محمود سامح همام
باحث في الشئون الأفريقية
في ضوء التحولات الديناميكية المتسارعة التي تشهدها الساحة الأفريقية، وتغيّر المنهج الأمريكي التقليدي القائم على المساعدات، استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 9 يوليو 2025 قمة أفريقية مصغرة في البيت الأبيض، جمعت رؤساء كل من الغابون، غينيا بيساو، ليبيريا، موريتانيا، والسنغال، في إطار توجه استراتيجي يعكس إعادة تموضع واشنطن في القارة من بوابة المصالح الاقتصادية والجيوسياسية المباشرة. وتأتي هذه القمة كترجمة عملية لتحول السياسة الأمريكية نحو شراكات قائمة على الاستثمار النوعي، وسط سباق دولي محموم على الموارد الاستراتيجية. هذا اللقاء، الذي يتزامن مع تصاعد التنافس الصيني الأمريكي في القارة، يطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة العائد الحقيقي الذي تطمح إليه واشنطن من هذه الدول الخمس، وما إذا كانت تسعى لاحتواء نفوذ بكين أو لتأمين سلاسل إمدادها بعيدًا عن مناطق النزاع، مقابل مكاسب محتملة لأفريقيا من شراكة قد تعيد رسم معادلة التوازنات الدولية في القارة، على أن تتضح ملامح هذا المسار بصورة أوسع خلال القمة الموسعة المرتقبة في سبتمبر المقبل.
أولًا: دوافع القمة الأمريكية‑الأفريقية المصغرة في البيت الأبيض (من القروض إلى المصالح)
عُقدت القمة الأمريكية–الأفريقية المصغّرة في إطار شراكات قائمة على المصالح الاقتصادية الصريحة والمكاسب الجيوسياسية المباشرة، ويمكن تلخيص دوافع عقد هذه القمة في أربعة أسباب رئيسية مترابطة:
1) تقويض النفوذ الصيني والروسي في القارة
تأتي القمة في ظل تزايد قلق واشنطن من التغلغل المتسارع للصين وروسيا في القارة السمراء، لا سيّما من خلال الاستثمارات الضخمة في قطاعات البنية التحتية والتعدين والطاقة، وتوقيع اتفاقيات طويلة الأجل توفر لتلك القوى نفاذًا استراتيجيًا إلى الموارد الحيوية. تمثل هذه الدول الخمس (الغابون، غينيا بيساو، ليبيريا، موريتانيا، السنغال) بوابات جيوسياسية مهمّة في غرب ووسط أفريقيا، وهي مناطق تستقطب اهتمامًا متزايدًا من بكين وموسكو. وعليه، فإن استضافة قادتها في البيت الأبيض تحمل رسالة سياسية مباشرة مفادها أن الولايات المتحدة لن تترك الساحة الأفريقية لقوى خارجية تنازعها النفوذ والمصالح.
2) إعادة تعريف العلاقة مع أفريقيا على أساس استثماري
القمة تعكس انحرافًا حادًا عن نموذج “المساعدات” الذي ميّز العلاقة الأمريكية–الأفريقية لعقود، وتأتي ضمن استراتيجية أوسع لوقف التوسع غير المشروط في التمويل الخارجي، حيث تم تقليص تمويلات USAID وتقليص المخصصات المباشرة للدول النامية. في المقابل، تروّج إدارة ترامب لـ”مبادرة أفريقيا المزدهرة” التي تضع الاستثمار والتبادل التجاري في صدارة أدوات السياسة الخارجية. هذا التوجه ظهر جليًا في دعم مؤسسة التمويل الدولي للتنمية (DFC) لمشروع تعدين البوتاس في الغابون، في إشارة إلى استعداد واشنطن للدخول كشريك اقتصادي حقيقي في تطوير سلاسل التوريد، لا كمصدرٍ للمِنح.
3) تأمين الموارد الاستراتيجية وتعزيز سلاسل الإمداد الأمريكية
تحت وطأة التوترات الجيوسياسية العالمية، تسعى الولايات المتحدة إلى تنويع مصادرها من المعادن النادرة والحيوية، وفي مقدمتها المنجنيز، الذهب، والليثيوم، وهي معادن تدخل في تصنيع البطاريات والتقنيات المتقدمة. القادة الأفارقة المشاركون في القمة قدّموا عروضًا استثمارية مباشرة في هذه القطاعات، ما يتماشى مع رغبة أمريكية في تطوير شراكات تستهدف ضمان استقرار الإمداد بعيدًا عن الاعتماد على سلاسل التوريد الآسيوية، خصوصًا في ظل تصاعد التوتر مع الصين.
4) إدارة ملفات أمنية مترابطة تتعلّق بالهجرة والإرهاب والجريمة المنظمة
لا تقتصر دوافع واشنطن على البعد الاقتصادي فقط، بل تشمل كذلك أولويات أمنية مثل مكافحة الهجرة غير النظامية، والاتجار بالمخدرات، والتصدي للتنظيمات المسلحة العابرة للحدود. الدول الخمس المدعوّة للقمة تُمثّل محاور تعاون محتملة في هذه القضايا، خاصة موريتانيا والسنغال اللتين تشكّلان نقاط عبور أساسية للهجرة نحو أوروبا، وليبيريا وغينيا-بيساو اللتين تواجهان تحديات تتعلق بشبكات الجريمة والتنظيمات المسلحة. ومن هذا المنطلق، سعت واشنطن إلى بناء أرضية مشتركة تعزّز من التنسيق الأمني الثنائي ومتعدد الأطراف.
ثانيًا: المكاسب الاستراتيجية للدول الأفريقية الخمس
في سياق تحوّلات استراتيجية تمسّ بنية النظام الدولي وتعيد تشكيل خرائط النفوذ في القارة الأفريقية، جاءت القمة الأمريكية–الأفريقية المصغّرة، التي استضافها البيت الأبيض في يوليو 2025، كمنصة سياسية واقتصادية متعددة الأبعاد، فتحت للدول الخمس المشاركة نافذة لتعظيم مكاسبها السيادية والتنموية عبر شراكة براغماتية مع واشنطن. فبعيدًا عن منطق الإعانات المشروطة، تسعى هذه الدول للاستفادة من التمويل، ونقل التكنولوجيا، وربط مصالحها الوطنية بمشاريع تتقاطع مع الأجندة الجيوسياسية الأمريكية، ضمن مناخ دولي يتسم بالتنافس المحموم على الموارد الحيوية وطرق الإمداد الاستراتيجية.
1) تمويل مباشر لمشروعات التعدين:
أعلنت مؤسسة التمويل الدولي للتنمية الأمريكية (DFC) دعمها المباشر لمشروع تعدين البوتاس في ميناء مايمبا بالغابون بقيمة 150 مليون دولار، وهو استثمار استراتيجي يهدف إلى تعزيز القدرات التصديرية للبلاد، وتحويل الغابون إلى مركز إقليمي لمعالجة المعادن، بدلًا من تصديرها خامًا.
2) فرص استثمارية في معادن استراتيجية:
قدّمت الدول المشاركة عروضًا تفصيلية للاستثمار في احتياطيات ضخمة من المنجنيز (الغابون)، الليثيوم (ليبيريا)، الذهب (غينيا-بيساو)، والحديد (موريتانيا). وتُعد الغابون ثاني أكبر منتج للمنجنيز في العالم، وتُقدر احتياطياتها المؤكدة بـ200 مليون طن، ما يجعلها فاعلًا حيويًا في تأمين سلاسل الإمداد الأميركية بعيدًا عن النفوذ الصيني.
3) التوسع في البنية التحتية الإقليمية:
ناقشت القمة سبل الربط بين هذه الدول من خلال ممرات لوجستية جديدة، وتطوير الموانئ وخطوط السكك الحديدية. ويُعد ميناء نواذيبو في موريتانيا أحد أبرز المواقع المقترحة لتوسيع صادرات المعادن، في ظل مشروع مرشّح للتمويل بقيمة 80 مليون دولار عبر آلية DFC.
4) دعم تقني وأمني متبادل:
أشارت CNN إلى اهتمام الولايات المتحدة بتقديم دعم تقني لتقوية البنية الأمنية للدول الخمس، لا سيما في مجال مراقبة الحدود ومكافحة التهريب والهجرة غير الشرعية، حيث رُصدت تمويلات مبدئية بقيمة 25 مليون دولار ضمن برامج التدريب والمعدات الأمنية، خاصة لموريتانيا والسنغال بوصفهما محاور عبور رئيسية.
5) مكاسب سيادية وسياسية:
أتاحت القمة لهذه الدول حضورًا سياسيًا مركزيًا في واشنطن، بما يمنحها وزناً أكبر في صياغة نمط شراكة متكافئة مع الولايات المتحدة، ويفتح بابًا لإعادة التفاوض على الاتفاقات التجارية السابقة، وتحقيق شروط أفضل في المشاريع المشتركة، في ظل احتدام التنافس الدولي على القارة.
من خلال أرقام واضحة ومشروعات استراتيجية، تُمثّل هذه القمة نافذة للدول الخمس نحو تعزيز الاستقلال الاقتصادي، وتكثيف الاستثمارات في الموارد الوطنية، وبناء شراكات قائمة على السيادة والمصلحة المشتركة، في وقت تتسابق فيه القوى الكبرى على النفوذ في أفريقيا.
ثالثًا: القراءة الجيوسياسية لاختيار الدول الخمس (المعايير الخفية)
في سياق التنافس الدولي المحموم على النفوذ في القارة الأفريقية، لم يكن اختيار الولايات المتحدة لخمس دول أفريقية فقط لحضور القمة المصغرة مع الرئيس دونالد ترامب قرارًا رمزيًا أو بروتوكوليًا، بل جاء استجابة لمعادلات سياسية واقتصادية دقيقة، تأخذ في الاعتبار التمركز الجغرافي، والثروات الاستراتيجية، والارتباط المباشر بقضايا الهجرة والأمن البحري. وبذلك، تمثل الغابون، غينيا-بيساو، ليبيريا، موريتانيا، والسنغال نماذج لدول تُحقق توازنًا استراتيجيًا بين متطلبات الأمن الأمريكي وضرورات الانخراط الاقتصادي في أفريقيا الغربية.
1) الموقع الأطلسي والبعد الجيوسياسي
تشترك جميع هذه الدول في خاصية جيوسياسية نادرة: انفتاحها البحري على المحيط الأطلسي، وهو ما يمنحها موقعًا استراتيجيًا بالغ الأهمية في حسابات الأمن البحري، والتجارة الدولية، وسلاسل الإمداد. ويشكّل ذلك عامل جذب حاسم في توجّه واشنطن نحو تعزيز وجودها في غرب ووسط أفريقيا.
2) الهجرة غير النظامية كأولوية أمنية
تشير البيانات الرسمية إلى أن عدد المهاجرين الأفارقة الوافدين إلى الحدود الجنوبية الأمريكية قفز من 13,000 عام 2022 إلى 58,462 عام 2023، مع تصدّر موريتانيا والسنغال لقائمة الدول المصدّرة للمهاجرين. وهو ما يجعل ملف الهجرة أولوية سياسية وأمنية لا تنفصل عن الاستراتيجية الأمريكية في غرب أفريقيا.
3) استقرار سياسي نسبي واستعداد للتعاون
تتميز هذه الدول، مقارنة بجيرانها، بقدر نسبي من الاستقرار، ما يجعلها أرضًا خصبة لعلاقات ثنائية فاعلة يمكن البناء عليها في ملفات متعددة من الأمن البحري ومكافحة الإرهاب، إلى الاستثمار في البنية التحتية والمعادن، وهو ما يفسر عدم دعوة واشنطن – خلال المرحلة الحالية – لدول تشهد إضطرابات أمنية واسعة مثل النيجر ومالى، رغم إمتلاكهما خام اليوانيوم الإستراتيجى.
إذن، لم يكن الاختيار القائم على “دول صغيرة بحجم اقتصادي محدود” عشوائيًا، بل تم بدقة ضمن منظور سياسي يرى في هذه الدول نقاط ارتكاز مثالية لمعالجة أولويات أمريكية متشابكة: تأمين الموارد، إدارة الهجرة، تعزيز النفوذ البحري، وتوسيع الشراكات الاقتصادية، بعيدًا عن الخطابات التقليدية للمساعدات والتنمية.
ختامًا، لا يمكن اعتبار القمة الأمريكية–الأفريقية المصغرة مجرد حدث دبلوماسي اعتيادي، بل تمثّل خطوة محسوبة في إطار استراتيجية أمريكية متعددة الأبعاد لإعادة التموضع في القارة الأفريقية، تقوم على المزج بين أدوات الاستثمار، والتأثير الجيوسياسي، والإدارة الأمنية العابرة للحدود. إذ بات واضحًا أن واشنطن لم تعد تكتفي بخطاب التنمية ولا بسرديات الشراكة التقليدية، بل تسعى إلى خلق معادلة نفوذ مرنة تُراعي متطلبات الاقتصاد العالمي والتحولات الجيوسياسية الكبرى. ومع اقتراب القمة الموسعة في سبتمبر، تبقى الأنظار معلّقة على مخرجات هذا المسار، الذي قد يُعيد رسم علاقة الولايات المتحدة بالقارة الأفريقية، في مشهد دولي تتسارع فيه معارك التموقع والصراع على الموارد الحيوية والنفوذ الجغرافي.