حسين التلاوي
تتمتع العلاقات المصرية – الجنوب سودانية بإمكانات استراتيجية في مجالات المياه، والأمن، والتنمية الاقتصادية. لكن عدم الاستقرار السياسي في جوبا، والحرب في السودان، والتنافس الإقليمي الدولي يفرض تحديات جديّة. تنقسم هذه الورقة إلى جزئين؛ الأول يتناول الاستراتيجية المصرية لتعزيز التعاون، والثاني الفرص الاستثمار المصرية في المجال الزراعي. لذلك توصي هذه الورقة، في جزئها الأول، باستراتيجية مصرية متعددة المسارات، تعتمد على دعم الاستقرار الداخلي لجنوب السودان، والاستثمار في مشروعات تنموية صغيرة ذات أثر مباشر، وتنسيق المواقف داخل أطر إقليمية؛ مثل الاتحاد الإفريقي.
فرص التعاون- الزراعة والطاقة في المقدمة: تتنوع فرص التعاون بين مصر وجنوب السودان في العديد من المجالات، وسوف نوجزها في المجالات التالية:
– التعاون المائي الاستراتيجي: توجد مساحة واسعة للتعاون بين مصر وجنوب السودان فيما يخص مياه النيل؛ بالنظر إلى وفرة مصادر المياه في جنوب السودان؛ من أفرع للنيل إلى أمطار غزيرة. ويندرج تحت إطار التعاون المائي مشروعات الري وإدار ة الموارد المائية وتقليل الفاقد، إلى جانب مشروعات الكهرباء الصغيرة التي يمكن أن تكون عابرة للحدود مع الدول المجاورة لجنوب السودان؛ مثل السودان.
– التبادل التجاري والبنية التحتية: يتمتع جنوب السودان بمصادر نفطية ومساحات زراعية واسعة، وإمكانات لتبادل تجاري ونقل برّي يربط بين موانئ السودان ومصر وبين جنوب السودان. كذلك يمكن لمصر تقديم خبرات في بناء قدرات إدارية وجامعات، وغير ذلك من المهارات المطلوبة لتأسيس بنية تحتية قوية تعزز التبادل التجاري بين جنوب السودان وكل من مصر والسودان، وغيرهما من الدول المجاورة.
– الدبلوماسية والأمن: تعاني جنوب السودان من عدم الاستقرار السياسي والأمنى، ويمكن لمصر أن تلعب دورًا بارزًا في هذين المجالين بما تمتلك من خبرة وقدرات؛ حيث تتمتع مصر بدور إقليمي في الوساطة والضغط السياسي. ويمكن كذلك التعاون في بناء مؤسسات جنوب السودان من أمن، وجيش مؤسسي، ودراسات حول الأمن الحدودي؛ وهي الإجراءات التي قد تخدم استقرار الحدود، وتمدّ الثقة بين البلدين.
التحديات
على الرغم من كل إمكانيات التعاون بين مصر وجنوب السودان وتنوعها، هناك العديد من التحديات التي تعرقل تحويل كل هذه الفرص إلى واقع ملموس يفيد الدولتين والدول المجاورة على حد سواء.
– عدم الاستقرار السياسي في جنوب السودان: على الرغم من أن عدم الاستقرار السياسي في جنوب السودان يمثل مساحة يمكن أن تمد فيها مصر يد العون لجنوب السودان، فإنه يمثل في الوقت نفسه عامل عرقلة لأية فرص تعاون اقتصادي تنموي بين الجانبين. ومن بين مظاهر عدم الاستقرار السياسي في جنوب السودان الانقسامات الداخلية، والاتهامات المتبادلة بالفساد بين القوى السياسية الفاعلة، والضغوط الاقتصادية الناجمة عن تراجع صادرات النفط والمالية العامة؛ وهو ما يجعل التعاون بين القاهرة وجوبا محفوفًا بالمخاطر أو قصير الأمد إذا لم تستقر الأمور في جوبا. يعني ذلك أهمية بدء مصر بمجال التعاون الدبلوماسي والأمني لضبط المشهد الداخلي في جنوب السودان بما يساعد على جذب الاستثمارات وتمهيد الطريق أمام التعاون في المجالات الاقتصادية والتنموية.
– الأزمة في السودان: تقع السودان بين مصر وجنوب السودان؛ مما يعني أن أي تعاون في مجالات التبادل التجاري والنقل والمواصلات بين القاهرة وجوبا يتعين أن يمر عبر الخرطوم. لكن الحرب في السودان خلقت موجات نزوح، وأعاقت خطوط أنابيب النفط والممرّات التجارية الإقليمية؛ وهو ما يضع ضغوطًا مباشرة على أية خطط مصرية للتعاون مع جنوب السودان.
– الحساسيات الإقليمية: لايخفى على أحد وجود خلافات سياسية بين دول حوض النيل؛ أبرزها الخلاف بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة. قد تؤدي هذه الخلافات إلى أن تنظر بعض الأطراف إلى أي تحرك مصري نحو التقارب مع جنوب السودان بعين الحذر، ناهيك عن محاولة إفساده أو عرقلته بأي شكل.
– القوى الدولية: ما قيل في شأن الحساسيات الإقليمية يمكن سحبه على مواقف القوى الدولية؛ فهناك العديد من القوى حول العالم تهتم بمنطقة القرن الإفريقي وحوض النيل بالنظر إلى أهميتهما الاستراتيجية سواء في البحر الأحمر أو في مشروعات التنمية المائية أو الزراعية، أو الدخول عبرهما إلى القارة الإفريقية الثرية بالفرص والموارد. ومن أبرز القوى الدولية المتنافسة الولايات المتحدة والصين وروسيا إلى جانب وجود مصالح إماراتية وسعودية في تلك المناطق؛ وهو ما قد يؤدي، بشكل أو بآخر، إلى إثارة نزاعات أو عرقلة تسوية نزاعات قائمة؛ مما يبطئ من الجهود المصرية في تطوير التعاون الاقتصادي والتنموي مع جنوب السودان، ويؤدي إلى عزوف المستثمرين لارتفاع التكلفة، وغياب الأفق أمام استئناف أية مشروعات في حالة توقفها بسبب النزاعات.
توصيات باستراتيجية مصرية متعددة المحاور والمراحل
أولًا: المحاور: لكي تتجاوز مصر آثار تلك التحديات من نزاعات داخلية وتنافس دولي، يمكن أن تتبع استراتيجية متعددة المستويات والمراحل، نستعرض محاورها فيما يلي:
– الجمع بين الدبلوماسية والتنمية: يمكن لمصر تبني استراتيجية تمزج بين الدبلوماسية والأمن والتنمية؛ بحيث تسعى إلى بناء توافق داخلي في جنوب السودان، وتدريب الجنوب سودانيين على حفظ الأمن والحدود بما يساعد على الاستقرار الأمني الضروري لبدء أي جهد تنموي، والبدء بإجراءات بسيطة في تطوير البنية التحتية الجنوب سودانية في المجالات الأوليّة؛ مثل الصحة والتعليم لإيجاد بيئة اجتماعية داعمة للتعاون بين البلدين.
– إنشاء مشروعات نموذجية: العمل على إنشاء مشروعات تنموية “نموذجية” تسهم في استقطاب استثمارات باعتبارها نماذج تنموية ناجحة يمكن تكرارها؛ مثل إنشاء مشروعات زراعية، على أن يكون ذلك بالتعاون مع مؤسسات تمويل دولية لتقليل مخاطر التمويل المباشر.
– إشراك القوى الإقليمية والدولية: يتعين أن تعمل مصر على الاستفادة من الهياكل الدولية والإقليمية في دعم المشروعات التنموية؛ مثل الاتحاد الإفريقي ومؤسساته التمويلية، وتنسيق السياسات مع القوى الفاعلة الدولية لضمان عدم عرقلة تلك القوى للجهود التنموية؛ بحيث يصبح الوجود المصري في جنوب السودان فرصة رابحة للأطراف كافة.
ثانيًا: المراحل- يتعين أن تسير الاستراتيجية المصرية للتعاون مع جنوب السودان على مراحل، تحقق كل منها مجموعة من الأهداف تمهد الطريق للمرحلة التالية:
– المدى القصير: تستغرق هذه المرحلة من ستة أشهر إلى عام، تتضمن دعم برامج إنسانية وصحية؛ مثل إنشاء مزيد من العيادات واستحداث عيادات متنقلة، أو تدريب الكوادر الصحية الجنوب سودانية سواء في القاهرة أو جوبا. بالإضافة إلى ذلك تعزز مصر من نوعية التدريب الإداري والمنح المختلفة المقدمة للدارسين في جنوب السودان في مختلف مراحل التأهيل العلمي؛ مثل التعليم العالي، وما بعد العالي، مع التدقيق فى عملية إختيار المتدربين، يترافق مع ذلك إنشاء لجنة لمتابعة تلك المشروعات.
– المدى المتوسط: مدة هذه المرحلة من عام إلى ثلاثة أعوام، تتضمن إنشاء مشروعات زراعية حدودية لتقليل المسافة، وضمان القدرة على الحماية والتأمين، وتطوير البنية التحتية في النقل والمواصلات بما يساهم في إيصال منتجات هذه المشروعات إلى موانئ مصر والسودان للتصدير أو الاستهلاك في الدولتين، مع تعزيز التعاون الأمني، وضخ إستثمارات فى إعادة تأهيل السدود، وبالتالى إنتاج طاقة نظيفة تحد من ضغوط أديس أبابا على جوبا حيال خطط التنمية.
– المدى الطويل: تستغرق هذه المرحلة من ثلاثة أعوام إلى خمسة تشهد الدخول في شراكات كبرى طويلة الأمد في مجالات الطاقة والمياه بالتعاون مع شركاء إقليميين ودوليين، ودعم بناء مؤسسات الدولة لتعزيز الاستقرار في جنوب السودان، وتوسيع التبادل التجاري عبر إنشاء منطقة تجارة حرة صغيرة.
خاتمة
يمثل تطوير العلاقات بين مصر وجنوب السودان ضرورة استراتيجية للجانبين؛ حيث يسهم في ضمان الأمن المائي لمصر، ويفتح فرصًا وآفاقًا استثمارية، ويسهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في جنوب السودان وتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن النفط بأسعاره المتقلبة. لكن الأوضاع الإقليمية والدولية تفرض تحديات وضغوطا على أي جهد مصري؛ مما يعني أن فرص النجاح مرتبطة بقدرة مصر على إدارة تلك التحديات وإشراك الفاعلين الدوليين بما يضمن نجاح الشراكة المصرية الجنوب سودانية، وتحقيقها مكاسب تدعم توسيعها لتشمل مشروعات استراتيجية أكبر.

