محمود سامح همام .. باحث في الشؤون الأفريقية
لم يعد الفضاء في إفريقيا مجالاً رمزياً للتفاخر التكنولوجي أو امتداداً لسباق الهيمنة بين القوى الكبرى، بل أصبح ساحة استراتيجية ذات بعد مباشر في معادلات الأمن القومي والسيادة الوطنية والتنمية المستدامة. فبعض التجارب، وعلى رأسها حادثة انقطاع الإنترنت في غرب إفريقيا خلال مارس 2024م، كشفت هشاشة الاعتماد المفرط على البنية التحتية الأرضية، وأكدت في الوقت نفسه الدور الحيوي الذي تؤديه الأصول الفضائية في ضمان الاستقرار والمرونة في مواجهة التهديدات الطارئة. ومن هنا، يكتسب الفضاء في القارة مكانة متزايدة باعتباره أداة سياسية واقتصادية وأمنية لا غنى عنها لإدارة المخاطر ومراكمة عناصر القوة الشاملة للدولة.
الفضاء أداة للسيادة والأمن القومي في إفريقيا
لم يعد الفضاء في إفريقيا مجرد ميدان للتطلعات التقنية أو رمزاً للتقدم، بل بات ركناً أصيلاً في منظومة الأمن القومي والسيادة الوطنية. فالأقمار الصناعية اليوم توفر للدول الأفريقية قدرة استراتيجية على مراقبة حدودها المترامية، حيث تشكل تلك الحدود الهشة منفذاً سهلاً للإرهاب العابر للحدود وشبكات التهريب والاتجار بالبشر. من هذا المنظور، تتحول الأصول الفضائية إلى امتداد مباشر لسلطة الدولة على أراضيها، إذ تمنحها إمكانية الرصد الشامل والمستمر لمساحات يصعب تغطيتها عبر الدوريات البرية وحدها. كما أن مراقبة السواحل والمياه الإقليمية بواسطة أقمار المراقبة البحرية تشكل حصناً أساسياً لحماية المناطق الاقتصادية الخالصة، التي لطالما استنزفتها أنشطة الصيد غير المشروع والقرصنة.
إلى جانب ذلك، تؤدي تقنيات الفضاء دوراً محورياً في صون الثروات الطبيعية من التعدين غير المشروع والاستغلال غير المنظم للنفط وقطع الأشجار، ما يعزز قدرة الدولة على فرض رقابة سيادية على مواردها الاستراتيجية. بل إن الفضاء يمتد ليصبح جزءاً من الأمن البيئي للقارة، حيث يُسهم في مكافحة الصيد الجائر ورصد تحركات الأنواع المهددة بالانقراض، وهو ما يربط بين الأمن التقليدي والأمن غير التقليدي ضمن رؤية واحدة للأمن الشامل. وبذلك، فإن استثمارات الفضاء لم تعد خياراً ثانوياً، بل تحولت إلى ضرورة سياسية ملحة، تفرضها اعتبارات الأمن والسيادة، وتضعها في صلب أجندة الدول الأفريقية في مواجهة التحديات العابرة للحدود.
الت طبيقات المتعددة للأصول الفضائية في خدمة التحول الأفريقي
وارتباطاً بماسبق، لم تعد تطبيقات الفضاء في إفريقيا محصورة في بعدها الأمني، بل أصبحت ركيزة متنامية في معادلات التنمية والتحول الاجتماعي-الاقتصادي. فالأقمار الصناعية للاتصالات، على سبيل المثال، تمثل أداة استراتيجية لتجاوز الفجوة الرقمية التي تقطع ملايين الأفارقة عن اقتصاد المعلومات العالمي. إذ تتيح هذه الأقمار وصول الإنترنت إلى المجتمعات الريفية النائية، حيث تفشل شبكات الألياف الضوئية في الوصول. ويترتب على ذلك آثار بعيدة المدى؛ فالمدارس الريفية تكتسب منفذاً إلى منصات التعلم الإلكتروني، والعاملون في قطاع الصحة يعززون خدمات الطب عن بُعد، ورواد الأعمال ينفتحون على أسواق جديدة، بما يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن عبر تعزيز شمولية التنمية.
وبالمثل، تواصل أقمار البث أداء دور محوري في الحياة اليومية، ليس فقط عبر المعلومات والترفيه الذي توفره منصات مثل DStv وCanal، بل كذلك من خلال مساهمتها في خلق فرص عمل وتوليد قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي. إن هذه الصناعات الفضائية ليست أدوات ثقافية فحسب، بل مكونات اقتصادية مؤثرة تدعم استقرار الدولة وتعزز قوتها الناعمة.
وتبرز الزراعة، بوصفها العمود الفقري لاقتصادات القارة، كأحد أبرز المستفيدين من هذه التطبيقات. إذ توفر بيانات الأقمار الصناعية المتعلقة بالأمطار والتصحر والتربة وصحة المحاصيل مؤشراً استراتيجياً يمكّن المزارعين من اتخاذ قرارات دقيقة تزيد الإنتاجية وتقلص الخسائر. وبالنظر إلى أن الأمن الغذائي يمثل قضية سياسية حساسة، فإن الفضاء هنا يتحول إلى أداة سيادية لحماية الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل دعم علوم البحار عبر مراقبة التيارات والمصايد وتآكل السواحل، وهو ما يساعد الحكومات على حماية مواردها البحرية وتعزيز التنمية المستدامة. أما على المستوى الحضري، فتُوظف التقنيات الجيومكانية في تخطيط المدن الذكية ومواجهة تحديات التوسع العمراني غير المنظم، بما يعزز قدرة الدولة على الاستجابة لمعدلات النمو السكاني السريع. وإلى جانب ذلك، توفر دراسات الطقس والمناخ عبر الأقمار الصناعية إنذاراً مبكراً بالفيضانات والجفاف والأعاصير، ما يجعلها أداة لا غنى عنها في بناء القدرة الوطنية على التكيف مع التغيرات المناخية وتقليص مخاطر الكوارث.
إرث الفضاء الأفريقي وبصمته المتوسعة في النظام الدولي
يمتلك الفضاء في إفريقيا إرثاً ضارباً في الجذور، يتجاوز كونه مشروعاً حديثاً إلى كونه امتداداً لتاريخ طويل من التفاعل مع السماء والنجوم. فمنذ آلاف السنين، كان علم الفلك جزءاً أصيلاً من أنماط الزراعة والملاحة والممارسات الثقافية في المجتمعات الأفريقية، وهو ما يشهد عليه موقع “نبتة بلايا” في مصر، الذي يُعتبر أقدم مرصد فلكي في العالم. وخلال حقبة الحرب الباردة، لعبت القارة دوراً خفياً، ولكن مؤثراً، عبر استضافة بنى تحتية أرضية للبعثات الأمريكية والسوفيتية، مما جعلها عنصراً مسانداً في مسار استكشاف الفضاء العالمي. واليوم، يتواصل هذا الإرث عبر شراكات استراتيجية، مثل تعاون وكالة “ناسا” مع وكالة الفضاء الجنوب أفريقية “سانسا”، حيث تستضيف الأخيرة محطات أرضية ضمن برنامج “أرتميس” الهادف لترسيخ وجود بشري مستدام على القمر والتحضير لمهام المريخ. إن هذه الشراكات تعكس أن إفريقيا ليست متلقياً سلبياً للتكنولوجيا، بل شريكاً فاعلاً غالباً ما يتم التقليل من شأن مساهماته في النظام الفضائي الدولي.
في الوقت الراهن، باتت القارة الأفريقية تشهد توسعاً متسارعاً في برامجها الفضائية. إذ أطلقت أكثر من 21 دولة برامج وطنية، من بينها 18 دولة تمتلك أقماراً صناعية نشطة بالفعل، ليصل مجموع ما أطلقته إفريقيا إلى نحو 65 قمراً صناعياً، مع أكثر من 120 قمرًا إضافيًا قيد التطوير يُتوقع إطلاقها بحلول عام 2030م. ويُقدّر حجم الإنفاق الحكومي الأفريقي على الفضاء بنحو 500 مليون دولار سنوياً، تقوده دول محورية مثل مصر، وجنوب إفريقيا، ونيجيريا، والمغرب، والجزائر، وأنجولا. وتمتد هذه الاستثمارات إلى مجالات متنوعة تشمل أقمار رصد الأرض والاتصالات والبحث العلمي، وغالباً ما تُعزز عبر شراكات دولية، بما يعكس إدراك هذه الدول أن الفضاء بات مكوناً من مكونات قوتها الشاملة.
غير أن هذا النمو السريع يطرح إشكاليات سياسية واقتصادية تتعلق بالتكرار والكفاءة. فالتنافس بين الدول الأفريقية لإطلاق أقمار صناعية وطنية – حتى تلك ذات المساحات الجغرافية الصغيرة – يثير تساؤلات حول جدوى تخصيص الموارد المحدودة لمشروعات قد تكون وظيفتها متاحة بالفعل عبر منصات تجارية. وفي هذا السياق، تقدم رواندا نموذجاً مغايراً، إذ ركزت على بناء منظومة مركزية للوصول إلى البيانات المتاحة تجارياً وتوزيعها بفعالية، بدلاً من الانخراط في سباق رمزي لإطلاق أقمار صناعية جديدة. هذا الخيار يعكس وعياً سياسياً بضرورة موازنة الطموح الوطني مع متطلبات الكفاءة الاستراتيجية، ويوجه رسالة بأن القيمة تكمن في تعظيم الفائدة لا في مجرد اللحاق بركب المكانة التكنولوجية.
النموذج المصرى .. الفضاء منصة للتكامل القاري وبناء التحالفات الدولي
تتصاعد الحاجة اليوم إلى مقاربات تعاونية في مجال الفضاء داخل إفريقيا بوتيرة غير مسبوقة، بما يعكس إدراكاً سياسياً بأن الاستثمار الفردي لن يحقق الجدوى المنشودة في ظل محدودية الموارد وتعقيدات التحديات العابرة للحدود. وقد قدمت مصر نموذجاً ملموساً في هذا السياق من خلال مبادرة الأقمار الصناعية الأفريقية للتنمية (AfDev-Sat)، التي أسهمت في تدريب 71 مهندساً من 34 دولة، وفتحت مرافق التجميع والاختبار أمام شركائها القاريين. ويمثل افتتاح وكالة الفضاء الأفريقية (AfSA) بالقاهرة في أبريل 2025م محطة فارقة أخرى في هذا المسار، حيث أُنيط بها مهمة صياغة إطار قاري موحد لبرامج الفضاء، عبر تنسيق السياسات الوطنية، وتقليص التكرار، وتعزيز تقاسم البنية التحتية والبيانات. إن سياستها الطموحة تتمثل في مواءمة الاستراتيجيات الوطنية، وإطلاق مهام مشتركة، والتفاوض باسم القارة مع الشركاء الدوليين، بما يربط الأنشطة الفضائية بشكل مباشر بأهداف أجندة الاتحاد الإفريقي عام 2063م نحو قارة مزدهرة ومتكاملة.
هذا التوجه ليس معزولاً، فقد سبقت مفوضية الاتحاد الإفريقي بإطلاق مبادرة الرصد العالمي للبيئة والأمن وأفريقيا (GMES وأفريقيا) بدعم أوروبي، لتعزيز القدرة القارية على الاستفادة من بيانات رصد الأرض في خدمة التنمية المستدامة. ركزت المبادرة على إدارة الموارد الطبيعية والرصد البيئي وتنسيق العمليات الإنسانية، بتمويل بلغ 30 مليون يورو للمرحلة الأولى و25 مليوناً للمرحلة الثانية، وهو ما يعكس ثبات الدعم الأوروبي لبناء القدرات الأفريقية في هذا القطاع الاستراتيجي.
ومن أبرز الجهود الحديثة للوكالة الأفريقية للفضاء إطلاق برنامج الشراكة الفضائية بين إفريقيا والاتحاد الأوروبي عام 2025م، بتمويل 100 مليون يورو ضمن استراتيجية “البوابة العالمية” الأوروبية. ويهدف البرنامج إلى تسخير الخبرات الأوروبية في مجالات رصد المناخ والزراعة وإدارة الكوارث وتنمية القطاع الخاص، مع تأكيد مبدأ الملكية الأفريقية للبيانات والأنظمة. هذا التوازن بين الدعم الدولي والسيادة القارية يشكل بعداً سياسياً جوهرياً في رسم مستقبل الفضاء الأفريقي.
وعلى الصعيد الدولي الأوسع، أصبح الفضاء مجالاً نشطاً للتعاون متعدد الأقطاب مع إفريقيا. فأوروبا تواصل ترسيخ علاقاتها التقليدية في هذا الميدان، بينما برزت الصين بسرعة كشريك محوري في تطوير التكنولوجيا ونقل المعرفة، في حين ظلت روسيا حاضرة من خلال إطلاق قمر “أنجوسات-2” لصالح أنجولا عام 2022م. كما تبدي الولايات المتحدة استعداداً متنامياً لتوسيع تعاونها مع إفريقيا بما يتجاوز برنامج “أرتميس”، في إشارة إلى إدراك القوى الكبرى أن الفضاء يمثل مدخلاً استراتيجياً لبناء شراكات طويلة الأمد مع القارة.
الواقعية البراجماتية في مواجهة وهم المكانة الفضائية
يكشف توجه إفريقيا نحو الفضاء عن نهج براجماتي يوازن بين الطموحات السيادية والضرورات العملية. فالأقمار الصناعية وتقنياتها لا تمثل مجرد إنجازات رمزية، بل أدوات استراتيجية لتعزيز الأمن الوطني، وحماية الموارد الطبيعية، وتوسيع نطاق الاتصال، وتحقيق الأمن الغذائي، والتكيف مع التغير المناخي. غير أن معيار النجاح الحقيقي لا يقاس بعدد الأقمار الصناعية التي تطلقها كل دولة على حدة، بل بقدرة القارة مجتمعةً على تحويل الفضاء إلى أداة تكامل استراتيجي، عبر التنسيق، وبناء القدرات، وترسيخ مؤسسات قارية راسخة مثل وكالة الفضاء الأفريقية.
ويظل التحدي الأساس أمام هذه الوكالة هو الحفاظ على مرونتها وفعاليتها، بعيداً عن البيروقراطية التي أعاقت أداء مفوضية الاتحاد الأفريقي تاريخياً. كما يعتمد نجاحها المستدام على التزام الدول الأعضاء بدعمها مالياً وسياسياً، وعلى صياغة شراكات متوازنة مع القوى الدولية بما يضمن بقاء ملكية البيانات والأنظمة في يد الأفارقة. ولإرساء شرعية سياسية واسعة، يتعين ربط الإنجازات التقنية بسرديات شعبية تلقى صدى لدى المواطنين، بحيث تصبح الفضاءات مشروعاً جماعياً تتفاعل معه المجتمعات لا مجرد ملف للنخب.
ماذا يجب على مصر أن تعمل
على المستوى الوطني، تواجه وكالات الفضاء الراسخة في كل من مصر والجزائر والمغرب ونيجيريا وجنوب إفريقيا اختبار التكيف مع التحولات العالمية، حيث بات القطاع الخاص محركاً رئيساً للابتكار والتمويل. إن الانفتاح على هذه الدينامية الجديدة يعزز الإبداع ويجذب الاستثمارات الضرورية لتسريع نمو المنظومة الفضائية. وفي الوقت نفسه، ينبغي على الجهات الناشئة أن تتجاوز أخطاء الرواد، عبر بناء مؤسسات ذات رؤية مستقبلية طويلة الأمد، توازن بين المكانة الرمزية والقدرة التطبيقية المستقلة. فبرامج الفضاء التي تفشل في تحقيق نتائج عملية خلال عقد من تأسيسها، سرعان ما تفقد تأثيرها وتتحول إلى عبء سياسي واقتصادي.
إن نضوج قطاع الفضاء يضع مصر أمام فرصة مزدوجة: تلبية احتياجاتها واحتياجات القارة الإفريقية التنموية العاجلة، من أمن غذائي واتصال وتكيف مناخي، والمساهمة في صياغة حلول للتحديات العالمية، مثل مراقبة المناخ وعلوم الكواكب. بذلك يتجاوز الفضاء كونه رفاهية تكنولوجية، ليصبح ضرورة استراتيجية تحمل منافع آنية ووعداً طويل الأمد لقارة تسعى إلى ترسيخ مكانتها في نظام دولي شديد الترابط والتنافسية.
ختامًا، منذ حادثة انقطاع الإنترنت في غرب إفريقيا عام 2024م التي كشفت عن هشاشة البنى التحتية الأرضية، مروراً بتعدد التطبيقات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية للأقمار الصناعية، وصولاً إلى الإرث التاريخي لمصر على مستوى القارة الإفريقية في علم الفلك، وتوسيع برامجها الوطنية، والتجارب الرائدة في التعاون القاري، يتضح أن الفضاء بات ساحة مركزية لإعادة تعريف مفهوم السيادة والتنمية في إفريقيا. إن التحدي اليوم لا يكمن في إطلاق المزيد من الأقمار الصناعية، بل في صياغة رؤية جماعية تجعل من الفضاء أداة للتكامل القاري والتأثير الدولي. وبقدر ما تستثمر الدولة المصرية في التنسيق المؤسسي، والشراكات الدولية المتوازنة، والانفتاح على القطاع الخاص، بقدر ما ستتمكن من تحويل الفضاء إلى رافعة سياسية واقتصادية وأمنية. وهكذا، فإن الفضاء لم يعد ترفاً رمزياً، بل أصبح ضرورة استراتيجية لتثبيت حضور إفريقيا في النظام الدولي، وضمان قدرتها على صياغة مصيرها في عالم متعدد الأقطاب.