فرضت احتمالية توقيع السودان اتفاقية سلام مع إسرائيل نفسها على المشهد السياسي المرتبط بانضمام أطراف عربية وإسلامية أخرى لهذا النهج، وذلك رغم نفى وزارة الخارجية السودانية يوم 18/8/2020 تصريحات المتحدث الرسمى بإسم الوزارة التى أشار فيها إلى “تطلع الخرطوم لإقامة علاقات مع تل أبيب قائمة على الندية ومصلحة بلاده دون التضحية بالقيم والثوابت، وعدم وجود سبب ما لاستمرار العداء بين البلدين، والإقرار بوجود علاقات ثنائية”من جهة، وترحيب “نتنياهو” بذلك التطور وتأكيده أن المنطقة كلها ستربح من إتفاق السلام وإشادته بقرار رئيس المجلس السيادي السوداني “عبد الفتاح البرهان ” بالشأن من جهة أخرى.

* ورغم إعراب وزارة الخارجية السودانية في بيان عن اندهاشها من تصريحات المتحدث الرسمى باسمها، أو تكليفه بالإدلاء بأى تصريحات بالصدد وإقالته، والإشارة لعدم مناقشة ملف العلاقات مع إسرائيل فى الوزارة، إلا أنه من غير المستبعد تحول فرضية إقامة السودان علاقات مع إسرائيل تشمل المجالات الدبلوماسية والإقتصادية والأمنية وغيرها من المجالات التنموية، إلى واقع ولكن غير مفاجىْ خلال الأسابيع القريبة المقبلة، لاسيما مع وجود العديد من الدوافع والضغوط الداخلية  والخارجية الواقعة على السودان الجديد المحمل بإرث ثقيل فرضته عليه ممارسات النظام السابق، وتخاذل غالبية الدول العربية عن تنفيذ الوعود السابق تقديمها لقيادة ومكونات الدولة الهشة الوليدة.

* فعلى المستوى الداخلي، هناك العديد من الملفات المثارة والتى تؤثر بشكل مباشر على تماسك الدولة، بل وتؤهلها للتحول إلى دولة فاشلة لتضاف إلى نظرائها من النماذج الموجودة بالمنطقة العربية، لتضيف العديد من التحديات التي تحد من فرص خروج السودان من المرحلة الانتقالية، وتعد أبرز تلك التحديات صعوبة تسوية القضايا الخاصة بتحديد الهوية الوطنية، والتنوع الأيديولوجى، وتوزيع السلطة والثروة، وعلاقة الدين بالدولة، والمحاصصة فى الدستور المقبل، وإجراء انتخابات برلمانية تمهد لتشكيل حكومة، خاصة مع تزايد حجم الخلافات وافتقاد الثقة بين  كل من قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين، والجبهة الثورية، والحكومة المدنية، والتجاذبات الخاصة بإبعاد الجيش عن الحياة السياسية، بجانب محاولات جر قوات الدعم السريع برئاسة النائب الأول لرئيس المجلس السيادى “محمد حمدان دقلو” لمواجهة الجيش، وعدم الانتهاء من محاكمة الرئيس السابق “البشير” ومعاونيه الذين مازال بعضهم وبعض الكوادر الإخوانية متواجدين بمواقع مفصلية بالدولة، وضعاً فى الاعتبار رصد إستغلال تلك الكوادر للأوضاع الإقتصادية المتردية فى تصعيد حجم الإنتقادات والمظاهرات المتتالية،  خاصة مع ارتفاع أسعار بعض السلع الأساسية (الخبز – المحروقات..) بنسبة 100% وتأثر الاقتصاد بأزمة “كورونا” وما صاحبها من تراجع حاد فى أسعار النفط المورد الرئيسي للبلاد.

* بالإضافة لما سبق، ظهر  عجز الدولة عن نزع سلاح سواء مختلف الحركات المسلحة أو القبائل رغم إعلان حالة الطوارئ بعدد من الولايات، وعدم إحراز تقدم ملموس فى مفاوضات السلام المتعثرة التى تخوضها السودان على مختلف الأصعدة نتيجة الفراغ الناجم عن سلبية كل من الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، مما أفسح المجال أمام تدخل العديد من الدول المعنية فى مسار التسوية ( قطر – تركيا – تشاد – جنوب السودان – أوغندا – جنوب إفريقيا – فرنسا..) والتى سعت لتمرير أجندتها من خلال استضافة تلك المفاوضات، أو توفير الملاذ الآمن لزعماء تلك الحركات المسلحة، أو التمويل اللازم لاستمرار أنشطتهم، مع محدودية نتائج المفاوضات التي ترعاها “جوبا” سواء الخاصة بمطالب بعض الحركات المسلحة وبحث الترتيبات الأمنية وسبل دمج كوادرها بالمؤسسات الأمنية، أو المفاوضات المعنية بحق تقرير المصير لشعب جبال النوبة وولاية النيل الأزرق (زيارة الفريق أول”دقلو” لجوبا يوم 17/8/2020)، بجانب تأثير غياب حركة “عبد الواحد نور”، بالإضافة إلى إعراب بعض الأقاليم عن رغبتها في الانفصال بين الحين والآخر مثل إعلان بعض قيادات قبائل “البجا” بشرق السودان يوم 8/8/2020 الانفصال عن الدولة، بالتزامن أيضاً مع تعثر المفاوضات الخاصة سواء بكردفان، أو بمنطقة “أبيي” الغنية بالنفط المتنازع عليها مع دولة جنوب السودان، فضلاً عن عجز الدولة عن توفير الحماية للمدنيين والمزارعين من الأطماع والاختراقات العسكرية الإثيوبية المتكررة بمنطقة “الفشقة” بولاية “القضارف” شرق البلاد آخرها شهرى مايو ويونيو الماضيين، مع احتفاظ الميليشيات الدارفورية المتمردة المتواجدة بدولة تشاد المتاخمة بأسلحتها وشنها هجوما مسلحاً على معسكرات الجيش الوطنى من حين لآخر آخرها بمنطقة “جبل مرة” فى يونيو الماضى، وهو ما أثر في مجمله على تسوية ملفي النازحين واللاجئين.

* وعلى المستوى الخارجى، ساهم عدم وفاء الدول المشاركة فى مؤتمر  إعادة إعمار السودان الذى عقد فى برلين يوم 25/6/2020 بوعودهم سواء المتعلقة بالمساعدات المباشرة التى بلغت 1,8 مليار دولار أو حزمة المساعدات الأخرى التى تقدر بنحو ملياري دولار بين تعهدات وإعفاءات ديون ووعود من البنك الدولي والدول المانحة، كذا المساعدات التى أسفر عنها مؤتمر المانحين الذي استضافته السعودية يوم 12/8/2020، فى إستمرار الأزمة الإقتصادية الطاحنة والتي أثرت بدورها على النواحى الإجتماعية والتنموية وخطط الإصلاح الإقتصادى الملحة وإعادة الهيكلة، وهو ما يمكن ربطه بعدم حصول تلك الدول والمؤسسات الدولية على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأمريكية التى أجلت تنفيذ وعودها للسودان برفع إسم الخرطوم من قائمة الدول الراعية للإرهاب رغم وفاء الأخيرة بكافة المطالب سواء المتعلقة بتغيير سياساتها الخارجية تجاه إيران وكوريا الشمالية، أو تسديد تعويضات لأهالي ضحايا تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام بجانب تفجير المدمرة “كول” قبالة السواحل اليمنية، وذلك على خلفية استضافة النظام السوداني السابق زعيم تنظيم القاعدة بالخرطوم “أسامه بن لادن” وتنفيذ عملياته الإرهابية إنطلاقاً من البلاد، والتجاوب مع المطالب الخاصة بفتح ملفات الأقليات وحقوق الإنسان والديموقراطية واستئناف مفاوضات السلام مع مختلف الحركات السياسية والمسلحة.

* وإزاء قناعة النظام الإنتقالى بإمكانية تحول التهديدات المحيطة بالبلاد إلى تهديدات يصعب معها الحفاظ على أركان الدولة الهشة، فقد سبق أن تجاوب الفريق/عبد الفتاح البرهان مع الضغوط الأمريكية والتقى برئيس الوزراء الإسرائيلى “نتنياهو” فى أوغندا خلال شهر إبريل الماضى ووافق على فتح المجال الجوي أمام الطائرات المدنية الإسرائيلية، فى الوقت الذى تجدر فيه الإشارة إلى مطالبة أسر ضحايا هجمات 11 سبتمبر خلال شهر أغسطس الحالي بوقف السلطات الأمريكية إجراءات التسوية مع السودان لحين إدراج ضحايا تلك الهجمات ضمن هذه التعويضات.

* وفى هذا الإطار، يرتبط نفى وزارة الخارجية السودانية تطلعها  إقامة إتفاق سلام مع إسرائيل، برغبة الخرطوم فى التعرف على ردود الفعل الداخلية والخارجية واحتواء  الانتقادات المتوقعة من قبل التيارات القومية والدينية، والعمل خلال الفترة القادمة على الترويج الملائم وصياغة وتسويق مواءمات النظام تجاه هذه الخطوة، وضعاً فى الاعتبار ما قد يوفره التقارب بين الخرطوم وتل أبيب من توازن مطلوب فيما بين السودان وإثيوبيا خاصة خلال هذه المرحلة فى ظل تميز علاقة الأخيرة بإسرائيل واستغلال إثيوبيا ذلك فى مواقف متشددة خلال تعاملها مع قضايا المنطقة.

* بتقييم مختلف الأبعاد  والأهداف السابقة، فإنه من غير المستبعد خلال الأسابيع القريبة المقبلة إعلان أى من الطرفين السوداني أو الإسرائيلي تدشين علاقات ثنائية فى مختلف مجالات التعاون، ومحاولة الخرطوم استغلال ذلك التطور لتسوية العديد من الملفات السياسية والأمنية، واستئناف علاقاتها بالمجتمع الدولي، واستثمار ذلك فى محاولة إنهاء تصنيف الجهات الدولية المانحة للسودان بأنها دولة عالية المخاطر وغير مؤهلة للحصول على قروض من الجهات الدولية، لتبدأ أولى خطوات برنامج الإصلاح الاقتصادى الشاق وما يستتبعه من جذب الاستثمارات الأجنبية  والتكنولوجيا الشاق وما يستتبعه من جذب الاستثمارات الاقتصادي.

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version