يبدو أن مقتل ياسر أبو شباب مؤخرا قد أغضب إسرائيل ومؤسستها الأمنية وربما جعلها تراجع حساباتها فيما يتعلق باليوم التالي في قطاع غزة. إذ يرى المحلل الإسرائيلي “ميخائيل شبربر” في مقال نشره موقع “ميدا” العبري[1]  أن تجربة “أبو شباب” ليست بالجديدة؛ فقد مارسها البريطانيون في السودان، والأميركيون في العراق، وجرّبتها إسرائيل نفسها في الضفة الغربية. والدرس المستفاد من ذلك هو أنه: “لا بديل عن بسط السيطرة المباشرة وفرض الاحتلال الكامل”.

بحسب “شبربر” فإن حكومة تل أبيب كانت تعوّل على “ياسر أبو شباب” ليكون أحد أدوات نفوذها في قطاع غزة بعد إنتهاء الحرب، غير أن مقتله شكّل جرس إنذار استراتيجي ليعيد التذكير بأن أي محاولة للاعتماد على قوى محلية فلسطينية تبدو براغماتية أو متقاربة مع إسرائيل، سيكون مصيرها الفشل المحتوم. فالمحاولة الإسرائيلية لاستبدال حركة حماس بنموذج عشائري ليست إلا نسخة حديثة من تجارب قديمة ثبت إخفاقها في صناعة قيادة بديلة للشعب الفلسطيني. وأورد “شبربر” عدة أمثلة تؤكد خطأ القناعات الإسرائيلية بشأن إمكانية إنشاء كيانات بديلة تدين بالولاء للمحتل. ومن تلك الأمثلة:

  • روابط القرى” في الضفة الغربية

يضرب “شبربر” مثالًا على ذلك الإخفاق، عندما أنشأت إسرائيل “روابط القرى”[2]  في السبعينيات والثمانينيات، لمُحاولةً خلق قيادة فلسطينية ريفية محافظة، تسلك نهج التعاون الاقتصادي والأمني بدل نهج المقاومة الذي تبنّته منظمة التحرير. وكانت الفكرة تتمثل في أن المجتمع التقليدي يمكن استقطابه كجسر للتواصل بين إسرائيل وعموم الفلسطينيين. لكن تلك التجربة تحوّلت إلى واحدة من أفشل محاولات إسرائيل لإدارة حكم السكان الفلسطينيين.

مُشيرا إلى أن “روابط القرى” لم تحظَ بأي شرعية شعبية، ووُصفت بأنها كيان غريب ومفروض من الخارج. كما وُصف أعضاؤها بالعمالة والخيانة، وتعرّض بعضهم للاعتداء أو الاغتيال، واختفى الآخرون من الساحة. وحتى اليوم يُستخدم مُسمى “روابط القرى” لوصف أية جهة ترتبط بنفوذ أجنبي أو تنحرف عن الصف الوطني.

ويؤكد المحلل الإسرائيلي أن سبب فشل تلك التجربة  لم يكن صدفة، بل يرجع إلى قناعة إسرائيلية خاطئة بأن الوعي الجمعي يمكن هندسته من فوق، وأن قيادة بديلة يمكن زرعها من دون جذور شعبية. ويضيف أن نفس القناعة الخاطئة تتكرر اليوم بعد 7 أكتوبر 2023، حين تظن إسرائيل أن بإمكانها وضع عشائر أو ميليشيات محلية أو ناشطين مسلحين في مواجهة حركة حماس، التي يصفها المحلل بأنها ليست مجرد جناح عسكري، بل هي منظومة متكاملة من الهوية والوعي والعمل الاجتماعي والديني، تشكلت عبر عقود طويلة، ولا يمكن تفكيكها أو استبدالها بتنظيمات صغيرة تعتمد على دعم إسرائيل.

  • التجربة البريطانية في السودان.

يمضي “شبربر” إلى مثال آخر أبعد في التاريخ، يعود إلى الثورة المهدية في السودان أواخر القرن التاسع عشر. فقد أعلن محمد أحمد المهدي نفسه مبعوثًا إلهيًا، وقاد ثورة دينية وسياسية مسلحة ضد النفوذ الأجنبي. لم تشكل تلك الثورة تهديدا مباشرا لبريطانيا في بداية الأمر، لكنها مثّلت تهديدا للنفوذ البريطاني على مصر ولاستقرار منطقة قناة السويس، ما دفع بريطانيا إلى محاولة إحكام السيطرة على السودان بشكل غير مباشر، وذلك عبر توزيع مناطق النفوذ على شيوخ محليين أملاً في احتواء الثورة.

أقدم الجنرال تشارلز غوردون، مبعوث بريطانيا لإنقاذ الموقف، على التعاون مع شخصيات محلية ذات شعبية لكنها متورطة في تجارة الرقيق وجرائم أخرى، وكان أبرزهم تاجر العبيد الشهير الزبير رحمة منصور. ورغم أن تلك الخطوة بدت نافعة في البداية، إلا أنها قوّضت شرعية بريطانيا، وأدت إلى تقوية الحركة المهدية بدل إضعافها. فاستولى أنصار المهدي على الخرطوم وقتلوا غوردون، ما دفع بريطانيا إلى شن حملة عسكرية كاسحة لاستعادة السيطرة، وفرض حكم مباشر استمر حتى خمسينيات القرن العشرين. ويستخلص الكاتب من تلك التجربة أن الاعتماد على وكلاء محليين من دون سيادة مباشرة لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات وتأجيل المواجهة الحاسمة.

  • مجالس الصحوة في العراق.

 

يستحضر شبربر مثالًه الثالثً من التجربة الأميركية في العراق. فعندما قاتلت الولايات المتحدة تنظيم القاعدة، أنشأت ما عُرف بـ “مجالس الصحوة” من عشائر سنية تعهدت بمحاربة التنظيم مقابل دعم مادي وسياسي أميركي. نجحت الفكرة لفترة قصيرة، لكن سرعان ما فشلت فور انسحاب الولايات المتحدة. وفي عام 2014 سمح الفراغ الأمني والسياسي لتنظيم داعش بالسيطرة السريعة على مساحات واسعة من العراق، بل إن بعض أعضاء الصحوات انضموا إلى صفوف التنظيم، ما كشف هشاشة البناء القائم على قيادة مفروضة من الخارج وغير قائمة على قاعدة مجتمعية راسخة.

نفس السيناريو يتكرر!

يشير الكاتب الإسرائيلي إلى أن السيناريو نفسه يتكرر اليوم في غزة؛ فحماس تعرض “العفو” عن كل من يغيّر ولاءه من أفراد الميليشيات الخمس التي تتعاون مع إسرائيل، وربما كان هذا العرض من حماس هوما دفع عشيرة أبو سنيمة في رفح إلى الانقلاب على أبو شباب واغتياله.

حتمية الاستفادة من دروس الماضي!

يخلص “شبربر” إلى نتيجة مفادها أن نمط الأحداث بات واضحًا، فأي نموذج يعتمد على “وكلاء محليين” لن يمكنه تحمّل مسؤولية حكم شعب تحت الاحتلال. وهذا ما حدث مع “روابط القرى”، ومع  الصحوات، ومع الثورة المهدية، وهو أيضا ما يحدث الآن مع غزة. وعليه فإن إسرائيل مطالَبة حاليا بتبني خطة ترتكز على دروس الماضي، مُدركةً أنها لا يمكنها الاعتماد على تحالفات مع العشائر أو أي وكلاء محليين.

ويشدد الكاتب على أن إسرائيل يجب أن تتخلى عن أوهامها، وأن تدرك أنه “إذا لم تعتمد على نفسها، فلن ينفعها أحد”، وأن أي محاولة لخلق قيادة فلسطينية بديلة عبر آلية مفروضة من الخارج سيكون مآلها السقوط في اللحظة الحاسمة.

من خلال ما سبق، يتبين أن مقتل ياسر أبو شباب كشف أن الرهان الإسرائيلي على “وكلاء محليين” في غزة هو مشروع محكوم بالفشل، تمامًا كما فشلت تجارب مشابهة في الضفة الغربية، السودان والعراق. فالمجتمع الفلسطيني لا يقبل قيادة تُفرض من الخارج، وحماس ليست مجرد تنظيم يمكن استبداله بميليشيا عشائرية أو قوة مُصطنعة مدعومة إسرائيليًا، بل هي منظومة هوية وبنية اجتماعية راسخة. وعليه، فإذا أرادت إسرئيل أن تنعم بالاستقرار والسلام فعليها أن تدير الحكم في غزة عبر سلطة فلسطينية شرعية تعبر عن إرادة الشعب وتسعى لتحقيق طموحه في الاستقلال وتقرير المصير.

[1] https://mida.org.il/2025/12/07/%D7%94%D7%9C%D7%A7%D7%97-%D7%A9%D7%9C-%D7%90%D7%91%D7%95-%D7%A9%D7%91%D7%90%D7%91/

[2] روابط القُرى هي تشكيلاتٌ إدارية أَنشأتها إسرائيل في عام 1978. تدّعي أنها تهدف إلى التنمية وتقديم الخدمات والنُهوض بحياة المُواطنين الفلسطينيين.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version