وردة عبدالرازق – باحثة في الشأن التركي
أعلن الرئيسان فلاديمير بوتين ودونالد ترامب عن لقاء يجمعهما في ولاية ألاسكا في ١٥ أغسطس الجاري، في ظل استمرار الضغوط الدولية لإنهاء الحرب الأوكرانية. هذا اللقاء يحمل في طياته رسائل لأطراف عدة، خاصة تركيا، التي تحافظ خلال الحرب الأوكرانية على موقع حساس بين موسكو وواشنطن. فبينما تستفيد أنقرة من العقوبات الغربية على روسيا، وتلعب دور الوسيط المقبول لدى طرفي النزاع في محطات عدة، يبدو أن هذا اللقاء قد يفتح الباب لتغيرات قد تؤثر على حساباتها السياسية والاقتصادية، كما قد تعيد رسم حدود دورها الإقليمي.
mostbet mostbet giriş mostbet mostbet girişتركيا قبل اللقاء: الاستفادة من العقوبات ودور الوسيط
منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، تتبنى تركيا سياسة توازن دقيقة بين الغرب وروسيا، هذا التوازن مكنها من الاستفادة المباشرة من العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، سواء سياسي أو اقتصاديا. فعلي الصعيد الاقتصادي، تضاعف حجم التجارة بين أنقرة وموسكو خلال عام واحد، حيث قفز من ٣٤,٧ مليار دولار في ٢٠٢١ إلى نحو ٦٨,٢ مليار دولا في ٢٠٢٢، قبل أن يستقر تقريبا عند ٥٠ مليار دولار في ٢٠٢٣، وفقا لبيانات رسمية. وتركزت الصادرات التركية إلى روسيا في المنتجات الصناعية والسلع الاستهلاكية، بينما شملت الواردات، الغاز الطبيعي والنفط والفحم والمعادن الثقيلة.
في قطاع الطاقة تحديدا، استفادت تركيا من خصومات كبيرة على واردات النفط الروسي، مما وفر لها نحو ٢ مليار دولار في ٢٠٢٣، كما ارتفعت وارداتها من النفط الخام الروسي إلى ٤٠٠ ألف برميل يوميا، وارتفعت صادرات الديزل التركي بنسبة ١٢٠٪ في الفترة ما بين يناير ونوفمبر من العام نفسه، بينما استحوذ الفحم الروسي على نحو ٧٠٪ من إجمالي واردات تركيا في ٢٠٢٣، بما يعادل ٢٤ مليون طن تقريبا.
سياسيا، لعبت أنقرة دور الوسيط النشط في أكثر الملفات الحساسة، وأبرزها “اتفاق الحبوب” الموقع في إسطنبول في يوليو ٢٠٢٢ بوساطة تركية ورعاية أممية، وسمح الاتفاق بتصدير الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود رغم استمرار الحرب، مما أسهم في تهدئة اضطرابات غذائية عالمية. ووفق تصريحات للرئيس أردوغان، فقد تم توجيه ٤٤٪ من الحبوب المصدرة إلى أوروبا، و١٦٪ إلى تركيا، بينما ذهبت ١٤٪ إلى أفريقيا.
من جهة أخرى، تحولت تركيا إلى ممر تحاري بديل للسلع الروسية نحو الأسواق العالمية، حيث شهدت حركة الشاحنات بين البلدين قفزة كبيرة، بعد أن تجاوز عدد الشاحنات التركية المتجهة إلى روسيا ١٨ ألفا في ٢٠٢٢، مقارنة ببضعة آلاف فقط في الأعوام السابقة. كذلك، تأسست أكثر من ١٣٠٠ شركة تركية روسية مشتركة في ٢٠٢٢، فضلا عن الاتفاق على تحويل تركيا إلى مركز لنقل الطاقة الروسية، ومساعدة روسيا لتركيا في مشروع محطة الطاقة النووية “أقويو”، مما يعكس عمق التكامل التجاري بين البلدين.
الفرص المحتملة بعد اللقاء
رغم ما يطرحه لقاء بوتين وترامب من تحديات أمام أنقرة، إلا أن المشهد لا يخلو من فرص محتملة يمكن لتركيا استغلالها لتثبيت موقعها كطرف سياسي فاعل في التوازنات الدولية؛ فبفرض أن اللقاء قد يسفر عن تقارب جزئي أو تفاهمات مرحلية بين واشنطن وموسكو، فإن أنقرة قد تجد نفسها في موقع يسمح لها بلعب دور “قناة تواصل” بين الطرفين، خاصة فى حال اعتماد مسار سياسي غير رسمي أو موازي للمؤسسات الغربية الرسمية.
في هذا الإطار، قد تنجح تركيا في تثبيت موقعها كحلقة وصل لا غنى عنها، سواء في ملفات استراتيجية مثل أوكرانيا وسوريا، أو في قضايا الأمن البحري والطاقة، ومن ثم قد يتحول هذا الدور إلى منصة تفاوضية دائمة، بما يمنح أنقرة هامشا إضافيا للتحرك، ووزنا دبلوماسيا إضافياً في المشهد الإقليمي والدولي.
على المستوى الاقتصادي، قد تفتح التفاهمات المحتملة بين الأطراف المعنية نافذة أمام مشروعات مشتركة ثلاثية أو متعددة الأطراف، في مجالات مثل الغاز الطبيعي أو البنية التحتية المرتبطة بالطاقة، أو حتى تطوير ممرات تجارية تربط آسيا بأوروبا عبر الأراضي التركية، في ظل امتلاك تركيا لموقع جغرافي فريد وعلاقات اقتصادية قوية مع الجانبين، مما يؤهلها للعب هذا الدور النشط، لكن بشرط الحفاظ على توازنها الدقيق.
وأيضا، لا يستبعد أن تشارك أنقرة في أي ترتيبات أمنية جديدة قد يجري التفاوض عليها بشأن البحر الاسود أو الشمال السوري، خاصة إذا ما تم الاعتراف بدورها في تأمين الممرات المائية، أو إذا استدعى تدخلها مجددا في ملفات التهدئة على الحدود أو داخل مناطق النفوذ المتنازع عليها.
بالتالي، فإن أي تقارب روسي أمريكي قد يحمل لتركيا فرصا لمزيد من التموضع السياسي وتوسيع مجال مناوراتها، شريطة أن تتحرك بسرعة لتطرح نفسها كشريك مؤسسي في أي مسار تفاوضي جديد.
التحديات المتوقعة بعد اللقاء
رغم أن تركيا تلعب دورا مركزيا خلال الحرب الروسية الأوكرانية في مساحات سياسية واقتصادية مهمة، إلا أن أي تقارب مباشر بين واشنطن وموسكو بعد لقاء ألاسكا قد يضع أنقرة أمام تحديات حقيقية على أكثر من مستوى. يتمثل أول هذه التحديات في احتمالية تراجع دورها كوسيط سياسي في الملفات الإقليمية والدولية الحساسة، خصوصا إذا ما عادت القنوات المباشرة بين القوتين للعمل بفاعلية، فمثل هذا التحول قد يهمش أنقرة دبلوماسيا، ويقلل من وزنها في المفاوضات المستقبلية، سواء المتعلقة بأوكرانيا أو سوريا أو البحر الأسود وغيرهما، خاصة مع سابق إعلان أردوغان استعداد بلاده لاستضافة قمة بين الرئيسين بوتين وزيلنسكي من جهة، ونجاح ترامب في قيادة وساطة بين أرمينيا وأذربيجان مؤخرا من جهة أخرى، مما قد يقلل من فاعلية الدبلوماسية التركية.
اقتصاديا، تشير المؤشرات الأخيرة إلى بداية تراجع المكاسب التي جنتها تركيا خلال فترة العقوبات على روسيا، على سبيل المثال، انخفضت صادرات أنقرة إلى السوق الروسية بنسبة ٣٣,٧٪ في الربع الأول من العام ٢٠٢٤، بعد أن كانت قد سجلت نموا استثنائيا في العامين السابقين، كما انخفض حجم التجارة الإجمالي بين البلدين من ذروته في عام ٢٠٢٢ إلى نحو ٤٦ مليار دولار في ٢٠٢٤، ويعزى هذا التراجع جزئيا إلى الضغوط الغربية المتزايدة، وحذر البنوك التركية من تسهيلات الدفع المرتبطة بروسيا، إلى جانب تقلبات اسعار الطاقة.
أما على المستوى الإقليمي، فهناك احتمال واقعي أن تشهد الساحة السياسية تفاهمات ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة تتجاوز تركيا تماما. في سوريا على سبيل المثال، قد تتوصل واشنطن وموسكو إلى صيغة تهدئة أو تقاسم نفوذ يستبعد أنقرة أو يحاصر تدخلها في مناطق الشمال السوري التي تعدها أنقرة عمقا أمنيا حيويا. وفي البحر الاسود، حيث تسعى تركيا لترسيخ حضورها الاستراتيجي من خلال مبادرات مثل “الممر الأوسط”، بالتالي فإن أي ترتيبات أمنية أو اقتصادية جديدة قد تبرم دون مشاركتها المباشرة قد تحد من تأثيرها ومكانتها كمحور استراتيجي في المعادلات الإقليمية.
ومن ثم، فإن أى تقارب روسي أمريكي – إن تحقق – قد لا يهدد المكاسب التي راكمتها تركيا خلال الحرب فحسب، بل ربما يفرض عليها إعادة تموضع كامل في ملفات كانت تعد جزءا أصيلا منها.
إجمالا، يحمل لقاء بوتين وترامب دلالات مزدوجة بالنسبة لتركيا؛ إذ يفتح من جهة نافذة لفرص دبلوماسية واقتصادية جديدة قد تعزز من موقعها كطرف إقليمي ووسيط سياسي، لكنه في الوقت نفسه يهدد بتقليص الدور الذي بنت عليه أنقرة حضورها خلال سنوات الحرب الأوكرانية، فإعادة ترتيب الأوراق بين واشنطن وموسكو قد تعني تجاوز الوساطات الإضافية، وإعادة صياغة تفاهمات استراتيجية لا تمنح فيها تركيا بالضرورة مقعدا متقدما.
في ضوء ذلك، تبدو الحاجة ملحة لتحرك تركي دبلوماسي سريع وفعال، سواء عبر الانخراط المبكر في أي مسارات تفاوضية مقبلة، أو من خلال تثبيت المصالح التركية في الملفات المفتوحة كالبحر الأسود وسوريا، وتفعيل أدواتها السياسية والاقتصادية لضمان ألا تترك خارج المعادلات الجديدة التي قد تنتج عن هذا التقارب.