لم تكد القارة الإفريقية تخرج من تداعيات الانقلاب العسكري في النيجر، حتى استفاقت من جديد على انقلاب آخر في الجابون الغنية بالنفط والواقعة في غرب إفريقيا، حيث قام مجموعة من الضباط العسكريين أطلقوا على أنفسهم “لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات”، بإعلان استيلائهم على السلطة وحل جميع مؤسسات الدولة، وإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في السادس والعشرين من أغسطس الماضي، والتي أسفرت عن فوز الرئيس الحالي “علي بونجو أونديمبا” بولاية رئاسية ثالثة لمدة خمس سنوات بعد حصوله على نحو (64.27%) من إجمالي عدد الأصوات، وكذلك توقيف عدد من رموز النظام الرئاسي بتهم تتعلق بارتكاب الخيانة العظمى ضد مؤسسات الدولة، واختلاس أموال عامة ودولية. وأعقب ذلك قيام الانقلابيين بتحديد الإقامة الجبرية للرئيس واعتقال أحد أبنائه بتهمة الخيانة. ويُعد هذا الانقلاب الثاني من نوعه ضد الرئيس الحالي في خلال السنوات الأخيرة؛ حيث جرى انقلاب عسكري غير ناجح بقيادة ” كيلي أوندو أوبيانج” في 7 يناير 2019، ويطرح هذا الإنقلاب العديد من التساؤلات منها ما أسباب الانقلاب، وما مدي تأثيره علي المنطقة وتداعياته المحتملة، وهذا ما سنجيب عليه في هذا التقرير.

ما أسباب الإنقلاب؟

هناك العديد من الأسباب المرتبطة بحدوث الانقلاب العسكري في الجابون وهي كالآتي:

تصاعد الصراع داخل عائلة “بونجو”:

يعكس الانقلاب العسكري في الجابون نمطاً من الصراعات الحادة داخل عائلة “بونجو”؛ حيث إن قائد الانقلاب “أوليجي نجويما” تربطه صلة قرابة بالرئيس المعزول؛ فهو ابن عم الرئيس المعزول “علي بونجو”، ويحظى بعلاقات وثيقة بعائلة الرئيس المعزول. وكانت لـ”نجويما” علاقة قوية بالرئيس السابق “عمر بونجو”؛ فقد عمل “نجويما” مساعداً له حتى وفاته في عام 2009، وبعد تولي “علي بونجو” الحكم، أُستبعد “نجويما” وتم إرساله في مهام دبلوماسية في المغرب والسنغال، لكنه عاد إلى الجابون وتولى منصب رئيس الحرس الجمهوري.

وبجانب مهامه العسكرية والدبلوماسية، كان “نجويما” رجل أعمال أيضاً، وكان معروفاً في الأوساط الجابونية بأنه “مليونير”. وبحسب التقارير، فإن “نجويما” كان له دور كبير في زيادة أصول عائلة “بونجو” في الولايات المتحدة، فضلاً عن توسيع أعمال العائلة في الخارج.

وبحسب تقرير أصدره “مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد” الدوليOCCRP عام 2020، فإن “نجويما” “اشترى ثلاثة عقارات في أحياء الطبقة المتوسطة والطبقة العاملة في ضواحي ميريلاند في هياتسفيل وسيلفر سبرينج، بالولايات المتحدة، في عامي 2015 و2018، وتم شراء هذه المنازل بأكثر من مليون دولار نقداً

تراجع الحالة الصحية للرئيس: نجد أنه في أكتوبر 2018، أصيب “علي بونجو أونديمبا “بجلطة دماغية استمر بعدها لمدة عشرة أشهر من دون ظهور علني. وعلى الرغم من استمرار معاناته فإنه كان لديه إصرار على البقاء في الحكم. ونجد أن الحاشية المُحيطة بالرئيس قد استغلت ذلك للقيام بأعمال منافية للقانون واستغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية، ولذلك نجد أن الجيش الجابونى قد اعتقل بعد الانقلاب عددًا من مستشاري الرئيس بتهم الخيانة العظمى

للدولة، واختلاس أموال عامة على نطاق واسع، وتزوير توقيع رئيس الجمهورية، وتفشي الفساد، والاتجار بالمخدرات.

جمود المشهد السياسي في البلاد: 

أسفرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الجابون عن استمرار حكم عائلة “بونجو” التي تسيطر على الحكم في البلاد منذ 56 عامًا، ولذلك نجد أن هناك حالة من التذمر لدى المعارضة السياسية في الجابون التي شككت في مصداقية نتائج الانتخابات، لاسيما في ضوء التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان في أبريل الماضي، وبموجبها تم تقليص ولاية الرئيس من سبع إلى خمس سنوات وإنهاء العمل بجولتي التصويت، ما وصفته المعارضة بأن الرئيس يعمل على توظيف أنصاره الذين يشكلون أغلبية في البرلمان لإقرار تشريعات تسهل من بقائه في الحكم لأطول فترة ممكنة. بالإضافة إلى غياب المراقبين الدوليين وقطع خدمة الإنترنت وفرض حظر التجول ليلًا في جميع أنحاء البلاد بعد الانتخابات.

انقلاب النيجر:

نجد أن الانقلاب العسكري الذي حدث في النيجر في السابع والعشرين من يوليو الماضي بقيادة الجنرال “عبد الرحمن تشياني” الذي كان يشغل في السابق منصب قائد الحرس الرئاسي وأطاح بالرئيس النيجري محمد بازوم، كان بمثابة عامل محفز للنخبة العسكرية في الجابون للقيام بانقلاب عسكري، والإطاحة بنظام الحكم القائم، وعدم التخوف من العقوبات التي سوف يفرضها المجتمع الدولي على الجابون. وذلك بالقياس على الأوضاع في النيجر؛ إذ نجد  أن الضغوط (الدبلوماسية والعسكرية) التي تبذلها مجموعة “إيكواس” لإقناع قادة الانقلاب في النيجر للإفراج عن الرئيس المعزول لم تؤتِ ثمارها.

استشراء الفساد وإساءة استخدام موارد الدولة:

يرتبط ذلك بشكل مباشر بالنخبة الحاكمة بالجابون؛ فوفقاً لمقياس الفساد العالمي Global Corruption Barometer (GCB)  الصادر عن منظمة الشفافية الدولية بالشراكة مع شبكة “أفروباروميتر” Afrobarometer  احتلت الجابون الترتيب الثالث عام 2019 فيما يتعلق بالنسبة المئوية لمن يعتقدون أن الفساد قد ارتفع خلال عام 2018، كما جاءت الدولة في الترتيب الـ(136) عالمياً من إجمالي (180) وفقاً لمؤشر مدركات الفساد العالمي الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في عام 2022؛ حيث حصلت على (29) نقطة من إجمالي (100) على المؤشر.

 تدهور الأوضاع الاقتصادية في الدولة:

على الرغم من أن الجابون تعد رابع أكبر منتجي النفط في أفريقيا جنوب الصحراء، فإن ثلث سكانها يعيشون تحت خط الفقر؛ وذلك نتيجة عدم نجاح الدولة في ترجمة ثرواتها ومواردها إلى نمو مستدام وشامل؛ بسبب عدم تنويع مصادر الإيرادات، وبسبب الاعتماد بشكل كبير على صناعة الوقود الأحفوري؛ وذلك وفقاً لتقرير البنك الدولي الصادر في عام 2022. كما شهدت الدولة في عام 2022 ارتفاعاً شديداً في معدل التضخم؛ حيث بلغ نحو (4.1%) بالمقارنة بنحو (1.1%) في عام 2021. ويضاف إلى ذلك ارتفاع معدل البطالة العام إلى نحو (22%) ونحو (38%) بين الشباب؛ وذلك وفق ما أعلنه البنك الدولي في إطار تقريره حول الشراكة القطرية الجديد مع الجابون للفترة (2023 -2027).

التداعيات المحتملة

ثمة العديد من التداعيات المحتملة، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي، فيما يتعلق بالانقلاب العسكري في الجابون، وهو ما يمكن إيجازه علي النحو التالي:

أولًا:تنامي الاضطرابات الأمنية على المستوى الداخلي:

 قد يصاحب الانقلاب العسكري تصاعد وتيرة عدم استقرار الأوضاع الأمنية في الدولة من جراء رد الفعل العكسي المحتمل من أنصار معسكر الرئيس الحالي “على بونجو”، وهو ما سيؤثر على تصنيف الدولة وفقاً لمؤشر السلام العالمي الصادر عن معهد الاقتصادات والسلام، الذي جاءت الجابون في إطار إصداره في عام 2023 ضمن الدول التي تقع في فئة الدول “المتوسطة على مستوى السلام الداخلي”؛ حيث جاءت في الترتيب الـ(93) من إجمالي (163) دولة.

أرشيفية

ثانيًا: اختبار المنظمات الإقليمية الإفريقية:

شهدت إفريقيا موجة من الانقلابات على مدى السنوات الثلاث الماضية؛ الأمر الذي شكَّل تحديًا كبيرًا للمنظمات الإقليمية في القارة كالاتحاد الإفريقي والإيكواس و السيماك؛ حيث تؤدي الانقلابات العسكرية إلى إقالة الرؤساء وحل مؤسسات الدولة، ممَّا يُعرِّضها للفوضى، ما يُؤثِّر بالتبعية على مواقف المنظمات الإقليمية في القارة؛ بسبب أنه يضعها في مواجهة مباشرة مع الحكومات الجديدة لهذه الدول. بالإضافة إلى ذلك فإن المؤسسات الإقليمية في إفريقيا تُوضَع أمام تحدٍّ آخر؛ ألا وهو مَنْع نشوء الصراعات في هذه الدول، وفي الوقت ذاته السعي نحو التأكيد على الوصول للسلطة وفقًا للنُّظُم المشروعة عبر الانتخابات.

ولذلك، يعتبر انقلاب الجابون بمثابة اختبار آخر حقيقي للمنظمات الإقليمية الإفريقية؛ من حيث القوة والقدرة على التعامل مع المجلس الحاكم في الجابون، خاصةً في ظل الالتفاف الشعبي الذي تلا الانقلاب مباشرة، بالإضافة إلى ذلك فإن المتتبع لمسيرة التعامل مِن قِبَل هذه المنظمات مع الانقلابات العسكرية سيجد أنها لن تخرج عن سياق الإدانة والشجب وتعليق العضوية.

تنتمي الجابون إلى المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا “السيماك”؛ ذلك التجمع الذي يضم دول  وسط إفريقيا ومقره في الجابون، لذا فإن الـ “سيماك” سيحاول العمل على تلاشي الظهور بمظهر “المقيد” في التعامل مع انقلاب الجابون، لذلك لم تعلن المجموعة عن أيّ نية في إجراء أيّ تحرك عسكري قد يُفقدها صورتها أمام شعوب دولها، على عكس “الإيكواس” الذي اتخذ قرار التصعيد في اللهجة والخطاب مع حالة انقلاب النيجر، فالتجمع يعلم أن أيّ إعلان عن تحرُّك خَشِن تجاه الجابون قد يَلْقَى اصطدامًا ورفضًا شعبيًّا مِن قِبَل المجتمع الجابوني الذي خرج في مظاهرات في العاصمة (ليبرفيل) تدعم تحرُّك الجيش، إلى جانب أن الإعلان عن أيّ تحرك عسكري قد يَخْلق حالة من الاصطفاف الإقليمي بين دول (مالي وبوركينا فاسو والنيجر وغينيا كوناكري) إلى جانب الجابون؛ مما يؤدي إلى تضارب المواقف، ويزيد من حالة الانقسام داخل القارة.

ثالثًا:التأثيرات المحتملة على أسواق النفط والغاز العالمية:

 من المحتمل أن يؤدي تفاقم الأوضاع السياسية غير المستقرة المصاحبة للانقلاب العسكري إلى التأثير على الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي؛ حيث تعد الجابون من الدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، التي تضم (13) دولة تستحوذ على (80.4%) من احتياطيات النفط العالمية المؤكدة، وهو ما يعادل (1241.82) مليار برميل، وتمتلك احتياطيات تقدر بنحو ملياري برميل من النفط، وهو ما يعادل نحو (0.2%) من إجمالي احتياطات المنظمة وفقاً لبيانات النشرة الإحصائية السنوية لمنظمة “أوبك” لعام 2022. وتعد الدولة بوجه عام ثامن أكبر منتج للنفط الخام في أفريقيا، كما تمتلك احتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعي تبلغ (26) مليار متر مكعب وفقاً لإحصائيات عام 2021، وبلغ إنتاجها نحو (462.978) مليون متر مكعب في عام 2022 مقارنة بنحو (453.9) مليون متر مكعب في عام 2021.

رابعًا: تعارض المصالح بين المعارضة والجيش:

أرشيفية

حيث وجد الانقلاب الذي قام به الجيش في الجابون تأييدًا شعبيًّا من كافة الأطياف؛ إلا أن سيطرة الجيش على السلطة وتعيين الجنرال “بريس كلوتير أوليغي نغويما” رئيسًا مؤقتًا مِن قِبَل الجيش أدَّى إلى حالة من الرفض من المعارضة، على الرغم من حالة التوافق شبه النسبي بين الطرفين على إزاحة “علي بونجو” من السلطة، وترجع أسباب تعارض المصالح بين المعارضة والمجلس العسكري الحاكم إلى:

1- انفراد “لجنة الانتقال واستعادة المؤسسات” بإدارة البلاد وإصدار القرارات دون النظر في موقف المعارضة، وقد تمثل ذلك في قرار اللجنة الخاص بإنهاء العمل بالدستور وحل الحكومة، وإلغاء نتيجة الانتخابات الرئاسية، وغلق الحدود، وهي إجراءات تشير إلى تعطيل العمل المؤسسي داخل البلاد؛ مما قد يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي التي قد ينتج عنها إشكاليات تنعكس على المستوى الاقتصادي والاجتماعي للدولة.

2- عدم وضوح الرؤيا الخاصة بالجيش في إدارة البلاد في المرحلة القادمة.

3- مطالبة المعارضة بإعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية بفوز مرشحها.

خامسًا: التأثير على دول الجوار:

تعاني دول إفريقيا جنوب الصحراء من انتشار ثقافة السلطة الأبوية التي تسعى نحو السيطرة على  مؤسسات الدولة واحتكار توزيع الثروة، وهذا أدَّى لتركز السلطة والثروة في أيدي مجموعة من رجال الأعمال المقربيين من الحاكم، مما نتج عنه بقاء الأنظمة في إفريقيا لسنوات عديدة، وقد تمتد لأجيال مختلفة، لذلك فإن الأسباب التي دفعت بالانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة في السنوات الأخيرة تكاد تكون متشابهة من حيث الظروف والعوامل.

وفي السياق ذاته، تشهد غينيا الاستوائية منافسة ضمن عائلة الرئيس الحاكم للبلاد “تيودورو أوبيانج”  الذي أُعيد انتخابه رئيسًا للبلاد في يوليو 2022م بنسبة 95%، والبالغ من العمر 80 عامًا؛ حيث يرغب “أوبيانج” في الدفع بنجله إلى سُدّة الحكم، الأمر الذي يجد رفضًا من أشقاء الرئيس الجنرالين “أرمنغول أوبيانج و”مبا أوبيانج”، وهو ما يعطي صورة أخرى حول تشابه الظروف في دول وسط إفريقيا من حيث العوامل التي دفعت باِنقلاب الجابون؛ من حيث هشاشة النظم القائمة، والسعي نحو احتكار السلطة في البلاد

ولذلك، فإن انقلاب الجابون سيكون له تداعيات على دول الجوار في وسط إفريقيا، وهو ما يمكن قراءته أيضًا في الإجراءات التي اتخذها الرئيس الكاميروني “بول بيا” البالغ من العمر 90 عامًا، والذي يحكم البلاد منذ عام 1982م؛ حيث أجرى في 30 أغسطس 2023م تغيرات كبيرة داخل الجيش والأجهزة الأمنية، وذلك في إطار مساعيه لحماية نظامه من محاولات الانقلاب، كما اتخذت روندا نفس الإجراء؛ حيث أحال “بول كاجامي” عددًا من الضباط في الجيش للتقاعد، وعيَّن آخرين بدلًا منهم؛ إذ يسعى” كاغامي” إلى البقاء لسنوات أخرى بعد التغيرات الدستورية التي أجراها عام 2015م، والتي تُتيح له بالبقاء في السلطة حتى عام 2034م.

تقييم عام للمشهد الحالي:

 يمكن القول إن الانقلاب العسكري في الجابون سيدفع الأمور في الدولة إلى حافة الهاوية على كافة الأصعدة خاصة إن الإنقلاب لن يغيير من الوضع الحالي فالحكم لايزال في يد عائلة بونجو، و الولاء لفرنسا وكذلك دعمها لذلك الإنقلاب، ولا سيما في ضوء التعقيدات المصاحبة للمراحل الانتقالية بصفة عامة، والتضارب المحتمل في مواقف الأطراف الدولية من الأزمة السياسية بفعل منظومة الأهداف والمصالح الذاتية لكل طرف، ولذلك فإن تغيير المشهد مرهون بالشعب الجابوني هو من سيحدد خارطة الطريق للمستقبل.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version