أ/ محمود سامح همام .. باحث بوحدة الدراسات الأفريقية
في إطار سلسلة التقارير التحليلية التي ترصد أبعاد التغلغل الخليجي – التركي في شرق أفريقيا، تبرز المملكة العربية السعودية كلاعب محوري يسعى لترسيخ نفوذه عبر مزيج متوازن من النفاذ الاقتصادي واسع النطاق والانخراط الأمني الانتقائي. فبينما تحرص الرياض على بناء شبكة واسعة من الاستثمارات في قطاعات البنية التحتية والطاقة والزراعة، فإنها في الجانب الأمني تتحرك بحذر شديد، منتقية مواقع استراتيجية عالية القيمة، بما يضمن لها موطئ قدم دائم على الضفة المقابلة للبحر الأحمر، ويحفظ لها القدرة على التأثير في معادلات الأمن البحري والإقليمي، فضلاً عن توفير سلال إمدادات غذائية مستقرة لتجاوز مشكلة الندرة المائية بالمملكة، هذا التوجه يعكس قراءة سعودية دقيقة لتشابك المصالح في الإقليم، حيث تتقاطع أهدافها مع أولويات الأمن القومي، وحماية طرق التجارة، وتأمين عمقها الاستراتيجي في مواجهة التحولات الجيوسياسية المتسارعة.
أولًا: البعد الاقتصادي – استثمار التنمية كأداة للهيمنة الناعمة
الاقتصاد هو العمود الفقري للحضور السعودي في شرق أفريقيا، حيث تمتلك المملكة محفظة استثمارات تُقدَّر بنحو 15.6 مليار دولار تغطي 11 دولة من أصل 12 في المنطقة. ويعتمد هذا التوجه على أدوات تمويلية منظمة، أبرزها الصندوق السعودي للتنمية، والبنك الإسلامي للتنمية (الذي تمتلك فيه المملكة 23.5% من رأس المال)، ما يوفر قناة رسمية ومستدامة لضخ الموارد المالية والمشاريع التنموية.
جيبوتي تمثل القلب النابض لهذه الاستراتيجية، حيث تستحوذ على أكثر من 80% من إجمالي الاستثمارات السعودية في شرق أفريقيا، بقيمة تصل إلى 13 مليار دولار. وتعد مصفاة دامرجوج الدولية، التي تبلغ تكلفتها 12.7 مليار دولار، أبرز هذه المشاريع، إذ من المتوقع أن تتحول إلى واحدة من أكبر المصافي النفطية في المنطقة، ما يمنح السعودية قدرة غير مباشرة على التأثير في سوق الطاقة الإقليمية. إلى جانب ذلك، تم إنشاء مدينة لوجستية سعودية بمساحة 120 ألف متر مربع، بعقد إيجار مدته 92 عامًا، لتكون مركزًا لتجارة المملكة مع القرن الأفريقي، وهو مشروع يعزز من تحكم الرياض في حركة البضائع عبر ممر باب المندب.
خارج جيبوتي، تنتشر الاستثمارات السعودية بشكل مدروس:
§ إثيوبيا: تستثمر السعودية نحو 365 مليون دولار في الطرق والكهرباء والمياه والصرف الصحي، ما يعزز العلاقات مع دولة مركزية جيوسياسيًا في القرن الأفريقي.
§ كينيا: تستثمر المملكة نحو 164 مليون دولار في البنية التحتية الصحية، والطرق، والطاقة، والزراعة، لتقوية الروابط مع أحد أكبر اقتصادات شرق أفريقيا وأكثرها تأثيرًا سياسيًا.
§ أوغندا: تستثمر الرياض نحو أكثر من 400 مليون دولار في مشاريع استراتيجية، من بينها جسر جينجا الجديد، ومرافق المياه والمستشفيات، ما يرسخ الوجود السعودي في قلب البحيرات العظمى.
§ الصومال: حيث تستثمر المملكة السعودية نحو 84 مليون دولار في القطاع الزراعي، ما يسهم في تعزيز الأمن الغذائي بما يدعم نفوذ المملكة في بلد يتمتع بموقع بحري حساس.
§ إريتريا: كما تستثمر السعودية نحو 61 مليون دولار في الطرق والكهرباء والزراعة، استكمالًا لدور سعودي – إماراتي مشترك أعقب اتفاق السلام الإريتري – الإثيوبي عام 2018.
§ السودان: بلغت إستثمارات السعودية نحو مليار دولار في مشاريع البنية التحتية الزراعية والري والسدود، إضافة إلى دعم مالي مباشر للبنك المركزي.
وبهذا الانتشار، يتضح أن السعودية تستخدم القوة الناعمة الاقتصادية كأداة لبناء نفوذ سياسي طويل الأمد، حيث توفر الاستثمارات التنموية غطاءً شرعيًا لتعزيز حضورها الدبلوماسي، وتوسيع شبكات الاعتماد المتبادل مع العواصم الأفريقية.
ثانيًا: البعد الأمني – تموضع انتقائي في عقد جغرافية حيوية
على النقيض من الانتشار الاقتصادي واسع النطاق، فإن البعد الأمني السعودي في شرق أفريقيا يتسم بـ الانتقائية، حيث تركز الرياض مواردها الأمنية والعسكرية في نقاط محدودة لكنها بالغة الأهمية من الناحية الاستراتيجية.
ففي جيبوتي، تتجاوز العلاقة مع المملكة حدود الاستثمار إلى أبعاد أمنية واضحة، إذ تجري مفاوضات لإنشاء قاعدة عسكرية سعودية بعقد إيجار لمدة 92 عامًا، في موقع يطل مباشرة على مضيق باب المندب، أحد أكثر الممرات البحرية حيوية للتجارة العالمية. هذا التموضع يمنح السعودية قدرة على مراقبة وتأمين طرق الملاحة، كما يضعها في موقع متميز للتعامل مع أي تهديدات بحرية أو تحركات لقوى منافسة في المنطقة.
وفي السودان، يتداخل البعد الأمني مع الأهداف الاقتصادية، إذ تقدم السعودية دعمًا ماليًا ولوجستيًا للقوات المسلحة السودانية في نزاعها مع قوات الدعم السريع، إلى جانب 250 مليون دولار لدعم البنك المركزي. هذا الدعم لا يعكس فقط الرغبة في استقرار السودان كجار على البحر الأحمر، بل أيضًا في الحفاظ على دولة حليفة ضمن ترتيبات الأمن الإقليمي، خصوصًا في ظل التنافس الإقليمي على النفوذ داخل هذا البلد.
أما في إريتريا، فقد لعبت السعودية، بالتنسيق مع الإمارات، دور الضامن لاتفاق السلام مع إثيوبيا عام 2018، وهو ما فتح الباب أمام تعاون أمني محدود، وإن كان النشاط العسكري الميداني تمركز خلال أحد الفترات أكثر في الجانب الإماراتي عبر ميناء عصب.
اللافت أن هذا الحضور الأمني السعودي لا يمتد إلى كل دول شرق أفريقيا، بل يظل انتقائيًا، مع مراعاة توازن العلاقات مع القوى الدولية (كالولايات المتحدة والصين) والإقليمية (مثل تركيا والإمارات وقطر). هذه السياسة توفر للرياض مرونة استراتيجية، وتجنبها الانخراط في مواجهات مباشرة قد تستنزف مواردها أو تعقّد علاقاتها مع شركائها الدوليين.
ختامًا، تُظهر قراءة المشهد أن الاستراتيجية السعودية في شرق أفريقيا تقوم على مزيج مدروس بين القوة الاقتصادية الناعمة والحضور الأمني الانتقائي، حيث تُستخدم الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية والطاقة والزراعة كأدوات لتوسيع النفوذ السياسي وتوفير حلول بديلة لسلاسل الأمدادات الغذائية وخلق شبكات اعتماد متبادل مع العواصم الإقليمية، فيما يتركز الانخراط الأمني في مواقع جغرافية عالية الأهمية مثل جيبوتي والسودان لضمان السيطرة على الممرات البحرية الحيوية وحماية العمق الاستراتيجي للمملكة. هذا النهج يمنح الرياض مرونة في التحرك، وقدرة على تعزيز مكانتها ضمن التوازنات الإقليمية، مع تجنب الانخراط العسكري واسع النطاق، ما يجعلها لاعبًا قادرًا على التأثير في معادلات الأمن والتنمية بالقرن الأفريقي دون استنزاف مواردها أو الدخول في مواجهات مباشرة مع القوى المنافسة.