تمر هذه الأيام الذكرى السنوية السادسة والستون لاحتفال مصر بعيد النصر، يوم 23 ديسمبر من كل عام، احتفاء بانتصار إرادة المصرية على العدوان الثلاثي والذي شنته القوات الإسرائيلية والفرنسية والبريطانية على مصر، في نوفمبر 1956م، بسبب تأميم الزعيم الخالد جمال عبد الناصر لقناة السويس في 26 يوليو
وكان التأميم، بمثابة الرصاصة الأولى التي انطلقت من ميدان المنشية بالإسكندرية، لتستقر في قلب الهيمنة الغربية على مقدرات الشعوب العربية، ولأن قرار التأميم كان صرخة مدوية بصوت عبد الناصر هزت أركان الظلم والطغيان، وأسمعت العالم أجمع أن إرادة الأمة أمضى من أي سلاح، وأقوى من أي قوة استعمارية. فلن تنسى جماهير الأمة العربية صوته صادحا: «قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية. باسم الأمة: مادة واحد: تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية، ويُنقل إلى الدولة جميع مالها من أموال وحقوق وما عليها من التزامات، وتُحل جميع الهيئات واللجان القائمة حاليا على إدارتها»
ردا، ورفضا للضغوط الأمريكية التي مارستها واشنطن على عبد الناصر، عندما سحبت بشكل علني ومباغت، عرضها لتمويل بناء السد العالي؛ بزعم عدم قدرة مصر الاقتصادية على تنفيذ مشروع ضخم كهذا. الأمر الذي لم يعتبره عبد الناصر سحبا للعرض بقدر ما اعتبره هجوما على نظامه ودعوة موجهة للشعب للإطاحة به، ومن ثم قام بتأميم شركة قناة السويس، وشن هجوما على مساعي الإمبريالية الغربية الرامية لتعطيل استقلال بلاده، وأدان رفض الولايات المتحدة المساهمة في تمويل السد العالي مؤكدا سلامة الاقتصاد المصري. معتبرا مزاعمها بضعف الاقتصاد المصري مؤامرة على مكانة مصر، ومعاقبة لها على رفضها التام الانضمام إلى الأحلاف الدفاعية الغربية بالمنطقة، على رأسها حلف بغداد. ثم أكد أن العوائد التي ستجنيها مصر من تأميم شركة القناة ستمكنها من بناء السد دون الحاجة إلى مساعدات أمريكية.
والحقيقة أن قرار التأميم المصري لم يكن قرارا انفعاليا، مختلفا عن قرار تأميم مصدق لشركة النفط الأنجلو – إيرانية، إذ جاء بعد دراسة عميقة افترضت فرص نجاح تأميم القناة، استنادا إلى أن قناة السويس في صميمها هي عملية إدارة؛ وكل عملها هو تقديم الخدمة Service التي تعتمد على كفاءتها، وهي في هذا تختلف عن تأميم صناعة النفط الإيراني الذي هو عملية إنتاج وتسويق Production & Marketing اللذان يعتمدان على الآخرين.
وبناء عليه، دعت بريطانيا لعقد مؤتمر دولي، عشية اتخاذ عبد الناصر قرار التأميم؛ بوصفها أكبر مالك للأسهم بشركة القناة، إذ كان لها وحدها 44% من إجمالي الأسهم. والذي انعقد بلندن، فيما بين يومي 16 و23 أغسطس 1956م، بمشاركة الدول المنتفعة بالملاحة بالقناة، ومن بينها إيران، التي مثلها وزير خارجيتها الدكتور «على قلى أردلان». وقد انقسمت الدول المؤتمرة في لندن على نفسها، بشأن تأميم عبد الناصر للقناة، إلى ثلاث مجموعات:
– مجموعة رفضت التأميم تماما، وهي بريطانيا وفرنسا وتركيا والدول الأعضاء بحلف شمال الأطلنطي، عدا إسبانيا.
– مجموعة أبدت أحقية مصر في التأميم، وضمت كل من الهند والاتحاد السوفيتي وسيريلانكا وإندونيسيا.
– مجموعة رأت أن التأميم حق مشروع وسيادي بالنسبة لمصر، ولكنها دعت إلى إحلال نظام أو اتفاق دولي جديد بشأن القناة، لا يتعارض والسيادة المصرية وضمت كل من إيران وأثيوبيا وإسبانيا وباكستان.
بيد أن المؤتمر المذكور تبنى، بعد مداولات مطولة، اقتراح وزير الخارجية الأمريكي «جون فوستر دالاس» John FosterDulles الداعي إلى تكليف لجنة خماسية بنقل رأى أغلبية الدول المؤتمرة إلى القاهرة، لإقناعها بإحلال إدارة دولية للقناة. وقد ضمت هذه اللجنة ممثلي إيران، وأثيوبيا، والولايات المتحدة والسويد فضلا عن رئيس الوفد الاسترالي «روبرت مانزيس» Robert Menzies. وقد أدارت هذه اللجنة مفاوضات مكثفة مع عبد الناصر على مدار أسبوع كامل، فيما بين يومي 3 و9 سبتمبر 1956م، رفض خلالها الرئيس المصري فكرة الادارة الدولية الدائمة للقناة، واعتبرها نوعا من الاستعمار الجماعي المقنع.
الموقف الإيراني

كان اهتمام إيران بالغا بتطورات الأزمة؛ نظراً لأن القناة كانت تمثل معبرا حيويا للاقتصاد الإيراني، وتتضح هذه الأهمية أكثر إذا علمنا أنه قد عبر القناة خلال عام 1955م قبل قرار التأميم، حوالي 73٪ من إجمالي الصادرات الإيرانية، وحوالي 76٪ من إجمالي وارداتها. وبناء عليه كانت هناك مجموعة من الأسس التي حكمت الموقف الإيراني الحقيقي حيال هذه الأزمة وتطوراتها المختلفة. وهو ما كشفت عنه الوثائق السرية الإيرانية التي اطلعت عليها:
علي قلي اردلان وزير خارجية ايران

أولا: ضرورة «العمل على الحل السلمي لقضية قناة السويس»، تحقيقا للأهداف التالية:
– «تأمين حرية الملاحة في القناة مراعاة حق السيادة المصرية عليها»
– «معارضة استعمال القوة في هذا الشأن»
– أما «في حالة عدم الاتفاق يكون الجهد منصبا لإحالتها إلى هيئة الأمم المتحدة»
ثانيا: «إن مساندة مصر في موضوع القناة هو صورة لمبدأ عام هو تأييد الحكومة الضعيفة أمام حكومة أو دول أخرى أقوى منها. وهذا لا يعني بالضرورة تأييدا لسياسة الجامعة العربية أو تقويتها»
ثالثا: «إن مقاومة نفوذ مصر في المنطقة، يقضى بمؤازرتها في مشكلة قناة السويس وذلك مسايرة للرأي العام العربي لكسبه، وحتى لا تظهر إيران بمظهر المساير والمعاضد للنفوذ الغربي داخل المنطقة».
رابعا: العمل على إظهار حلف بغداد على «أنه ليس ضد مصر ولا العرب، وإنما لصالح المنطقة كلها في النواحي الدفاعية والثقافية والاقتصادية. ولا بأس من الاستفادة في الدعاية لموقف دول الحلف المختلفة إزاء مشكلة قناة السويس، خصوصا العراق والباكستان اللتين آزرتا مصر في موقفها. وفي هذا ما يدل على أن الانضمام إلى الحلف لا يعني مؤازرة السياسة البريطانية باستمرار»
وفي هذا الإطار، استندت كلمة وزير خارجية إيران، خلال مؤتمر لندن، إلى منطلقين أساسيين لا ثالث لهما:
الأول: «أن قناة السويس هي جزء لا يتجزأ من التراب المصري، ولمصر حق السيادة عليها، ومن ثم فإن عملية التأميم، التي أعلنتها مصر، كانت مطابقة لمبادئ القانون الدولي الخاص بأعمال السيادة وممارسة الحقوق المكتسبة. وقد دلل الدكتور أردلان، من خلال عرض وافى للوضع القانوني للشركة العالمية لقناة السويس على أحقية مصر فيما قررته» والذي نجمله فيما يلي:
‌أ-  «أن الاتفاق الموقع بين الحكومة المصرية وفرديناند ديليسيبس في ۲۲ فبراير ١٨٦٦م، المنُشِئ لهذه الشركة، نص في البند الأول للمادة السادسة عشرة على أنه: بما أن الشركة العالمية البحرية لقناة السويس شركة مصرية فيتعين أن تكون خاضعة للقوانين واللوائح المعمول بها في مصر»

 أرشيفية

        ‌أ-  «أن الحكومة المصرية قد أعلنت أنها سوف تقوم بدفع قيمة أسهمها في البورصة بباريس طبقا لآخر تداول تم في اليوم السابق على التأميم» وبناء عليه «فإن إجراء الحكومة المصرية هو إجراء قانوني يراعى كافة الالتزامات والتعهدات والمواثيق الدولية»
الثاني: هو ضرورة تأمين حرية الملاحة في القناة والحصول على ضمانات كافية لاستمرار عملها، وذلك من خلال التأكيد القانوني الملزم والمنظم لها. وقد برهن وزير الخارجية الإيرانية على هذا بما يلي
‌أ-  «أن معاهدة القسطنطينية الموقعة في ٢٩/١٠/١٨٨٨م، نصت في المادة الأولى منها على مبدأ حرية الملاحة العامة في القناة، سواء في زمن السلم، أو وقت الحرب. وهو ما التزمت به الحكومة المصرية أيضا في اتفاقية جلاء القوات البريطانية. وقبلت بموجبها مبدأ حرية الملاحة الدولية في كل الأحوال».
‌ب-«كما أن قرار مجلس الأمن الصادر في 1/9/1951م، يعد نموذجا بارزا على ذلك، إذ طالب الحكومة المصرية بضرورة إزالة المعوقات أمام الملاحة الدولية وعبور الناقلات التجارية، كما ناشدها بمراعاة الاتفاقيات المنظمة للقناة».
ولهذا، أكد وزير الخارجية الإيرانية أن بلاده «سوف تؤيد أي طريقة لحل يهدف إلى الحفاظ على الحقوق المصرية وتأمين الملاحة الدولية في قناة السويس. وقد اشترط لدى اختياره عضوا في لجنة مانزيس الخماسية، أنه سوف ينسحب منها إذا وجهت هذه اللجنة الموفدة من المؤتمر تهديدا لمصر» وانطلاقا من مبدأ عدم استخدام القوة لحل أزمة القناة، أصدرت الخارجية الإيرانية بيانا عقب فشل لجنة مانزيس، وضحت فيه أن مشاركة إيران في مؤتمر لندن وما انبثق عنه من اللجنة المذكورة؛ إنما كان «انطلاقا من أن ذلك سوف يسهل التوصل إلى سبل الحل السلمي لموضوع قناة السويس»
كما صرح «أردلان» لدى عودته إلى طهران، بعد إحالة القضية إلى مجلس الأمن بقوله: «لو تقرر حل قضية قناة السويس على عكس ما نتمنى وتعرضت الدول المنتفعة منها للضرر، فإن ذلك يحتم التفكير أيضا في تعويض هذه الأضرار الاقتصادية التي ستتكبدها هذه الدول» لأنه في «حالة استعمال القوة فإن الواردات الإيرانية سوف تأتى عن طريق رأس الرجاء، وبهذا ستكون أغلى تكلفة، وبالتالي سيتضرر المستهلك المحلى عندنا، وهو ضرر يستلزم التعويض. كذلك الأمر ينطبق على البترول وكافة الصادرات الإيرانية الأخرى». غير أن الأزمة تطورت بشكل عنيف، عندما قامت القوات الاسرائيلية بالهجوم على مصر يوم 29 أكتوبر 1956م، أعقبها قيام القوات البريطانية والفرنسية بهجوم شامل على مدن القناة، يوم 3 نوفمبر؛ الأمر الذي أصاب الحكومة الإيرانية بالارتباك الشديد.
بداية، صوتت إيران، في كل اجتماعات مجلس الأمن والجمعية العامة، ضد العدوان البريطاني على مصر، انطلاقا من الأسس المشار إليها سلفا، كما قادت طهران تحركات دبلوماسية لحث الدول المعتدية على وقف العدوان وسحب قواتها من الأراضي المصرية. إذ دعا رئيس الوزراء الإيراني وزراء خارجية الدول الإسلامية الأعضاء بحلف بغداد إلى عقد اجتماع عاجل بطهران، والذي أدان في بيانه الختامي الصادر بتاريخ 10 نوفمبر «الاعتداءات الاسرائيلية»، وناشـد «الأمم المتحدة التدخل لإنهاء هذا الاعتداء المسلح المؤسف على مصر من جانب القوات الفرنسية والبريطانية»
ثم دعت طهران إلى عقد اجتماع قمة للدول الإسلامية الأعضاء بحلف بغداد، بعد أن أصبح الموقف متدهورا، وما ظهر من حقائق تواطؤ الحلف مع إسرائيل، وأبرز سلوك بريطانيا العدواني تجاه مصر وضد الوطن العربي، الأمر الذي تسبب في حرج الدول الأعضاء بالحلف أمام الرأي العام العربي والإيراني على حد سواء. وقد اضطر الشاه لأن يقول، أثناء اجتماعات القمة، التي عقدت فيما بين 22 و23 نوفمبر، أن اجتماعهم هذا جاء متأخرا «فحصل بعد وقف إطلاق النار، وكان يمكن أن نحصل على فائدة لو بدا أن وقف إطلاق النار كان نتيجة لجهودنا نحن». ثم حرص على تلخيص الموقف الإيراني حيال الأزمة، في إطار مبادئ حلف بغداد، على النحو التالي:
‌أ-  «إننا جميعا سعداء بما حصل لعبد الناصر، ولكننا مع ذلك يجب أن نتمسك بميثاق الأمم المتحدة»
‌ب-«يجب ألا نعطي خصومنا فرصة لاتهام الحلف بأنه حلف عدواني «
‌ج- «يجب أن تخرج بريطانيا من الحلف مؤقتا، على أن تنضم إليه بعض الدول العربية وأمريكا»
وقد جاءت النقطة الأخيرة ردا على تهديدات رئيس الوزراء الباكستاني «حسين شهيد سهرودی» بانسحاب بلاده من الحلف إذا لم تنسحب بريطانيا منه. وهو الأمر الذي أحدث جدلا عنيفا لم تشهده اجتماعات مجلس الحلف من قبل.

  أرشيفية

وهكذا انبنى الموقف الإيراني إزاء قضية تأميم قناة السويس على أحقية مصر في السيادة على القناة، وضمان حرية الملاحة فيها، دون إبراز أحقيتها في السيادة عليها، أو حقها في تسيير الملاحة الدولية بنفسها. لأنها كانت تتبنى الاقتراح الأمريكي بإنشاء إدارة دولية للقناة، الذي رفضه عبد الناصر كما سبق الإشارة. وبالتالي أدانت إيران العدوان الثلاثي على مصر في المحافل الدولية، تماشيا مع التزامها بالإرادة الدولية. غير أن هذه الإدانة كانت لها أبعاد أخرى من حيث:
أولا: جاء الموقف الإيراني ردفا للموقف الأمريكي الرامي إلى احتواء النظام المصري، وتقليص استفادة الاتحاد السوفيتي من الأزمة أكثر مما استفاد بالفعل أثناء العدوان الثلاثي على مصر. خاصة وأن السياسة الخارجية الإيرانية آنئذ لم تكن تنظر بعين الارتياح لتوجهات الثورة المصرية.
ثانيا: أنها لو تبنت موقفا مغايرا لما اتخذته بشأن الأزمة؛ لأثار ذلك عليها حفيظة الدول العربية ولفقدت مكانتها لدى هذه الدول، في وقت كانت تحاول فيه التقرب إليها من خلال مساندتها في القضايا المطروحة في المحافل الدولية.
ثالثا: كان الرأي العام الداخلي يشكل ضغطا على صانع القرار الإيراني، الذي كان قلقا بالفعل من تطورات الأزمة والموقف بالمنطقة؛ الأمر الذي اضطر الشاه ورئيس الوزراء ورجال الدين والجمعيات العامة «إلى اصدار بيانات قوية استنكارا» للعدوان الاسرائيلي «وإدانة» للعدوان الانجليزي والفرنسي؛ بغرض احتواء موقف «الصحف الإيرانية التي أيدت الموقف المصري في كافة مقالاتها وأخبارها. وكسبا للراي العام الإيراني، ولذا بالغ المسئولون الإيرانيون في تضخيم «الدور الذي لعبته إيران ورجالها في الوصول إلى قرار إيقاف إطلاق النار في مصر، وفي قرار سحب الجيوش المعتدية منها، مبالغة شديدة»
وتخلص مما سبق، أن إيران لم تتخذ موقفا مؤيدا بصدق لمصر، خلال أزمة السويس، كما أن تصويتها في مجلس الأمن أثناء الأزمة كان تبعا للصوت الأمريكي. فضلا عن أن البيان الصادر عن قمة حلف بغداد، والذي شاركت إيران في صياغته، كان موجها للاستهلاك المحلى. ومن ثم، يمكن وصف الموقف الإيراني في هذه الأزمة بالانتهازية، والذي كان أحد عوامل التي أدت إلى فتور العلاقات بين البلدين، ومحلا لتبادل الاتهامات بينهما حتى قطع العلاقات بينهما، عام 1960م، بسبب اعتراف إيران الواقعي بإسرائيل.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version