إعداد: حسين محمود التلاوي
اتخذت قوات الدعم السريع السودانية قرارًا بإنشاء حكومة في المناطق التي تسيطر عليها ضمن الصراع القائم بين القوات والجيش السوداني. ولم يكن هذا القرار مجرد خطوة رمزية، بل تطورًا خطيرًا من شأنه أن يؤدي إلى تعقيد الصراع، وعرقلة جهود الوساطة لتصفيته، إلى جانب ما له من تداعيات على المستويين؛ الداخلي والخارجي.
وتناول الجزء الأول من هذه المتابعة طبيعة القرار وخلفيات الصراع، وانعكاساته على الداخل السوداني، ودول الجوار، والمواقف الدولية من الأزمة. ويتناول هذا الجزء الثاني تداعيات القرار على الأمن القومي المصري.
الموقف المصري من الأزمة السودانية
من المفيد إلقاء نظرة على الموقف المصري من الأزمة السودانية من أجل فهم التحديات التي يفرضها قرار الدعم السريع على الأمن القومي المصري. يتأسس الموقف المصري من الأزمة السودانية على ثوابت لطالما اعتمدتها السياسة الخارجية المصرية؛ وهي الحفاظ على وحدة الدولة وسلامة أراضيها ومؤسساتها، ورفض أية مشروعات انفصالية، ودعم أية جهود لتسوية الأزمات بحيث تبنثق الحلول من الداخل لا تُفرض من الخارج.
كان الناتج الطبيعي لهذه الثوابت أن تدعم مصر مجلس السيادة السوداني المعترف به دوليًّا والجيش الوطني في مواجهة الدعم السريع مع السعي إلى تسوية الأزمة بما يحقق يحافظ على الدولة السودانية من أية مخططات تقسيم أو مشروعات انفصالية، وعلى مصالح السودانيين، وينهي التداعيات المختلفة للصراع في البلاد؛ وفي مقدمتها الأزمة الإنسانية، بالإضافة إلى إزالة ما يفرضه هذا الصراع من تداعيات على الدولة المصرية تتوزع على العديد من المسارات؛ في مقدمتها الأمن القومي، والاقتصاد بسبب تدفق اللاجئين إلى الأراضي المصرية.
التهديدات المحتملة جراء إعلان الدعم السريع حكومة في السودان
من شأن هذه الخطوة من جانب الدعم السريع أن تحفز مهددات للأمن القومي المصري قائمة بالفعل، وأن تنشئ عوامل تهديد جديدة، ويمكن رصد تلك التهديدات القائمة والمحتملة فيما يلي:
أولًا: تزايد نشاط المرتزقة في مناطق الدعم السريع قرب الحدود المصرية — من المعلوم أن قوات الدعم السريع تعتمد على تجنيد عناصر من خارج السودان للخدمة في صفوفها؛ ومن بين هؤلاء المقاتلين مرتزقة من دول الساحل والصحراء، ومن الأجانب الذين حاربوا في ليبيا، ومن مرتزقة مجموعة فاجنر الروسية الذين رفضوا الانضمام إلى الجيش الروسي بعد سيطرته عليها. يزيد من قوة هذا التهديد سيطرة قوات الدعم السريع على الجانب السوداني من منطقة المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا. وذكرت العديد من التقارير الإعلامية في هذا السياق أن القوات المسلحة المصرية نفذت عملية عسكرية في الجانب المصري من المثلث الحدودي في أعقاب سيطرة الدعم السريع على الجانب السوداني لـ”صد عمليات تسلل” و”ردع أية تهديدات محتملة”.
فعلى الرغم من ضعف احتمالات مهاجمة قوات الدعم السريع للأراضي المصرية، يبقى أن المرتزقة العاملين في صفوفها يعملون من أجل المال، ويسهل شراء ولائهم من أية جهة لتنفيذ اعتداءات أو تسلل داخل الأراضي المصرية انطلاقًا من الأراضي السودانية، وهناك العديد من الجهات التي يهمها إثارة أية اضطرابات في الدولة المصرية، ولو من خلال عمليات تسلل محدودة. ومن بين هذه القوى إثيوبيا ذات العلاقات الجيدة مع الدعم السريع؛ حيث تشن هجمات على الجيش السوداني في الشرق عبر ميليشيات مدعومة من الجيش الإثيوبي للاستيلاء على الأراضي، وتخفيف الضغط عن الدعم السريع في صراعه مع الجيش السوداني.
ثانيًا: تحول المنطقة الحدودية إلى منصة استخبارية لقوى معادية — ينبثق هذا التهديد من وجود المرتزقة كذلك، ولكنه تهديد ذو طبيعة أمنية أكثر منه طبيعة عسكرية؛ حيث يمكن أن تؤدي الفوضى والقتال المستمر في منطقة المثلث الحدودي ودارفور إلى تحولها إلى منصة لعناصر الاستخبارات الراغبين في فتح جبهة استخبارية جديدة ضد مصر مع تزايد حدة القتال في السودان، وتفاقم الأوضاع في قطاع غزة، واتجاه الصراع في السودان إلى التفاقم.
ثالثًا: تزايد نشاطات التهريب — قد يؤدي قرار الدعم السريع إنشاء حكومة في مناطق سيطرته إلى تعزيز شبكات التهريب بين السودان وليبيا وتشاد وصولًا إلى مناطق بعيدة في إقليم الساحل والصحراء. من غير الخفي أن الدعم السريع مرتبط بشبكات تهريب الذهب والسلاح والبشر في تلك المناطق، وقد يؤدي تثبيت دعائمه في مناطق سيطرته عبر مؤسسات مدنية وسيادية إلى تعزيز ارتباطاته بشبكات التهريب. وجود مثل هذه الشبكات على الحدود الجنوبية المصرية قد يؤدي إلى تسريب، ولو بسيط، إلى بعض تعاملاتها إلى داخل الأراضي المصرية؛ مما قد يغذي السوق السوداء في المناطق الحدودية مع مصر حال حدوثه، ويخل بأية إجراءات تهدف إلى ضبط الأسواق، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي في البلاد عمومًا.
لكن الدولة المصرية تفرض، من خلال أجهزتها ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، طوقًا ناريًّا على الحدود؛ وهو ما وضح في عملية رصد وتتبع عناصر حركة حسم الإرهابية، عندما رصدت الأجهزة الأمنية تسللها إلى الأراضي المصرية عبر دروب الصحراء “من إحدى الدول المجاورة”. هذا الحدث، بقدر ما يعكس قوة إحكام الأجهزة الأمنية المصرية السيطرة على الحدود، يعكي كذلك المخاطر التي تنبع من فوضى السلاح والمقاتلين على الحدود الغربية والجنوبية.
رابعًا: فتح الطريق أمام انتقال عناصر الجماعات الإرهابية من دول الساحل والصحراء — على الرغم من بعد المسافة بين مصر ودول مثل النيجر أو بوركينا فاسو أو مالي، فإن ارتباط قوات الدعم السريع بشبكات تهريب للبشر والأسلحة والمال والبضائع قد يساعد على انتقال العناصر الإرهابية من تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية أو الجماعات المرتبطة بهما. ففي ظل انشغال الجيش السوداني في القتال ضد الدعم السريع، والميليشيات الإثيوبية، يمكن أن تتواطأ بعض فصائل الدعم السريع مع تلك التنظيمات، وتعمل على تسهيل انتقال عناصر منها إلى قرب الحدود المصرية تمهيدًا للتسلل إلى الأراضي المصرية عبر الحدود الليبية أو السودانية، أو على الأقل تسهيل إقامة تلك الجماعات لمعسكرات تدريب في شرق تشاد القريب من إقليم دارفور غرب السودان الذي يمثل منطقة سيطرة رئيسية لقوات الدعم السريع.
خامسًا: سبقت الإشارة في الجزء الأول إلى أن إعلان القوات الدعم السريع عن إنشاء حكومة في مناطق سيطرته قد يؤدي إلى تكثيف الجيش السوداني عملياته ضد مواقع الدعم السريع؛ مما سيؤدي إلى أزمة نزوح أو لجوء جديدة بطبيعة الحال. قد يؤدي ذلك إلى عودة تدفق اللاجئين السودانيين إلى مصر بعد أن بدأت موجات رجوع اللاجئين إلى بلادهم في أعقاب إحكام الجيش السوداني سيطرته على العاصمة الخرطوم.
السيناريوهات المحتملة للصراع السوداني
هناك ثلاثة سيناريوهات أمام الصراع السوداني في أعقاب الخطوة التي اتخذها الدعم السريع، وعززت الانقسام الداخلي السوداني، ودفعت بالصراع إلى آفاق سياسية وعسكرية أشد تعقيدًا.
أ. سيناريو تكريس الانفصال
في حالة تلقت قوات الدعم السريع دعمًا سياسيًّا ودبلوماسيًّا مع بعض القوى الدولية الفاعلة في الملف السوداني؛ وبوجه خاص على نحو علني، قد يؤدي ذلك إلى ترسيخ الدعم السريع سيطرته الميدانية؛ مما يكسب المهددات المذكورة أعلاه زخمًا، ويزيد من فرص تحققها بشدة.
ب. سيناريو عدم الحسم واستمرار الوضع القائم
على المدى المنظور يبدو أن هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا بالنظر إلى صعوبة إقدام أية من الدول أو الجهات الداعمة لقوات الدعم السريع على الاعتراف العلني بحكومته. لا يعني هذا السيناريو انتهاء التهديدات المذكورة، ولكنه يجعلها في مستوى أقل من السيناريو السابق؛ حيث يستمر وجود المرتزقة، وما يحمله من مخاطر تسلل، إلى جانب استمرار شبكات التهريب في السعي إلى إيجاد منفذ إلى الأراضي المصرية، واستمرار حالة الاضطراب التي تساعد على تحول المنطقة من الجانب السوداني إلى منصة انطلاق لأي جهد استخباري معادٍ لمصر.
جـ. سيناريو انهيار الدعم السريع
على الرغم من أنه سيناريو قائم، فإنه يبدو بعيدًا بالنظر إلى أن إعلان الدعم السريع حكومة يعني أن سيطرته الميدانية على الأرض راسخة، وأنه يضمن الدعم الخارجي لقواته، وإلا ما كان أعلن الحكومة. ولكن في حالة تحقق هذا السيناريو من خلال تدخل دولي حاسم ضد قوات الدعم السريع أو انهيار قواته بسبب خلافات داخلية، قد تتراجع المههدات بشدة، ولكنها لن تتلاشى؛ لأن حالة الفوضى والاضطراب على الحدود سوف تستمر فترة طويلة، إلى حين تمكن القوات المسلحة السودانية من بسط سيطرتها كاملة على مناطق سيطرة الدعم السريع، وتنظيفها من أية فلول أو جيوب مسلحة.
توصيات لإزالة تلك التهديدات وتحجيمها:
يمكن للدولة المصرية اتخاذ عدة خطوات على مسارات مختلفة من أجل إزالة تلك التهديدات أو تحجيم أثرها، وفيما يلي بعض التوصيات بهذا الخصوص:
1. تعزيز التأمين العسكري والاستخباري للحدود الجنوبية والغربية. أوضحت الأحداث (رصد تسلل عناصر حسم، وعمليات ردع التهديدات المحتملة) أن التأمين ناجح في مهمته، لكن التطورات الحالية تشير إلى أن التعزيز مطلوب؛ لأن مستوى التهديدات آخذ في التزايد.
2. رصد خطوط التهريب وتتبعها في السودان، ليس فقط بالقرب من الحدود المصرية، ولكن في مختلف مناطق الاشتباك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
3. عدم فصل منطقة الحدود الجنوبية المصرية عن منطقة القرن الإفريقي؛ لأن أي نجاح استراتيجي تحققه مصر في منطقة القرن الإفريقي قد تشهد الحدود الجنوبية محاولة للرد عليه استغلالًا لقوات الدعم السريع بشكل مباشر أو غير مباشر.
4. التحرك الدبلوماسي لبناء شراكات تنسيقية مع دول الجوار مثل تشاد، وليبيا، ودول الساحل والصحراء، ودعم تلك الدول في بناء منظوماتها الأمنية والعسكرية لتتمكن من مواجهة شبكات التهريب والجماعات الإرهابية العابرة للحدود. جاءت زيارة وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إلى المنطقة نموذجًا على التحركات المطلوبة، لكن يتعين تكثيف الجهود بسبب تزايد نسب التهديد.
5. التحرك الدبلوماسي إقليميًّا ودوليًّا لحشد التأييد الدولي لوحدة السودان ومؤسسات الدولة فيه، ورفض أية مشروعات انفصالية فيه، أو خطط لتقسيمه؛ مما يضيق فرص تقديم القوى الدولية الداعمة لقوات الدعم السريع أية مساندة أو دعم.
إذن، جاءت خطوة قوات الدعم السريع بإعلان حكومة في مناطق سيطرتها لتحدث العديد من التداعيات الداخلية والخارجية، وتشكل تهديدًا أمنيًّا رئيسيًّا لدول الجوار؛ وفي مقدمتها مصر التي تعلن بوضوح دعمها للدولة السودانية ضد أية محاولات تمرد أو تقسيم، وتعلن كذلك استعدادها للدفاع عن أمن الشعب المصري وسلامة أراضيه ضد أية محاولات للضغط عليها لتغيير مواقفها القائمة على الأسس الراسخة للدبلوماسية المصرية.