة، كان عمرها 6 سنوات عند استشهادها، استشهدت في29 يناير 2024م في حي تل الهوى بقطاع غزة. كانت سيارة عائلتها تحاول الهرب والنزوح إلى مكان تعتقد هي وبعض أقاربها أنه آمن، عندما تعرضت هذه السيارة ومن فيها لقصف دبابات إسرائيلية. بعد موجة القصف الأولى على السيارة، أصيبت هند بجروح بالغة. بقيت الطفلة على قيد الحياة لساعات، تستغيث وتناشد المساعدة من والدتها والمسعفين. تلقّى الهلال الأحمر الفلسطيني اتصالات من ابنة خالها “ليان” التي كانت ترافقها، تطلب المساعدة والعون والغوث. بعد مضي 12 يومًا من القصف والحصار، تم العثور على جثمان الطفلة هند وعائلتها داخل السيارة؛ كما استشهد المسعفون الذين حاولوا الوصول إليهم لإنقاذهم.
قال الجيش الإسرائيلي في البداية إن قواته لم تكن في نطاق إطلاق النار على السيارة. ومع ذلك، شككت تحقيقات مستقلة في هذا التأكيد، فقال تقرير لاحق للأمم المتحدة إن الجيش الإسرائيلي قصف سيارة هند، ثم قتل المسعفين اللذين كانا يحاولان إنقاذها وعائلتها. وعند سؤاله عن الواقعة في حينه، كان جيش الاحتلال يقول إن الحادث لا يزال قيد المراجعة، ويرفض الإدلاء بمزيد من التصريحات.
في المقابل نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تحقيقا استعانت فيه بصور الأقمار الصناعية، وجدت 4 مركبات عسكرية إسرائيلية على بعد أقل من 300 متر من موقع الطفلة وفي مرمى رؤيتها. ووفقا للتحقيق ذاته فإن الذخيرة التي أصابت سيارة العائلة وسيارة الإسعاف هي نفسها الذخيرة التي يستخدمها جيش الاحتلال، ووفقا لمختصين وخبراء أسلحة استعانت بهم الصحيفة تعرضت سيارة العائلة لنحو 72 طلقة خلال 6 ثوان. كما أوضح تقرير لمنظمة “فورينزيك أركيتكشر”- نشر في أبريل 2024م- أن سيارة العائلة تعرضت لإطلاق نار دبابة إسرائيلية، وقد تمكن من في الدبابة من رؤية السيارة ومن فيها بما في ذلك هند. كما أشار التقرير إلى أن مسعفي الهلال الأحمر الذين هرعوا لإسعاف هند تعرضوا عم أيضا لقصف دبابة إسرائيلية.
أصبحت قصة هند رجب رمزًا إنسانيا عاما لمأساة الشعب الفلسطيني، تُستخدم للتدليل على معاناة المدنيين في فلسطين عامة، وفي غزة خاصة، وبالأخص الأطفال تحت القصف. تناولت وسائط الإعلام العالمية، بمقالات وتحقيقاتها وتقاريرها الحقوقية، الحادثة بعمق، وبرزت الأصوات التي تطالب بمحاسبة المسؤولين. كما أن صوت هند وهي تستغيث، أو صور قصتها، تم تقديرها دولياً، ولا سيما في المهرجانات أو وفي وسائط الرأي العام، فأثارت الحادثة قضايا قانونية وإنسانية، منها أنها جريمة حرب؛ لأنها ارتبطت باستهداف المدنيين والمعدات الطبية والمسعفين، واستهداف سيارة إسعاف مدنية تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني، مما أدى إلى مقتل المسعفين، ومسؤولية القيادة العسكرية، عبر التركيز ليس فقط على من أطلق الرصاص، وإنما من أصدر الأوامر، ومن خطط للعملية.
تجاوزت مأساة الشهيدة هند رجب البعد الوطني الفلسطيني لتصبح رمزا يتجاوز حدود غزة وفلسطين والمنطقة العربية لتتحول إلى أيقونة عالمية يتحدث عنها العالم كنموذج يؤشر للعقلية التي تحرك جنود الاحتلال في قطاع غزة، تلك العقلية المختلة التي أبقت طفلة حبيسة الجوع والخوف، مع إطلاق النار متواصل من جنود اختبأوا خلف دبابتهم وخوذهم العسكرية أمام طفلة تستغيث بوالدتها التي احترق قلبها عليها، وبعد ذلك احترق قلب العالم عليها.
بقيت صرخات وتوسلات هند حاضرة في ذهن العالم، ولم تستطع الروايات الإسرائيلية المختلقة حول هذه الجريمة كتم صوتها، فقد بقيت روحها وستبقى تطارد جنود الاحتلال وضباطه في كل مكان عبر فيلم ومؤسسة يحملان اسمها.
هند صرخة تزلزل العقول والوجدان
قُدمت صرخات هند رجب واستغاثاتها في فيلم حمل اسم “صوت هند رجب”، فوثق الحكاية بتسجيلات صوتية حقيقية قبل أن ينقطع الاتصال، بهدف إظهار حجم الوحشية التي تشهدها غزة عبر تكثيف الضوء على الساعات الأخيرة في حياة طفلة قُتلت في القطاع برصاص جنود إسرائيليين.
تدور أحداث الفيلم عندما يتلقى مسعفو الهلال الأحمر الفلسطيني يوم 29 يناير 2024م نداء طوارئ من طفلة تبلغ من العمر ست سنوات محاصرة في سيارة تتعرض لإطلاق النار في غزة، وهي تطلب الإنقاذ أثناء محاولتهم إبقائها على الخط، يبذلون كل ما في وسعهم لتوصيل سيارة إسعاف إليها، لكنها استشهدت. وتعود قصة الفيلم الحقيقية لشهر يناير 2024، بعد شهور قليلة من 7 أكتوبر، حيث تلقى الهلال الأحمر الفلسطيني رسالة استغاثة مفادها “عمو قاعدين يطخوا علينا.. ساعدونا.. الدبابة بجواري ونحن في السيارة”.. وهى رسالة استغاثة من الطفلة الفلسطينية “ليان حمادة” قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء طلبها النجدة عبر الهاتف من الهلال الأحمر الفلسطيني في حي تل الهوى بمدينة غزة. تلتقط الخط الطفلة “هند” ابنة عم “ليان”، التي كانت بصحبة عمها “بشار” بسيارته بصحبته زوجته وأطفاله “سارة”، و”ليان”، و”رغد”، و”محمد”، بالقرب من محطة فارس للبترول في حى تل الهوى، حيث استهدفت قوات الاحتلال سيارتهم، ليستشهد هو وعائلته لتجد الطفلة هند نفسها محاصرة بين جثث أقاربها.
اعتمد الفيلم على تسجيلات الاتصالات الحقيقية للطفلة ونداءات الاستغاثة التي أطلقتها، فتدور أحداث الفيلم بالكامل في مركز اتصالات الإسعاف التابع للهلال الأحمر الفلسطيني. من هنا بات ينظر إلى هذا الفيلم على أنه فيلم الساعة، وسيبقى كذلك لأمد بعيد؛ لأن جزءا من هذه الديمومة يعود إلى الوضع الماثل في غزّة، الذي بات طرحاً عالمياً بين الشعوب والحكومات على حد سواء.
حظي الفيلم بحفاوة نادرة أثناء عرض خاص للصحافيين قبل العرض العام الأول، مما بشر بأن حظوظه كبيرة في الفوز بجائزة مميزة. كما استقطب الفيلم بعض الأسماء البارزة في هوليوود كمنتجين منفذين، مما منحه ثقلاً إضافياً في صناعة السينما.
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الجزء الأهم هو الطريقة التي تمت بها معالجة موضوع الطفلة هند رجب، فلا يعرض الفيلم ما حدث كسرد قصصي، بل يضيف إليه ثنايا ودقائق الحدث نفسه، لتكشف عن الواقع الكبير لمحنة غزّة وفلسطين، ومن فيهما من خلال موقع واحد وهواتف متبادلة، حيث يتلقى مركز الهلال الأحمر في رام الله مكالمة هاتفية عن قصف تلك السيارة، ويطلب من المركز التحرك لإنقاذ الفتاة.
الدراما ليست فقط في محاولة إنقاذ تلك الفتاة، التي تكوّمت جثث الضحايا فوقها في السيارة، بل في إدارة المركز المكبّلة بالقوانين والقواعد التي عليها أن تتعامل معها قبل أن تبدأ رحلة وصول سيارات الهلال الأحمر في غزّة إلى الضحية، بما في ذلك التعامل مع جيش الاحتلال نفسه. وفي واحدة من مشادات عديدة بين عمر ورئيسه مهدي، يصرخ الأول: “تطلب الإذن من الجيش نفسه الذي قتل ضحايا السيارة”. لكن مهدي ليس جباناً ولا يقل تأثراً بالوضع عن أي من العاملين في مكتبه. كل ما في الأمر أنه مكبل بخيارات محدودة، كل منها ينطوي على اتصال بجهة، عليها بدورها الاتصال بجهة أخرى، ليُفتح الطريق إلى تلك المنطقة من المدينة التي ارتكبت قوات الاحتلال فيها تلك المجزرة.
الأحداث الممثلة تقع في ذلك المركز. يوظف الفيلم ببراعة التسجيل الصوتي الأصلي للفتاة هند، التي لن تظهر لأن الكاميرا لن تنتقل إلى السيارة لتصوّرها. هذه ميزة بالغة الأهمية، لأنه لو فعل الفيلم ذلك، لأصبح الفيلم دراما عاطفية مباشرة بدلا ما يسجله في ساعة ونصف من تأثير وصدمات. الفيلم أشبه بصدمة تلقي الضوء على مأساة تقع، ولا يستطيع أحد التدخل لإنقاذ فتاة تستنجد عبر الهاتف. أي أن التمثيل يقتصر فقط على مايحدث في مكاتب الإسعاف رام الله، والباقي هو دور الصوت عبر الهواتف بين الضحية، التي لا تستطيع الحراك، ومسعفي المركز الذين بدورهم لا يستطيعون فعل شيء.
تنتقل الكاميرا عند النهاية فقط إلى سيارة مهشّمة وسط ركام الحي بأكمله، وبعد موت الفتاة داخلها. لا يكتفي الفيلم بهذه الصدمة النفسية التي تتلو صدمة الفيلم كله، بل تصوّر حقيقة أن قوات الاحتلال لم تكتف بقصف السيارة المدنية، بل وجهت قصفها بعد ذلك إلى سيارة إسعاف الهلال الأحمر وقتل سائقها ومسعفها على بعد أمتار قليلة، في تحدٍ وإثم واضحين.
وهكذا لعب الفيلم دوراً كبيراً في توجيه المشاهدين والمتلقين صوب الحقائق. المشاهدون والمتلقون لا يحتاجون إلى حكاية أكبر من تلك المعروضة، ولا إلى أن يلعب الفيلم دور المرشد لإثارة المشاهدين على الواقع المخزي الذي يقع في غزة وفلسطين، بل يقدّم الحالة كما هي من الواقع المعاش. يُقاس تأثير الفيلم برسالته وكيفية تقديم تلك الرسالة فنياً عبر الإخراج والتوليف وفن الصوت والصورة، والحقائق الحاضرة على الأرض. من هنا يكون فيلم “صوت هند رجب” بسيط التكوين عن حكاية حقيقية موّثقة ومسرودة بصدق.
وحول هذا الفيلم تقول مخرجته الفرنسية التونسية أن الدافع وراء تقديمها العمل، جاء بعد تأثرها العميق بنداء الاستغاثة الذي أطلقته الطفلة الفلسطينية قبل استشهادها برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي. وأوضحت بن هنية، من حوارها لمجلة هوليود ريبورتر، أن صوت هند ظل يلازمها، مما دفعها للتواصل مع جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني التي نشرت مقطعا من الاتصال للحصول على التسجيل الكامل. وتابعت: “حين استمعت للتسجيل، ما طاردني لم يكن فقط عنف ما حدث، بل أيضا الصمت بين الأصوات… كان عليّ أن أتوقف عن كل شيء لأروي هذه القصة”. وأضافت أنها سعت إلى “الحفاظ على صدق التجربة مع الحد الأدنى من التدخل الفني”.
استلهمت بن هنية الفيلم من المكالمات الأخيرة للطفلة هند الفلسطينية، التي علقت داخل سيارة في غزة بعد أن قصف جيش الاحتلال بالدبابات سيارة عائلتها. لقد ظلت هند على الخط مع طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني لأكثر من ساعة وهي ترجوهم إنقاذها، غير أن سيارة الإسعاف التي تحركت إليها استهدفت بدورها، مما أسفر عن استشهاد المسعفين الذين كانوا على متنها.
وبعد أن منعت بن هنية من دخول غزة، اختارت أن توصل ردها عبر السينما، فأنجزت عملا يدمج بين الوثائقي والدرامي، مستندة إلى تسجيل يمتد لـ70 دقيقة. تواصلت مع والدة هند للتأكد من رغبتها في مشاركة القصة مع العالم، قبل أن تسند أدوار المسعفين إلى ممثلين فلسطينيين، في حين أبقت صوت الطفلة كما هو من التسجيل الأصلي. وتوضح بن هنية أن الفيلم التزم بما جرى بدقة، إذ استند إلى التسلسل الحقيقي للأحداث: تسجيل اللحظات الأخيرة لأقارب هند داخل السيارة، ثم رسالة العم التي تكشف بقاء الطفلة ذات الأعوام الستة على قيد الحياة، يليها نداءات هند المستمرة، وصولا إلى المكالمة الأخيرة للمسعف الذي كان في طريقه لإنقاذها. وتؤكد أن الهدف كان الحفاظ على صدق التجربة كما وقعت، مع الحد الأدنى من التدخل الفني. وتقول المخرجة: “كنت خائفة أن أخون صوتها، وأن يعجز الفيلم عن تكريم ذكراها.. هذا العمل يتمحور حول نداء استغاثة سمعه العالم ولم يستجب له أحد. إنه يواجه ليس فقط الصمت الذي قابل صرخة هند، بل أيضًا التواطؤ الواسع، بما فيها وسائل الإعلام الدولية، التي اكتفت بالمشاهدة دون أن تقدم العون للأصوات التي تنادي من غزة”. وهنا تشير إلى الثقل الأخلاقي في تصوير اللحظات الأخيرة لهند، لتؤكد على أهمية رفض الصمت والتواطؤ، قائلة: “على الأقل، مع هذا الفيلم، لم يتم إسكاتي”، فاستخدمت لغة الفن لتعبر عن مشاعرها الشخصية كي لا تكون متواطئة، كونها لا تملك سلطة سياسية وليست ناشطة.
وترى بن هنية أن الخطوة الأهم تكمن في مشاهدة الفيلم نفسه، معتبرة أن دورها اقتصر على إنجازه، بينما يبقى استقباله بيد الجمهور. بالنسبة لها، مجرد أن يجد العمل من يشاهده يعد إنجازا في حد ذاته. وترى أن النظرة إلى السردية الفلسطينية لا تزال محاطة بالريبة، تعتقد أن هذا الوضع يجب أن يتغير، فمن العبث أن يظل العالم بحاجة إلى تذكير بأن الفلسطينيين بشر، لهم مشاعر وأحزان حين يفقدون أحبتهم. بالنسبة لها، تكرار مثل هذه البديهيات يختصر حجم المأساة.
وعن دافعها لإخراج هذا الفيلم تقول: “كان في هذا المشروع وهج خاص، شيء آني وحي… أثناء توقفي في مطار لوس أنجليس الدولي، سمعتُ تسجيلًا صوتيا لهند رجب تتوسّل طلبا للمساعدة. حينها، كان صوتها قد انتشر عبر الإنترنت. على الفور، شعرتُ بمزيج من العجز والحزن العارم، ردة فعل جسدية، وكأن الأرض تتأرجح تحتي… هذا الألم، وهذا الفشل، ملكٌ لنا جميعا. هذه القصة ليست عن غزة فحسب. إنها تُعبّر عن حزن يتخطى الحدود الجغرافية. وأعتقد أن الخيال، خاصةً عندما يُستمد من أحداث حقيقية مُثبتة ومؤلمة، أقوى أدوات السينما، أقوى من ضجيج الأخبار العاجلة أو الشرود المصاحب لتصفح الانترنت. السينما قادرة على حفظ الذاكرة. السينما قادرة على مقاومة النسيان”.
ولإبراز البعد الفلسطيني للطفلة هند حرصت المخرجة على أن تُظهر في عملها شاطئ غزة تحديدا؛ لأن والدة هند رجب- التي تظهر في نهاية الفيلم- “أخبرتني أنها كانت تُحب الذهاب إلى هناك. وتقول ساخطة: “عندما أرى شخصا مثل ترامب يتحدث عن ريفييرا، أسأل نفسي في أي عالم نعيش؟”.
وترى بن هنيه أن هذه المأساة أعمق من حدود فيلم واحد، فبينما تروى قصة هند، يتواصل سقوط الضحايا في غزة بأعداد يصعب حتى تخيل المدة التي قد يتطلبها أي تحقيق جاد في كل حالة، فتشير إلى أن قضية هند نفسها لم تُفتح بعد، وأن غياب الصحفيين عن الميدان يجعل الوصول إلى الحقيقة شبه مستحيل. ورغم ذلك يبقى الأمل قائمًا بأن يأتي يوم تتحقق فيه العدالة؛ لأن العالم بحاجة إليها.
وتضيف بن هنية: “الرواية المتداولة حول العالم هي أن مَن يموتون في غزة هم أضرار جانبية. أعتقد أن هذا تجريد من الإنسانية، ولهذا السبب فإن السينما والفن مهمان لإعطاء هؤلاء الناس صوتاً ووجهاً. نحن نقول كفى، كفى هذه الإبادة الجماعية”.
لقد استقبل الجمهور العالمى في المسابقة الرسمية في الدورة الـ82 لمهرجان فينيسيا السينمائي الفيلم بمزيج من التأثر، والغضب، والصدمة، واستمر بالتصفيق له 24 دقيقة بعد عرضه، فكان أطول تصفيق مُسجل لفيلم فى تاريخ المهرجان، كما ملأت القاعة هتافات “فلسطين حرة” مصحوبة بدموع الحضور.
وقبل عرض الفيلم للجمهور في مهرجان فينيسيا ظهر طاقم العمل على السجادة الحمراء حاملين صورة الطفلة هند، بحضور الممثل العالمي خواكين فينيكس والممثلة روني مارا اللذين ظَهَرا بدبوسين معلقين على ملابسهما دعما للقضية الفلسطينية. وشهد المؤتمر الصحفي السابق لعرض الفيلم حضورا واسعا من الصحفيين والنقاد. وافتَتَحت المؤتمرَ بطلةُ الفيلم الممثلة الفلسطينية سجى كيلاني بكلمات مؤثرة: “بالنيابة عنّا جميعا كممثلين.. ألا يكفي هذا؟ ألا يكفي القتل الجماعي، والتجويع، والتهميش، والتدمير، والاحتلال المستمر”. أما بطل الفيلم الممثل الفلسطيني معتز ملحيس، فقال إنه مر بتجارب مشابهة في طفولته. مضيفا: “أنا من جنين، بالضفة الغربية، لذا عندما كنت في العاشرة من عمري، عشت هذا النوع من الحياة، مثلما يحدث الآن في غزة… شعرت وكأنني عدت إلى طفولتي، لم يكن الأمر سهلًا، شعرت وكأنني متُّ ألف مرة عند سماع صوت هند”. ورفع الممثل الفلسطيني علم فلسطين وسط عاصفة من التصفيق.
لقد ظهرت بالفعل ملامح ناجحة لجولة الفيلم السينمائية، فبعد عرضه العالمي في مهرجان فينيسيا، سيشهد “صوت هند رجب” عرضه الأول في أمريكا الشمالية في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، ثم سينافس في المسابقة الرسمية لمهرجان لندن السينمائي، ومهرجان “سان سيباستيان” السينمائي الدولي في اسبانيا، وسينافس على جائزة الجمهور، وقسم السينما العالمية في مهرجان بوسان السينمائي الدولي في كوريا الجنوبية.
وهكذا يحكى الفيلم، الفائز بجائزة “الأسد الفضى”، حاليا ومستقبلا، قصة الطفلة الغزاوية “هند” التى استغاثت بالعالم، وقتلها الاحتلال الإسرائيلى بوحشيته المعهودة. بعد عرض الفيلم، لم تعد هند مجرد طفلة فلسطينية شهيرة، بل باتت رمزا للأبرياء الذين يُقتلون بصمت، وأيقونة الطفولة التى تواجه أعتى آلات القتل بدمعة، وصوت مرتعش، وحضورها فى مهرجان عالمى كبير يجعل من فلسطين حاضرة فى الفن، والذاكرة، والوجدان، ويفضح الاحتلال الإسرائيلى أمام جمهور لا يمكنه الادعاء بأنه لم يسمع، ولم يشاهد، وهذا يدعو الجميع لتوظيف مأساة غزة، وتجويع أهلها، وإبادتهم، كقوة ناعمة في الأفلام، والقصص لتحكى بكل اللغات كارثة القرن، بل كل القرون، حيث لم يسبق أن واجه العالم هذا التوحش فى العصور الحديثة.
هكذا وثق الفيلم حكاية هند رجب بتسجيلات صوتية حقيقية قبل أن ينقطع الاتصال، ليُعثَر عليها بعد 12 يوما جثة هامدة إلى جانب أفراد أسرتها، وقد مزقتهم رصاصات الاحتلال الإسرائيلى، 355 رصاصة، والجريمة وُثقت للتاريخ، والمحاكمات المستقبلية.
سيظل صوت هند مذعورا وهى تطلب الأمان ولم تجده: “تعالى خذينى”، صرخة لطفلة لم تكتمل، وكانت إسرائيل تأمل دفن جريمتها إلى الأبد. سيظل هذا العمل السينمائي خالدا للأبد. يُذكِّر العالم كله بما عانته تلك الطفلة، رمز البراءة المذبوحة فى غزة، مذكرا أن هناك مئات، بل آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين قُتلوا فى صمت مُطبق، ولم تُسجل لهم مكالمات استغاثة، ولم تَنقل شاشات العالم دموعهم الأخيرة إلا كأرقام فى تقارير متفرقة، لكنهم شركاء هند فى المعاناة، والشهادة، وجزء من الجريمة الكبرى، أو الحكاية التى لن تموت، وإلا مات العالم، وضميره إلى الأبد.
لا تزال هند رجب أبنة السادسة تثير الذعر والارتباك في صفوف الاحتلال الإسرائيلي الذي لم يستطيع كتم صوتها كما فعل بأصوات أكثر من 20 ألف طفل استشهدوا في قطاع غزة. بقي صوتها يزلزل القلوب ويدمي الأرواح ويرسل الدمع. لقد صفق لصوتها في مهرجان البندقية الدولي وسالت الدموع.
وجه هند وجه جميل يشع بالبراءة وسمرة طبعتها شمس غزة بكثير من النور، الطفلة الفلسطينية هند رجب التي قتلت بدم بارد مع عائلتها وعدد من المسعفين على يد جيش الاحتلال، بعد أن كانت الناجية الوحيدة من نيران الدبابات الإسرائيلية في سيارة هربت فيها مع 6 من أقاربها.
وفي هذا السياق أعلن المركز الوطني للسينما والصورة في تونس اختيار فيلم “صوت هند رجب” ليمثل تونس في فئة أفضل فيلم دولي في النسخة المقبلة من جوائز الأوسكار الـ98، بعدما حظي بدعم بارز من نجوم هوليود البارزين الذين انضموا إليه منتجين تنفيذيين قبل عرضه العالمي الأول في فينيسيا.
مقاطعة عالمية للسينما الإسرائيلية
ترتب على عرض الفيلم في مهرجان فينيسيا ونقل الصورة الحقيقة دون تزييف أو تحريف بصوت طفلة فلسطينية أن وقع عدد كبير من أكبر نجوم هوليود في العصر الحالي، ومعهم آلاف المهنيين من صناع السينما عبر العالم، على تعهد بمقاطعة المؤسسات السينمائية الإسرائيلية بسبب حرب الإبادة على غزة، فكان حدثا مهما وغير مسبوق، لذلك كانت آثاره لافتة داخل إسرائيل وبين داعميها من المؤسسات السينمائية الدولية. ويدعو التعهد- الذي أصدرته مجموعة عمال السينما من أجل فلسطين ووقعه أكثر من 4000 ممثل ومخرج ومنتج من جميع أنحاء العالم- المهنيين في مجال السينما العالمية إلى مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية، بما في ذلك المهرجانات ودور السينما والمحطات الإذاعية وشركات الإنتاج.
وتضاعف عدد الموقعين على المبادرة أكثر من 3 أضعاف منذ إصدارها لأول مرة، عندما وقع عليها 1300 من العاملين في هذا المجال. لذا سارعت رابطة منتجي الأفلام والتلفزيون الإسرائيليين لإصدار بيان تؤكد فيه أن الموقعين على التعهد يستهدفون الأشخاص الخطأ، إذ زعموا أن الفنانين هم الأصوات الرئيسة التي تسمح للجمهور بسماع ومشاهدة تعقيدات الصراع، بما في ذلك السردية الفلسطينية وانتقادات سياسات الدولة الإسرائيلية. وتحدث البعض في إسرائيل عن أفلام تتعارض مع السردية الإسرائيلية الرسمية، ومن بينها أفلام تناولت نكبة 1948م، لكنها استغربت أن يرى صانعو الأفلام الإسرائيليون أنفسهم ضحايا في هذه القصة، وتساءلت: “هل يعبّر صانعو الأفلام الإسرائيليون عن معارضتهم بشكل ملموس عن طريق رفضهم الخدمة في جيش الاحتلال والمشاركة في نظام يرتكب جرائم ضد الإنسانية؟ أم أن احتجاجهم يقتصر فقط على مجال الإبداع الفني؟”.
وترى رابطة “عمال السينما من أجل فلسطين” إذا أرادت المؤسسات السينمائية الإسرائيلية مواصلة العمل مع الموقعين على التعهد بالمقاطعة، فإن خيارهم واضح: إنهاء التواطؤ مع الإبادة الجماعية والفصل العنصري في إسرائيل، والاعتراف بالحقوق الكاملة للشعب الفلسطيني. وأكدت أن اليسار مثلا يبدي معارضة للاحتلال، لكنه لا يزال يلتزم بواجباته عندما يصدر الجيش إخطارات استدعاء طارئة، والإسرائيليون، بمن فيهم اليساريون، إما غير قادرين أو غير راغبين في ممارسة ضغط كاف على الحكومة لوقف الإبادة الجماعية، لهذا السبب يجب على العالم أن يتدخل حيث يفشل الإسرائيليون. المقاطعة ليست عملا انتقاميا “بل آلية تصحيحية”، المقاطعة قد تعزلكم وتجعلكم منبوذين على الساحة الدولية.
وهكذا جاء التعهد بعدم العمل مع المؤسسات السينمائية الإسرائيلية المتواطئة في الانتهاكات ضد الفلسطينيين، لشجب الرعب المقيم، مستلهمين من منظمة “سينمائيون متحدون ضد الفصل العنصري” الذين رفضوا عرض أفلامهم في جنوب إفريقيا إبان نظام الفصل العنصري، متعهدين بعدم عرض أفلامهم أو الظهور في/أو العمل بأي شكل آخر مع المؤسسات السينمائية الإسرائيلية- بما في ذلك المهرجانات ودور السينما وهيئات البث وشركات الإنتاج- المتورطة في الإبادة الجماعية والفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني”. وأمثلة التواطؤ في انتهاكات الحقوق الإسرائيلية تشمل “تبييض أو تبرير الإبادة الجماعية والفصل العنصري، و/أو الشراكة مع الحكومة التي ترتكبهما”. واستشهد التعهد بقرارات محكمة العدل الدولية التي خلصت إلى أن تهمة الإبادة الجماعية ضد إسرائيل مقبولة، وأن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية غير قانوني.
وهكذا دعا المدافعون عن الحقوق الفلسطينية المشاهير إلى استخدام نفوذهم ومكانتهم لزيادة الوعي بمحنة الفلسطينيين، فقال المخرج السينمائي المرشح لجائزة الأوسكار مايك ليرنر، وأحد الموقعين على البيان، إن التعهد كان “أداة غير عنيفة” لتقويض الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل في سلوكها ضد الفلسطينيين… تقع على عاتق كل فنان مستقل التفكير مسؤولية استخدام أي قوى تعبير يمتلكها لدعم المقاومة العالمية للتغلب على هذا الرعب”.
وهكذا حدث تحول في موقف هوليود، مركز السينما العالمية، فبعدما كانت مؤيدة لإسرائيل، وأنتجت أفلامًا مثل فيلم “الخروج (Exodus) عام 1960م، الذي مجّد تأسيس إسرائيل، وأدرجت بانتظام إشارات إيجابية عنها، تؤيد سرديتها وتنتقد بشدة السردية الفلسطينية، وتتهم أصحابها بالعنف والإرهاب. ولكن مؤخرا تحدث ممثلون ومخرجون علنًا ضد سياسات إسرائيل، وأحيانًا كان حديثهم النقدي على حساب حياتهم المهنية. فعلى سبيل المثال، خلال عام 2023م، تخلت وكالة المواهب عن الممثلة سوزان ساراندون التي وقعت على التعهد وحضورها مسيرة تضامنية مع فلسطين. وبعد اندلاع الحرب في غزة، فقدت ميليسا باريرا، الموقعة على التعهد نفسه، دورها في سلسلة أفلام الرعب “الصرخة”(Scream) بسبب منشوراتها على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد إسرائيل. ومع ذلك، تستمر الأصوات المتعاطفة مع الفلسطينيين في التزايد بصوت أعلى في صناعة السينما. ففي شهر مارس فاز فيلم “لاأرض أخرىNo Other Land ” الفلسطيني/الإسرائيلي، الذي يركز على التدمير المستمر لمجتمع مسافر يطا الفلسطيني بالضفة الغربية المحتلة- بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي.
لقد جاء في بيان المقاطعة “بصفتنا صانعي أفلام وممثلين وعاملين في صناعة السينما ومؤسسات، ندرك قوة السينما في تشكيل التصورات… في هذه اللحظة من المذبحة الجماعية، حيث تسهم حكوماتنا في استمرار المذبحة في غزة، يجب علينا أن نفعل كل ما في وسعنا لمعالجة التواطؤ في ذلك الرعب الذي لا هوادة فيه”.
هند مؤسسة تلاحق الجناة
أصبحت قضية هند رجب ملهمة لتأسيس منظمة حقوقية تحمل اسمها تحاصر الجنود والضباط الإسرائيليين وتلاحقهم، كما حاصروها وقتلوها، وحاصروا وقتلوا آلاف الفلسطينيين غيرها. تأسست بعد حادثة استشهاد هند مؤسسة حقوقية حملت اسمها فسميت “مؤسسة هند رجب” في عام 2024م، واتخذت من مدينة بروكسل في بلجيكا مقرا لها. تأسست المؤسسة في البداية باسم “30 مارس” على يد ناشطين أوروبيين بهدف منع الإبادة الجماعية في غزة، وأخذت اسمها من مظاهرات 30 مارس 1976م، التي عُرفت منذ ذلك باسم “يوم الأرض”.
أخذت هذه المؤسسة على عاتقها مهمة ملاحقة العسكرين والمسئولين عن قتل هند وكل أبناء غزة المدنيين، مطالبة بالعدالة القانونية، فتعمل على توثيق الجرائم، وتقديم شكاوى في المحاكم الدولية والوطنية، عبر ملاحقة الجنود والضباط المسؤولين، بمن فيهم أولئك الذين يحملون جنسيات مزدوجة، إذ أن لديهم احتمالًا للمساءلة في دولهم الأصلية. فقامت بتقديم شكوى للجنة الجنائية الدولية في لاهاي بمسألة مقتل هند وعائلتها والمسعفين الذين حاولوا إنقاذها.
توصلت هذه المؤسسة الحقوقية إلى أن القيادة العسكرية المسئولة عن قتل هند وعائلتها هي قائد اللواء المدرع 401 في الجيش الإسرائيلي، الجنرال بني أهارون، ويتحمل المسؤولية المباشرة عن الهجوم الذي أدى إلى استشهادها. وأخذت المؤسسة على عاتقها تجميع الأدلة والبراهين من مصادر متعددة تشمل مقاطع فيديو وصور نشرها جنود الاحتلال على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحليل بيانات الأقمار الصناعية، وتقارير إعلامية وتحقيقات مستقلة، ودراسة البُعد القانوني.
وهنا طرحت المؤسسة عددا من التساؤلات الأخلاقية والمجتمعية حول كيفية تعامل القانون الدولي مع هذه النوعية من العمليات، مع ضرورة التمييز بين المدني والعسكري، وحماية الأطفال، والحق في الرعاية الصحية، وتحريم استهداف المسعفين كجزء من القانون الإنساني الدولي.
وتواجة المنظمة تحديات في جمع الأدلة، خاصة في مناطق النزاعات، مع القيود الأمنية، وصعوبة الوصول للمكان، وإمكانية تزوير أو حذف تسجيلات، والتسارع في التغطية الإعلامية والإشاعات، ودور الرأي العام والضغط الدولي. من هنا تعمل المؤسسة على رفع إسهام المؤسسات الحقوقية، والإعلام، والشبكات الاجتماعية في رفع الوعي وتعزيز المساءلة.
تعمل “مؤسسة هند رجب” على عدة محاور، منها محور توثيق الانتهاكات، فترصد الانتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين، خاصة جرائم الحرب، والقصف العشوائي، واستهداف الأطفال، وتدمير المنازل والبنية التحتية، ومنع وصول المساعدات الإنسانية. يركز المحور الثاني على الملاحقة القانونية، فتستخدم الأدلة الموثقة لرفع دعاوى قانونية ضد جنود وضباط إسرائيليين في محاكم دولية أو في بلدان يتيح القانون فيها الملاحقة الجنائية العابرة للحدود، عن طريق ما يُعرف بالـ”ولاية قضائية عالمية”. أما المحور الثالث فيعنى بمحاسبة القادة والمسؤولين، فلا تكتفي بملاحقة الجنود الميدانيين، بل تستهدف أيضًا القادة العسكريين والسياسيين، الذين يُعتقد أنهم اتخذوا أو أمروا أو أسهموا في ارتكاب تلك الانتهاكات. والمحور الرابع يهتم بنشر الوعي وجمع الأدلة، فتعتمد على جمع أدلة من مصادر متعددة، مثل الشهادات، والفيديوهات، والصور، والتسجيلات، بما في ذلك ما ينشره الجنود والضباط أنفسهم، وتحليل هذه الأدلة عبر خبراء قانونيين وتقنيين. أما المحور الخامس فيركز على إنهاء الإفلات من العقاب، بوصفه أحد الأهداف الأساسية لخلق “تكلفة قانونية وأخلاقية” للاحتلال الإسرائيلي، ووقف الإفلات من العقاب عبر محاكم لا تتجرّأ على المساءلة أو لا تستجيب للضغط الدولي.
وحول هذه الأهداف ومحاورها يقول مدير المؤسسة دياب أبو جهجة: “لن نبقى مكتوفي الأيدي، إذ تسعى المؤسسة إلى ملاحقة المجرمين الإسرائيليين في المحاكم الوطنية، وإنهم يقومون برصدهم ورصد المتعاونين معهم عندما يسافرون إلى الخارج”.
وقد جاء تحرك المؤسسة على المستوى القانوني في دول متعددة، فقدمت- مثلاً- شكاوى في البرازيل، وألمانيا، ورومانيا، واليونان وغيرها ضد جنود إسرائيليين. كما عملت على ملاحقة ضابط إسرائيلي بإيطاليا، فتقدّمت بطلب اعتقال ضد الضابط غسان عليان، بشأن استهداف الصحفيين في قضية اغتيال أنس الشريف وزملائه، فتقدمت بشكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، محملة قادة إسرائيليين مسؤولية تشمل القيادة السياسية والعسكرية.
وقد أوردت تقارير إعلامية مؤخرا أن المؤسسة طالبت السلطات اليونانية بالتحقيق مع جندي إسرائيلي شارك في الهجوم على متظاهرين فلسطينيين، وكشفت أيضا عن جندي رقيب في لواء جولاني متورط في جرائم حرب بغزة، وقدمت أيضا شكوى جنائية أمام المدعي العام للمحكمة العليا اليونانية، ضد ضابط برتبة رائد يدعى “يائير أوهانا”، خدم كقائد سرية في كتيبة المشاة 432 التابعة للواء جفعاتي بوحدة “تسبار”. وهي وحدة أساسية شاركت في حملات الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. والشكوى مدعومة بأدلة شامله تظهر أن أوهانا يتحمل مسؤولية جنائية فردية عن جرائم حرب وتعذيب وإبادة جماعية، فقد شارك بعمليات تدمير أحياء بأكملها واعتقال فلسطينيين بظروف غير إنسانية.
وتقول التقارير ذاتها إن المؤسسة جمعت معلومات عن أكثر من ألف جندي من مزدوجي الجنسية شاركوا في حرب غزة، وتم تقديم طلبات اعتقال ضدهم في عدة دول، وعمل جهاز الموساد على تخليص العديد من الجنود والضباط وتهريبهم من هذه الدول قبل اعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة.
من هنا باتت المؤسسة تثير الذعر والارتباك في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي ينشر جنوده على منصات التواصل فيديوهات وصورا توثق مشاركتهم في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. لهذا تمارس إسرائيل وبعض الدول الغربية ضغوطا وحصارا قانونيا ودبلوماسيا على هذه المؤسسة، فأصدرت قائمة عقوبات تستهدف شخصيات تعمل معها، منها رئيسها وبعض المؤسسين والمحامين المتعاونين معها. كما تقود حملات دعائية بهدف نزع الشرعية عنها، لتعطيل أنشتطها من خلال حملات دعائية ضدها، والتشكيك في مصداقيتها أو إثارة البلبلة بشأن ارتكابها تجاوزات، فضلا عن الإجراءات القضائية المعقدة. أضف إلى ذلك التحديات الأخرى المتمثلة في تعقيدات الملاحقات القانونية بين الدول المتمثلة في التفاوت والاختلاف بين أنظمة القضاء المحلية وحاجز الولاية القضائية الدولي. كما أن الأدلة القابلة للمساءلة غالبًا ما تكون عرضة للنقاش أو للتحريف.
وهكذا كشفت المؤسسة للعالم أن ممارسات جنود الاحتلال ليست فقط انحرافا وسلوكا فرديا عدوانيا وإنما تعبر عن نهج دولة وجيش وسياسات حكومة عنصرية متطرفة، وحول هذا يقول الحقوقي والمحامي شنير كلاين في مقال له بصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية بعنوان “الجنود المطلوبون في الخارج ليسوا أعشابا ضارة بل الجيش بأسره.. إنها صفة للجيش بهذه الحرب، وليست خطأ أو انحرافا عن القواعد”. من هنا لم يكن مستغربا أن ترفض وزيرة العدل البلجيكية آنيليس فيرليندن تقريرا إسرائيليا كيديا ضد المؤسسة.
وفي الذكرى السابعة لمولد هند، أعلنت المؤسسة تقديم شكوى رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، تتهم فيها الضابط برتبة مقدم بني أهارون قائد اللواء المدرع 401 في الجيش بالمسؤولية المباشرة عن قتل هند وعائلتها وطاقم الإسعاف الذي حاول إنقاذها، وقد تم الكشف عن هوية الضباط الميدانيين المسؤولين عن العملية وأدوارهم بالكامل.
لن تتوقف مطاردة المتورطين وملاحقتهم عند حدود غزة وإنما ستستمر، ربما لسنوات، بحسب خبراء في القانون الدولي، فجرائم الحرب والإبادة لا تسقط بالتقادم حتى وإن كانت الضحية لا تملك من وسائل القوة والمال والسطوة والتزييف والكذب التي يمتلكها القاتل وحلفاؤه. من هنا باتت “مؤسسة هند رجب” الحقوقية تثير الذعر والارتباك في صفوف جيش الاحتلال الذي ينشر جنوده على منصات التواصل فيديوهات وصور توثق مشاركتهم في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ولا تقف “مؤسسة هند رجب” وحدها في مطاردة القتلة، فقد أعلنت منظمات حقوقية في العديد من البلدان أنها تجمع معلومات عن جنود إسرائيليين نشروا مقاطع مصورة لأنفسهم وهم يرتكبون جرائم في غزة، لمطالبة السلطات المحلية باعتقالهم. وغيرت “مؤسسة هند رجب” والمنظمات الأخرى من تكتيكاتها حيث بدأت تتجنب نشر أسماء الجنود المستهدفين حتى لا تمنحهم الوقت للهرب من الدول التي تستهدفهم، ولزيادة فرص اتخاذ إجراءات قانونية ناجحة ضدهم.
وأمام هذه المطاردة وحالة الإرباك، أصدرت قيادة جيش الاحتلال تعليمات دخلت حيز التنفيذ بشكل فوري بإخفاء هويات الجنود والضباط المشاركين في الحرب على قطاع غزة، وكذلك فرض قيود على السفر للخارج، وحظر نشر الصور والفيديوهات وأسماء العسكريين والمضامين التي قد تستخدم كأدلة في الدعاوى بالمحافل الدولية.
هند الغائبة الحاضرة
عادت قصة الطفلة الفلسطينية الشهيدة هند رجب إلى الواجهة مجددًا، يتردد اسمها عاليًا بعدما وضع طلبة في جامعة كولومبيا عبارة “قاعة هند إلى الأبد” على واجهة قاعة هاميلتون باستخدام الأضواء، مذكرين العالم بالمأساة التي يمر بها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية والإبادة التي يتعرض لها أطفالم مثل هند.
وحول هذا الأمر تروي وسام حمادة، والدة هند، تفاصيل تلقيها خبر رفع اسم ابنتها على جدار القاعة: “كانت لحظة مفاجئة عندما أخبرتني امرأة في الشارع أنه تم وضع اسم ابنتي على جدار الجامعة، بكيتُ حينها لأنني تمنيت لو قاموا بهذه الحركة وقت استشهادها، ولكنني سعيدة أيضًا وأشعر بالتفاؤل؛ لأن قصة هند قد تغيّر في القضية الفلسطينية… لم أكن أتوقع يومًا أن تصبح هند رمزًا للقضية الفلسطينية، لكن بعد حادثة استشهادها وردود الفعل التي تلقيناها من الأسرة والجيران، ومن ثَم من المجتمع، شعرت بأن استشهادها لن يمر مرور هكذا، لم أتصور أيضًا أن تصل قصة هند إلى هذا المستوى العالمي”.