اعتبرها “الإسرائيليون” أكبر حرب تخوضها إسرائيل منذ بداية القرن العشرين ووصف آخرون شعورهم بها، بصدمة تفوق صدمة حرب أكتوبر1973م/ يوم الغفران، ورغم مرور أكثر من خمسين يومًا على بداية عملية طوفان الأقصى/ السيوف الحديدية، إلا أن التوتر والارتباك يسودان المشهد العام في الشارع الإسرائيلي.

فشل متوقع

كانت الروح السائدة في المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية بشكل عام، مؤهلة تمامًا ليخترقها الذعر ويملؤها الخوف؛ نتيجة التحولات الاجتماعية التي بدأت فى الظهور منذ شهر يناير 2023م، مع بداية احتجاجات الشارع على خطة التغييرات القضائية. ولذلك فقد انهارت المنظومة المجتمعية بشكل كامل فى الساعات والأيام الأولى للعملية، وارتبكت جميع أجهزة الحكومة ومؤسساتها، ولم تكن هناك وفرة فى المعلومات على كل المستويات وكان هناك سؤال واحد مُلح عند كل الإسرائيليين خاصة القطاع اليهودي، هل كان هناك خيانة أم قام احدهم بتعطيل كاميرات المراقبة وأنظمة الإنذار المبكر! وصدرت قررات مرتبكة كالدعوة إلى تخزين الطعام والاحتياجات الأساسية تكفي لثلاثة أيام؛ ما أدى إلى تدافع الجماهير إلى امكان التسوق وأخلوا الرفوف من البضائع وارتفعت الأسعار( على سبيل المثال صندوق المياة المعدنية الحجم الصغير، قفز من من 5 شيكل وحتى 11شيكل في اليوم الثاني للحرب)، وسرعان ما تراجعت قيادة الجبهة الداخلية فى هذا القرار، لما رأت أن الأوضاع ذاهبة نحو الأسوأ، وانتشرت النداءات بترشيد الاستهلاك، وعدم رفع الأسعار.

إدارة الأزمة

تتضح أهمية القدرة على تقييم الوضع في الوقت الحقيقي، وتتضاعف هذه الأهمية في أوقات الأزمات والحروب. وقد تعالت الأصوات فى الشارع الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة، حول الخوف من وقوع إسرائيل في أزمات خطيرة نتيجة عدم الاستقرار الحكومي والفساد المؤسساتي، وعدم رضا المواطن عن المنظومة بشكل عام، وانتقاده النخبة التي تتناول فقط نظام الحكم فى إسرائيل سياسيًا وإعلاميًا. وأشار استطلاع أجراه “معهد الديمقراطية الإسرائيلي” إلى أن 38% من الجمهور غير راضين عن الخدمات التي يتلقونها من الحكومة،  ورأى أكثر من ثلث المواطنين أن ضعف الخدمة العامة يضر بشكل مباشر بأدائهم المجتمعي، وتتوافق هذه البيانات مع التراجع المستمر لثقة الجمهور في المؤسسات والحكومة حيث أن 18% فقط من الإسرائيليين يثقون في المسؤولين الحكوميين.

أحلام الأمن والنجاة

رغم كل العلامات التى تُشير إلى انعدام الشعور بالأمان لدى الاسرائيليين بشكل عام، تشير الاستطلاعات أن هذا الشعور تضاعف وصاحبه إصابتهم بالإحباط في القطاع اليهودي، نتيجة قناعة الفرد بأنه لن ينتصر في النهاية وسينتهي الأمر بالتفاوض وتبادل الأسرى. إضافة إلى ذلك فإنه يُعاني من عدم الثقة فى القيادة العسكرية، ويشعر بأن أجهزة المخابرات بأنواعها قد خذلته (كالعادة)، وأن حلمًا بالقائد المخلص يراوده بشكل دائم. ولذلك احتل “بيني جانتس” أرقامًا غير مسبوقة فى استطلاعات الرأي العام، بعد ساعات من انضمامه لحكومة الحرب المصغرة/ مطبخ الحرب، لما رأوا به ملامح المخلص، بعد قبوله الانضمام والتعاون مع نتنياهو رغم أنه من معارضيه. وتساءل الإسرائيلي طوال الوقت أين أجهزة الرصد والمتابعة البشرية والإلكترونية. وانتشرت محاولات تلمس تفسيرات لما حدث في المصادر الدينية أو البحث عن موعد نهايته فى النبؤات والأدبيات والحسابات الفلكية، وشاع عند البعض أنها ماحدث مذكور “رمزًا” فى التناخ/ العهد القديم، وفقًا لحسابات خاصة فى اليهودية تتعلق بالقيم الرقمية للحروف العبرية لأسماء: حماس، غزة،  طوفان الأقصى، السيوف الحديدية، إضافة لقيمة العام العبري الحالي. ووجدوا إشارات في بعض فقراته أسفار العدد وإرميا والمزامير، وتصف إجمالًا كيف يكون لهم فم ولا يتكلمون، وعيون ولا يبصرون وآذان ولا يسمعون، رمزًا للصدمة والمفاجأة الشديدة، كما تصف الضرب بالسيف متبوعًا بالسبي..

دورة الحياة شبه متوقفة

فرضت الجبهة الداخلية في بداية العملية قيودًا على تحركات المواطنين حفاظاً على سلامتهم، وأغلقت المؤسسات وجميع الأنشطة التعليمية التعليمية وأغلقت مراكز رعاية الأطفال والكثير من أماكن العمل، وأعلنت إمكانية القيام بنشاط دراسي أو عملي في مكان به تجهيزات يمكن من خلالها الوصول إلى مساحة محمية أو مكان آمن فى خلال دقيقة ونصف من إطلاق صفارة إنذار. وأصدرت قرار بعدم إجبار الموظف على الحضور إلى مكان عمل أو فصله حال تغيبه من مكان عمل يتوفر فيها شروط الأمن والسلامة. واتجهت بعد 10 أيام من العملية، لفرض نظام الإشارات الضوئية، خاصة في القرى والتجمعات فى محيط غزة. حيث  يُشير لون الضوء الذي توصف به منطقة ما إلى احتمالات تعرض المتواجدين بها للخطر بالنسبة لمدى جاهزية المكان في حالة الطوارئ. واقترحت فرضه بالنسبة للمدارس، حيث عادت الدراسة بها فى بعض المناطق ولكن دون طلاب، نتيجة امتناع الأهالي وتخوفهم من إرسال أولادهم للمدارس، خاصة وأن أحياء بأكملها لا يوجد بها سوى ملجأ واحد، وهناك مدارس لايوجد بها ملجأ يسع طلابها أو حتى غُرف آمنة، وأعلنت إمكانية فتح المدرسة في بعض المناطق، على أن يتحمل مديرو المدارس مسؤولية نزول الطلاب. كما فرضت الحد من التجمعات وإغلاق المؤسسات التعليمية لاخرى كأكاديميات التدريب والتأهيل الخاصة، وتأجلت الدراسة في الجامعات في البداية حتى أول نوفمبر، وزادت الاقتراحات بالعودة لنظام التعليم عبر شبكة الانترنت (الأون لاين) بشكل كامل، رغم أنه غير مفضل فى إسرائيل.

كما اختفت في الأيام الأولى ظاهرة العنف والجريمة فى القطاع الفلسطيني في الداخل ثم عادت بعد اليوم السادس لتضاف إلى معاناة المجتمع القلق، ولم تتعامل الشرطة بالطريقة المُثلى (كالعادة) وربما اتخذتها ذريعة أخرى لتنشر قواتها فى الشوراع وتزيد من حملاتها لاعتقال الأفراد، تُضاف إلى الاعتقلات الموسعة على خلفية متابععة مواقع التواصل الاجتماعي وملاحقة أي نشاط تعتبره تحريضيًا أو داعمًا لحركة حماس(وفقًا لتقديرها). وطالت هذه الاعتقالات جميع فئات هذا القطاع ولم يسلم منها النُخبة كأساتذة الجامعات، ورجال الدين والفنانين. وتم إلغاء انتخابات السلطات المحلية ورؤساء البلديات وكانت على وشك الانعقاد. كان ذلك فى إطار ضبط الشارع خشية تضامن هذا القطاع مع فلسطيني قطاع غزة كما حدث فى أحداث مايو2021م. وتركزت نشاطات هذا القطاع فى التطوع الفردي للخدمة المجتمعية، وانضم بعضهم لبعض المواطنين اليهود فيها في إطار بعض الجمعيات المدنية التى تدعو للتعايش السلمي، وأثنى الجميع على اصطفافهم خلف ممثليهم فى الكنيست الذين قرروا عدم التضحية بالمواطن، حال إعلانهم عن أى موقف يُخالف التوجهات الإسرائيلية.

تحديات واجراءات مجتمعية غير مسبوقة

تم إجلاء نحو 300 ألف إسرائيلي من منازلهم منذ بدء عملية “السيوف الحديدية” خوفاً من تفاقم الأوضاع، معظمهم من سكان الجنوب ونحو 10%من الشمال. يحق الإقامة في فنادق أو دور ضيافة على نفقة الحكومة. واضطر عدد غير قليل من العائلات للعيش مع أقاربها أو تدبير السكن البديل بنفسها. ولم تُجب الحكومة على تساؤلات بشأن استعدادها لتلبية احتياجات كبار السن والايتام والمعاقين، مع الأخذ في الاعتبار أن الأعداد قد تزيد، وسيصبح ذلك أحد التحديات التي تواجه الجبهة الداخلية، وأن هذا قد ينعكس على صحتهم النفسية وحالتهم المادية، وعلى ردود أفعالهم على هذه الأوضاع  والذي يكون موجهًا ضد أجهزة الدولة بأكملها، خاصة وأن إدارة الأزمة في  هذا الإطار تتم من خلال تطوع المواطنين والمبادرات المحلية. والمتمثلة فى تبرع الأفراد بعدد من الوجبات(المحدودة) للمحتاجين، وإعلان بعض المجموعات عن استضافة أطفال النساء اللاتي اضطررن للخروج للعمل وإعالة الأسرة نتيجة تعطل الدراسة في المدارس ورياض الأطفال، كجمعية” نساء يدعمن النساء” على سبيل المثال. إضافة للتطوع الطبي وتقديم المساعدة النفسية والميدانية، خاصة فى المناطق التي تحولت  إلى مخيمات لمئات العائلات التي تم إجلاؤها من مستوطنات الجنوب. وفي ظاهرة غير مسبوقة استوعبت منطقة  “بني براك” التي تشغلها نسبة كبيرة من المتشددين دينيًا، عددًا كبيرًا من هذه العائلات بغض النظر عن توجهها الديني او السياسي، وقام أصحاب المطاعم من تل أبيب أو التابعة للنساء المتشددات دينيًا من بني براك والقدس بتقديم وجبات الطعام لعشرات الآلاف من الجنود والأشخاص الذين تم إجلاؤهم. واستغل الإعلاميون والمؤثرون في الرأي العام شهرتهم لجمع التبرعات. كما انتشرت إعلانات التطوع فى الجيش الإسرائيلي من قِبل الفئات المعفاة من الخدمة، مثل فئة المتدينين والمتحولين جنسيا. وبشكل عام وفي غياب الرعاية المنظمة من قِبل الحكومة الإسرائيلية كانت هناك استجابة كبيرة في المجتمع لنشاطات المنظمات الاجتماعية والتي تأسس بعضها لملء الفراغ الذي تركته مؤسسات الدولة والذي كشفت الأزمة افتقارها إلى الرؤية بعيدة المدى.

المجتمع الإسرائيلي بعد الحرب

عادت الحياة إلى طبيعتها بعد مرور أسابيع على الحرب، وعاد الطلاب إلى مدارسهم بشكل تدريجي وفي بعض المناطق دون غيرها بتنسيق بين وزارة التعليم والجبهة الداخلية، وفتحت الأسواق والمحلات رغم ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق غير أنها خلت من روادها، وبدأت وسائل الإعلام في تقديم برامجها الاعتيادية على خلفية مترقبة حذرة، في إطار ما يُعرف في إسرائيل بــ” روتين الحرب”. ولم يبق متوقفًا سوى الدراسة فى الجامعات حيث تأجلت للأول من ديسمبر. ومعالجة الضرر الذي وقع على القطاع الزراعي ويتركز في الجنوب، والذي تضرر بنسبة 75%، ويعاني من نقص شديد في الأيدي العاملة (أغلب العمال به أجانب وخاصة من تايلاند)، واضطر البعض لقطف محاصيل قبل ميعاد حصادها خشية تضرر الأشجار بسبب الصواريخ، وتوقف نشاط كرة القدم بشكل تام وهو نشاط مهم بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي ويعبر استئنافه على استقرار الأوضاع إلى حد كبير، ورفض الكثير من اللاعبين العودة للتدريبات خوفًا من التصعيد والنقص الشديد فى الموارد المالية، وكذلك جميع الأنشطة الرياضية الأخرى، وبعد أن كان لسؤال المطروح في استطلاعات الرأي: إلى متى ستستمر الحرب أصبح السؤال وكان الرأي السائد أنها ستستمر قرابة شهر على أقصى تقدير، أدى تحرُك الشارع الإسرائيلي واحتجاجات أهالي الرهائن للمطالبة بأن تكون عودة أبنائهم في المقام الأول قبل الحرب على جدول المسؤولين، إضافة لمن انضم إليهم في للداعمين لهم والمعترضين على أداء الحكومة المتطرفة ، إلى تغيير اهتمام الاستطلاعات باليوم الذي التالي بعد الحرب. فأظهر استطلاع أجرته القناة 12 خلال برنامج لقاء مع الصحافة، أن أكثر من نصف  الجمهور حوالي 58%  يؤيد إقالة نتنياهو من منصب رئيس الوزراء، وإجراء انتخابات جديدة فور نهاية الحرب. وعندما سئل الجمهور في شأن قطاع غزة أيد 44% تجديد الاستيطان والإقائمة الدائمة في غزة، وعارض 39% منهم تجديد التسوية السلمية، ورأى 30%  منهم ضرورة وضع غزة تحت وصاية دولية، ورأى  14%  منهم ضرورة أن يكون هناك تواجد عسكري دائم في غزة، ودعا 10% إلى نقل الإشراف على غزة للسلطة الفلسطينية. ولكن تغيير وجه الحكومة رغم أهميته لن يكون كافيا دون تغيير عميق وجوهري في الطريقة التي تُقدم بها بها إسرائيل نفسها وتدير شؤونها وتختار أولوياتها القيمية، والتخلي عن التمييز والإقصاء والقمع لغير اليهود، وتوجيه أسلحتها نحو الأبرياء، وعدم اختزال الاعتراف بالمسؤولية في رئيس الوزراء. رغم صعوبة تجاهل حجم الضرر الذي ألحقه والائتلاف الحكومي الأكثر تطرفًا بالمجتمع الإسرائيلي خلال تسعة أشهر ونصف، كان كل تركيزهم فيها نحو نجاته من الإدانة والسجن واتبعوا فيها التحريض والتمييز والفساد منهجًا لهم.

وأخيرًا، اعتبر المجتمع الإسرائيلي أن عملية “طوفان الأقصى” هي صدمة ما بعد الصدمة (حرب أكتوبر-طوفان الأقصى) وكانت بمثابة فشل وانهيار فى الثوابت العامة خاصة فى القطاع اليهودي، والذي يرى أن الحال بعدها لن يعود كما كان. ويُمكن وصف تداعيات الأيام الأولى لعملية “السيوف الحديدية” على المجتمع الإسرائيلي، بالاضطراب والارتباك المؤسساتي والمجتمعي، والذي أدى إلى تعطيل في دورة  الحياة، وظهور حلقة جديدة على السطح  من سلسلة الأزمات التي يواجهها هذا المجتمع، التى بدأت مع تداعيات أزمة “كورونا”، وأزمة عدم استقرار المنظومة السياسية، مرورا بالأزمة الاجتماعية- السياسية التي بدأت منذ يناير الماضي مع الاحتجاجات على خطة التغيرات القضائية، مرورًا بهذه العملية التي كشفت اتساع الفجوة في التواصل بين المنظومة الحكومية والمجتمع، وعدم استعداد الإدارة الداخلية لتغيير الواقع بوتيرة سريعة أو مفاجأة. وتُظهر جميعها حاجة المجتمع الإسرائيلي إلى رفع ثقة الجمهور في مؤسسات الدولة، والعمل على تعزيز التضامن الاجتماعي، إذ أن القفز فوق العقبات الاجتماعية والثقافية والتطوع الفردي دون دعم حكومي وفي وضع اقتصادي متردي؛ ما يعني أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة. لإن التعامل مع التحديات العميقة والمتجذرة فى المجتمع الإسرائيلي تتطلب بناء منظومة سياسية تتخلى عن المصالح الشخصية، وتُجيد التعامل مع  المشاكل الصارخة في وجه المجتمع منذ عقود، كالعنصرية والتمييز والانقسام والتطرف والعنف والجريمة، وأن يكون التعليم مشتركًا وموحدًا بين الجميع، والقضاء على التمييز فى التجنيد، ودعم الخدمة المدنية وإلزام جميع المواطنين بها، وسن القوانين التي تمنع المتهمين والمُدانين وكل من خالف القانون من المشاركة السياسية، وإعادة النظر فى القوانين التي تؤسس ليهودية الدولة، والعمل بالقوانين التي ترسخ للعدالة الاجتماعية والمساواة ومنح حقوق المواطنة للجميع. وتعلم جيدًا أن اختفاء القضية الفلسطينية هي فكرة مستحيلة، لأن الفلسطينيين لن يختفوا جغرافيًا وديموجرافيًا على الأقل في قطاع غزة والضفة الغربية، ويتطلب ذلك حكومة واعية تعمل على حل يؤدي إلى تسوية دائمة لصالح الجميع وتبذل كل الجهود للعمل على إنهاء الصراع ، وإلا سيواجه المجتمع الإسرائيلي كارثة جديدة كل بضعة سنوات.

شاركها.

اترك تعليقاً

Exit mobile version