أشعر بمزيد من الفخر والاعتزاز بما حققته العسكرية المصرية من انتصارات في السادس من أكتوبر, ولعل ما اطلعت عليه من ترجمة للأجزاء الأربعة من وثائق لجنة أجرانات قد أكمل الفجوات التي لم أتمكن من الإطلاع عليها بملفات المخابرات العامة التي تناولت جهود المؤسسات المصرية خلال الاستعدادات لحرب أكتوبر. لقد كانت تلك الجهود منسقة ومتكاملة لتحقيق خطة الخداع الاستراتيجي والتعبوي والتكتيكي على المستويين المدني والعسكري, وفى كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية.

استفادت مصر من الصراع بين أجهزة الأمن الاستخباراتية فى إسرائيل، فعادة ما يكون هناك انحيازات لمصادر جمع المعلومات المتاحة سواء للمخابرات العسكرية أو الموساد، حيث تعتبر شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” جهاز الموساد أحد مصادرها الهامة للمعلومات وليس العكس، ولكن تقع مسؤولية تقدير الموقف على المخابرات العسكرية.

وكان من أحد المعطيات التي ساهمت فى خطة الخداع الاستراتيجي تعزيز تقديرات الاستخبارات العسكرية وذلك بتعويدها على تكرار إعلان التعبئة العامة رداً على مناورات مفتعلة وآخرها فى أبريل 1973 بعد نقل أخبار عن استعدادات لهجوم مصري فى مايو 1973, حيث كان تقدير موقف الاستخبارات العسكرية باستبعاد حدوث الهجوم، إلا أن رئيس الأركان رفض هذا التقدير  وأعلن التعبئة الشاملة مما أدى إلى تعطيل الحياة في إسرائيل وتكبيد الدولة خسائر كبيرة.

وبالتالي رغم الإنذارات باحتمالات الهجوم المصرى إلا أن تقديرات شعبة الاستخبارات كانت تؤكد عدم جدية مصر وسوريا في الهجوم، ومن ثم أوصت بعدم  إعلان التعبئة العامة في إسرائيل.

أعدت الوحدة 8200 التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية ” أمان ” تقريرًا يوم الأربعاء 3 / 10 / 1973 بقيام الاتحاد السوفييتي بإخراج عائلات الخبراء الروس من مصر وسوريا عبر ميناء الاسكندرية و اللاذقية البحري في سوريا، مع عمل جسر جوي من دمشق إلى موسكو لنقل الخبراء وعائلاتهم، مما أوجد انطباعًا باحتمالات قيام مصر وسوريا بشن حرب ضد إسرائيل، ودفع القيادة السياسية في إسرائيل لمخاطبة الولايات المتحدة بإرسال رسالة لكيسنجر للتأكيد على أن إسرائيل لن تبدأ بالهجوم، وأنها على علم بنوايا المصريين و السوريين بالهجوم.

  • الغريب أن إسرائيل لم تلجأ إلى تعبئة قوات الاحتياط حتى صباح 6 أكتوبر رغم تأكد موشيه ديان من تزايد احتمالات شن حرب على الجبهتين المصرية والسورية. وحتى يوم 4 أكتوبر كانت مصادرنا تؤكد أن ما يتم تداوله من أخبار حول الاستعدادات على الجبهتين في إطار مناورة على مستوى مراكز القيادة يوم 5 أكتوبر وعلى مستوى القوات يوم 6، و يوم 7 أكتوبر.
  • المساحات المحذوفة بمعرفة الرقابة العسكرية تحتاج لدراسة من المتخصصين لملء الفجوات في المعلومات.

ربما يتعرض شبابنا لدعاية مضادة تقودها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وبعض الأجهزة والكتائب الالكترونية المناوئة لمصر للتشكيك في انتصار المصريين في حرب أكتوبر، وردي على ذلك يكون من خلال الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية، حينما أصدرت رئيسة الوزراء قرار تشكيل لجنة إجراءات التحقيق في محاولة لتخفيف الضغوط الداخلية التي تتعرض لها الحكومة الاسرائيلية نتيجة قسوة الهزيمة التي تعرضت لها إسرائيل.

كان الهدف الأساسي هو محاولة تقديم كبش فداء يتمثل في القيادات العسكرية ورتب الاستخبارات العسكرية، وهو ما تحقق بالفعل في نتائج التقرير المعلنة إلا إنها أدت إلى تظاهرات غاضبة خاصة بعد تبرئة موشيه ديان، مما دفع كلًا من رئيس الوزراء  ووزير الدفاع للاستقالة وأثّرت على نتائج الانتخابات التي حدثت لصالح تولي اليمين الإسرائيلي الحكم، ونجاح مناحيم بيجين في تولي رئاسة الحكومة.

الحقيقة أني كباحث مصري أرى أن سطور التحقيقات التي تضمنتها تقارير لجنة أجرانات مع كافة المسئولين السياسيين والعسكريين تكشف عن انعدام أخلاق اللجنة التي اتجهت إلى إلقاء المسئولية عن الهزيمة أو التقصير كما يسمونه – بشكل حصري – على القيادات العسكرية، وهو ماظهر فيما يلي :

 أ – رأت اللجنة أنه نظرًا للفشل الشديد الذي سقط فيه اللواء زعيرا، رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية، فليس من الممكن أن يبقى في منصبه كرئيس للمخابرات العسكرية، وهو ما أدى إلى استقالة اللواء زعيرا من الخدمة العسكرية كليًا.

ب – أوصت اللجنة باستبعاد العميد أرييه شاليف مساعد رئيس المخابرات العسكرية للبحوث من منصبه ومن العمل في المخابرات العسكرية، وحملته مسئولية الخطأ في تقدير الموقف بسبب تمسكه بنظرية عمل المخابرات فيما يتعلق باحتمال نشوب الحرب.

ج –  توصلت اللجنة إلى نتيجة قاطعة؛ مفادها أن رئيس الأركان العامة دافيد إليعازر يتحمل مسئولية شخصية عما جرى عشية الحرب، سواء فيما يتعلق بتقدير الموقف أو فيما يتعلق برفع درجة الاستعداد في الجيش الإسرائيلي. وأوصت اللجنة في التقرير التمهيدي (بند رقم 28) بإنهاء عمل رئيس هيئة الأركان العامة.

د –  بالنسبة لقائد الجبهة المصرية اللواء شموئيل جونين ورد في التقرير الأول أن اللجنة لن تقدم في هذه المرحلة توصية بخصوص صلاحية اللواء جونين لتولي مناصب في الجيش الإسرائيلي، ولكنها أوصت ألا يشغل منصبا فعليا حتى تنتهي اللجنة من تحقيقاتها حتى فيما يتعلق بمرحلة معارك وقف تقدم العدو. وترتب على ذلك استقالته من الخدمة بالجيش

هـ – أوصت اللجنة بالنسبة لعدد من صغار ضباط المخابرات العسكرية بمنعهم من تولي مناصب في المخابرات، نظرا للإهمال الجسيم الذي شاب عملهم.

بالإضافة إلى ما سلف فقد أفردت لجنة أجرانات في الفصل الثالث تفاصيل عن خطة الخداع الإستراتيجي التي طبقها الجيش المصري، تمثلت حسبما ورد في تقرير اللجنة فيما يلي:

أ-  إذاعة تفاصيل كثيرة عن “المناورة” وكذلك عن مناورة “تحرير 41” التي يوشك الجيش المصري على إجرائها في وسائل الإعلام المصرية.

ب- إصدار تعليمات ونشر خبر في الصفحة الأولى لصحيفة الأهرام بتاريخ 4/10/1973 يفيد بأن وزير الحربية سمح للضباط والجنود في القوات المسلحة بأداء فريضة الحج إلى مكة هذا العام، وأن آخر موعد لتلقي طلبات الراغبين في الحج سيكون يوم 11 أكتوبر. واعتبرت المخابرات العسكرية أن هذا الخبر هو سير في اتجاه استمرار “الحياة الروتينية” في الجيش المصري.

ج- نشر معلومات علنية في وسائل الإعلام المصرية والسورية عن خوف الدولتين من هجوم إسرائيلي في الأيام القادمة.

د- في نهاية سبتمبر 1973 سرّب السوريون إلينا تلميحات عن طريق ضابط الأمم المتحدة تفيد بأن الوقت قد حان لعقد لقاءات جديدة مع الإسرائيليين، على النحو الذي كان يجري منذ سنوات عديدة في “روش بيناه” و”جسر بنات يعقوب”.

هـ-  إعلان يفيد بأن جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم للخدمة بين 28 و30 سبتمبر “لأجل التدريب على التعبئة وتلقي تدريبات تنشيطية” سوف يسرحون في يوم 10 أكتوبر. وكان تقييم المخابرات العسكرية لهذا الخبر: أن هذه المناورة هي مناورة مشتركة تجري كمناورة مقار قيادة.

و- تعليمات بتوقف كل فرق الضباط “لكي يفيدوا من المناورات التكتيكية”، مع الإعلان عن أن البحوث في الكلية الحربية ودراسات القادة والأركان، وكذلك كافة الفرق التدريبية سوف يجري استئنافها اعتبارا من الساعة 8:30 صباح يوم 9 أكتوبر (بعد نهاية المناورات).

ز- بالنسبة للاسم الوهمي الذي تم إطلاقه على هذه المناورة وهو “تحرير 41”: أثناء حرب اكتوبر73 سقطت في أيدينا وثائق غنيمة، كان من بين ما تضمنته “تعليمات تنظيمية لمناورة بين مراكز القيادة الاستراتيجية العملياتية تتكون من مستويين وتجري بوسائل الاتصال- واسمها تحرير 41”. في البند 9 من هذه التعليمات، ورد أنه يجب استخدام الاتصال السلكي وأجهزة بث الصور وضباط اتصال ومراسلين متنقلين، ولا يجب استخدام وسائل الاتصال اللاسلكي سوى بأوامر من قائد المناورة. ومن المحتمل أن تكون القيادة المصرية قد نجحت عن طريق هذه التعليمات في أن تخفي عنا وسائل نقل أوامرها الحقيقية.

ح- كانت لدينا معلومة تفيد بأنه في حالة حدوث حرب سيتم إطفاء شعلة اللهب التي في حقل بترول مرجان في الضفة الغربية لخليج السويس، لأن العمل في الحقل سوف يتوقف. ولم يتم إطفاء هذه الشعلة عشية الحرب ولا حتى أثناء الحرب. وربما لم يوقف المصريون عمل حقل البترول عن قصد بهدف خداعنا.

ط- حتى اللحظة الأخيرة التي سبقت الهجوم تقريبًا، شوهد جنود مصريون بجوار القناة لا يرتدون الشدة والخوذة، ويعملون في أعمال عادية، مثل الصيد في القناة (ومع هذا فمن الجدير بالذكر أنه في يوم 4 أكتوبر شوهد جنود مصريون يرتدون أطواق نجاة وآخرون يرتدون أقنعة واقية من الغاز).”

لاشك فإن خطة الخداع الاستراتيجي التي نفذتها القيادة السياسية لم تقتصر على البعد العسكري فقط ، وإنما امتدت لتشمل المواقف والتصريحات السياسية ، حيث تم تسريب رسائل عن نية السادات شن الحرب مرتين قبل أكتوبر 1973. وتؤكد المصادر الإسرائيلية أن ذلك تم بمعرفة أشرف مروان (الملاك)، وبما يعكس الدور البطولي الذي قام به في المساعدة على تأخير استعدادات الجيش الإسرائيلي للتعبئة ، وخاصة في الظروف شديدة التعقيد المرتبطة باقتحام القناة واجتياح الدفاعات الحصينة لخط بارليف من مسافة 180 مترًا تطلب العديد من الإجراءات والاستعدادات التي لا يمكن لأي جيش أن يخفيها في الساعات السابقة على بدء الحرب، خاصة في ظل امتلاك إسرائيل أقوى وأحدث أنظمة جمع المعلومات، سواء على خط الجبهة أو في عمق الدولة، فضلًا عن التعاون الوثيق بين المخابرات الإسرائيلية والمخابرات الأمريكية.

نقطة تحول استراتيجي في حساب القدرات العسكرية قبل حرب أكتوبر كانت العملية الجوية التي أسفرت عن إسقاط 13 طائرة ميج سورية  يوم    13/ 9/ 1973، وقد بذلت جهود كبيرة لتهدئة قيادة الجبهة الشمالية والحيلولة دون الدخول في عمليات انتقامية تفسد خطة الخداع الاستراتيجي، وطمأنة القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل لسيطرة حالة من الاسترخاء العسكرى على الجبهتين الشمالية والجنوبية.

رغم تأكد جولدا مئير من استعدادات الحرب صباح يوم 6 أكتوبر نتيجة التصوير الجوي على الجبهتين الشمالية والجنوبية، إلا أن الوقت المتاح للتعبئة الشاملة كان محدودًا للغاية، كما أن فرق التوقيت مع الولايات المتحدة لم يسمح لها باستشارة الإدارة الأمريكية حول القيام بعملية جوية لإجهاض الهجوم، خاصة وأن نتائجها لم تكن محسومة نتيجة استعداد القوات الجوية وقوات الدفاع الجوي على الجبهتين، ويرجع ذلك لتعهد إيلى زعيرا بتوفير عنصر الإنذار المبكر ضد أية تهديدات حقيقية على الجبهتين الشمالية الجنوبية قبل حدوثها بوقت كافٍ يسمح بالتعبئة العامة الشاملة لقوات الاحتياط.

انتهت لجنة أجرانات إلى تحميل رئيس الأركان وشعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” مسؤولية الهزيمة فى حرب أكتوبر مع تبرئة رئيسة الوزراء ووزير الدفاع وهو ما أثار الرأى العام الإسرائيلي، وأدى إلى تظاهرات واحتجاجات شعبية للمطالبة باستقالة رئيسة الوزراء ووزير الدفاع. السؤال هنا كيف لحكومة منتصرة أن تحاكم قياداتها العسكرية من الجيش والاستخبارات حتى قبل انتهاء العمليات العسكرية.

تحية إعزاز وتقدير لجيش مصر العظيم الذي آلى على نفسه الّا يستريح قبل إزالة آثار العدوان الإسرائيلي واستعادة الكرامة للأمة العربية، فقضى ضباطه وجنوده سنوات من العرق والتدريب لتحقيق نصر أكتوبر العظيم واستعادة الأراضي المحتلة في سيناء الحبيبة، كما يواصل أبناؤهم وأحفادهم حالياً مرحلة من الكفاح في مواجهة التنظيمات الإرهابية لتطهير سيناء من المأجورين والمرتزقة الذين استقدمتهم أجهزة استخبارات أجنبية لزعزعة إستقرار البلاد.

“حفظ الله مصر، وبارك شعبها العظيم”

 

شاركها.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version