شهد شهر أكتوبر من عام 1973م انتصارات عظيمة سطرها الجيشان المصري والسوري في أقوى ملحمة عسكرية في التاريخ الحديث والمعاصر، في عملية مباغتة ومنسقة بين الجيشين لتحرير أرضهما في سيناء والجولان لتواجه الدولة الوليدة وجيشها المحتل أكبر اختبار منذ تأسيسهما عام 1948م، ليواجه المجتمع الإسرائيلي أهم صدماته التاريخية، الأمر الذي أحدث هزّة غير مسبوقة في بنية التفكير العسكري والسياسي، فكانت أول زلزال استراتيجي يضرب إسرائيل بعد ربع قرن من تأسيسها.
من هنا ينظر إلى حرب أكتوبر عام 1973م على أنها نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، والصراع الإسرائيلي العربي بشكل خاص، والمجتمع الإسرائيلي ووعيه الجمعي بشكل أخص؛ لأنها أحدثت صدمة نفسية واستراتيجية عميقة لا تزال آثارها حاضرة في هذا الوعي الجمعي.
ورغم أن حرب أكتوبر 1973م انتهت باتفاقيات وقف إطلاق النار، فإن نجاح القوات المصرية في عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف، وتقدم القوات السورية على جبهة الجولان، قلب موازين القوة وهدم مقولة رددتها إسرائيل وجيشها وهي “الجيش الذي لا يُقهر”، والتي جعلت منها أحد ركائز الردع الإسرائيلي لعقود.
لقد كشفت هذه الحرب عن قدرة الجيش المصري على التخطيط والتنفيذ الدقيق لعمليات عسكرية معقدة، تمثلت أبرزها في عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف. مثّل هذا الإنجاز صدمة استراتيجية لإسرائيل قياسا باحتلالها أراض أربع دول عربية في حرب 1967م. لقد فقدت إسرائيل في تلك الحرب آلاف القتلى والجرحى، كما تعرضت بنيتها العسكرية والاستخباراتية لانتقادات واسعة بسبب سوء التقدير والاستخفاف بقدرات خصومها العرب، من هنا مثلت هذه الحرب نقطة تحول استراتيجية ونفسية عميقة في إدراك إسرائيل لمفهوم الأمن القومي.
انعكست الهزيمة النفسية على الداخل الإسرائيلي بوضوح لتتصاعد حدة الانقسامات السياسية، فاهتزت الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية، واضطرت رئيسة الوزراء جولدا مئير (1898م-1987م) ووزير الدفاع موشيه ديان (1915م-1981م) للاستقالة، وتشكلت لجنة “أجرانات” لتحقق فيما حدث على المستوى السياسي والعسكري، فتقيل بعض القيادات العسكرية والأمنية. وفرضت نتائج هذه الحرب مراجعات شاملة للعقيدة الأمنية والاستخباراتية ليتم إدخال تغييرات واسعة، وكذلك في آليات الإنذار المبكر، واستراتيجيات الردع، إضافة إلى تعزيز خطط التعبئة والاستعداد الدائم والجاهزية العسكرية. فضلا عن آلاف القتلى والجرحى وخسائر كبيرة في العتاد العسكري.
ومنذ ذلك الحين، أصبح شهر أكتوبر يرمز في الذاكرة الإسرائيلية إلى لحظة انكسار استراتيجية ونفسية، ورسالة دائمة بأن التفوق العسكري لا يضمن الأمن المطلق.
وبعد مرور أكثر من خمسة عقود، ما زالت انتصارات أكتوبر تمثل جرحًا مفتوحًا في الوعي الإسرائيلي، يؤثر على تصورات صناع القرار، واستراتيجيات الردع، وسياسات الأمن القومي، بل وحتى في الثقافة العامة والخطاب الإعلامي، الذي يستعيد كل عام ذكرى “المفاجأة الكبرى” بمزيج من الخوف والحذر والتوجس من المستقبل.

أكتوبر 1973م واكتوبر 2023م
بعد مضي أكثر من خمسين عام استرجع المجتمع الإسرائيلي ذكرياته المؤلمة عن العمليات العسكرية للجيش المصري والسوري في عام 1973م في أعقاب العملية العسكرية المباغتة التي شنتها المقاومة الفلسطينية لتكون العملية المؤلمة التي ذكّرت أفراد هذا المجتمع بما حدث في أكتوبر 1973م، ففتح الجرح الذي كاد أن يندمل لكن ندوبه واضحة على جسد هذا المجتمع ووعيه وعقله ووجدانه.
جاءت أحداث أكتوبر 2023م لتؤكد على مخاوف المجتمع الإسرائيلي وهواجسه، فعمقت جروح الانكسار الاستراتيجية والنفسية، وأكدت على رسالة دائمة مفادها أن التفوق العسكري لا يضمن الأمن المطلق، ليفتح الباب أمام نقاشات داخلية واسعة حول طبيعة الردع الإسرائيلي، ومستقبل الصراع مع الفلسطينيين، وحدود القوة العسكرية في تحقيق الأمن.
ورغم أن انتصار أكتوبر عام 1973م نفذته جيوش دول عربية كبرى، وعملية أكتوبر 2023م نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية، ولامقارنة بطبيعة الحال بين الجيوش النظامية وتنظيمات المقاومة، فانتصارات أكتوبر 1973م كانت دائما هي المحك والمعيار الذي تقاس به أية عمليات عسكرية مركبة ومعقدة ونتائجها. في عملية أكتوبر 2023م تم اختراق الحدود التي رسمتها إسرائيل من جانبها بشكل غير مسبوق، وأسر وقتل مئات الجنود والمستوطنين، الأمر الذي أحدث أيضا زلزالًا أمنيًا وسياسيًا داخل إسرائيل، ففقد الجمهور الإسرائيلي أيضا ثقته بالمؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية، فاستقالت بعض القيادات العسكرية والسياسية وأقيل بعضها أيضا، وشن الجيش الإسرائيلي حربا إبادة على غزة ما زال أوارها مشتعل إلى الآن.
ماأشبه الليلة بالبارحة!
هكذا بات شهر أكتوبر يلقي بظلاله الحزينة ودلالاته السلبية في الذاكرة الجمعية الإسرائيلية، فهو يمثل فترة استثنائية محفورة بأحداث مفصلية هزّت أركان الدولة وأعادت تشكيل وعيها الأمني والسياسي، فهو شهر الأزمات الأمنية الكبرى، فارتبط بأحداث ووقائع قلبت ميزان القوى في المنطقة، وشكل بعض ملامحها في التاريخ الحديث والمعاصر، كما بات يذكّر من ناحية أخرى بهشاشة الأمن القومي الإسرائيلي، رغم التفوق الإسرائيلي العسكري والتكنولوجي الذي تروج له، بوصفه ضلعا من أضلاع قوتها وقدرتها على الردع، وإعادة هيكلة استراتيجياتها العسكرية والاستخباراتية.
الأحداث المفصلية التي شهدها شهر أكتوبر تبرز استمرارية مواطن الضعف البنيوية في منظومة الأمن الإسرائيلي رغم التطور التكنولوجي والاستخباراتي. من هنا بات ينظر لهذا الشهر من الناحية النفسية في إسرائيل على أنه مرادف- لما يعتبرونه- الخطر الوجودي على إسرائيل، ورمز للهشاشة الأمنية، مما يعمّق الشعور بالحذر والريبة تجاه البيئة الإقليمية.
وهكذا شكّلت الأحداث العسكرية والأمنية التي شهدها شهر أكتوبر في الماضي والحاضر صدمات مثلت دافعًا رئيسا لإعادة بناء المنظومة الأمنية والاستراتيجية السياسية لإسرائيل، إلا أنها أبقت جروح الماضي حاضرة في الذاكرة والوعي الجمعيين.
لقد أصبح شهر أكتوبر رمزًا متجددًا لجرح استراتيجي دائم في الذاكرة الإسرائيلية؛ فالأحداث التي وقعت فيه تؤكد أن التفوق العسكري لا يكفل الأمن المطلق، وأن إسرائيل ما زالت تواجه تحديات وجودية تعيدها إلى لحظة الانكشاف الأولى عام 1973م، وإن اختلفت طبيعة الخصوم والتهديدات. ويكشف هذا التكرار التاريخي أن أزمات أكتوبر ليست مجرد حوادث عسكرية، بل محطات مفصلية في إعادة صياغة إدراك إسرائيل لحدود قوتها ودورها الإقليمي، وفي إعادة رسم مستقبل الصراع الإسرائيلي العربي.

