تشهد الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو تصاعدًا متسارعًا في التحديات السياسية والائتلافية، على خلفية أزمات متشابكة داخلية وخارجية، أبرزها الخلافات المتفاقمة حول مشروع قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، وانعكاسات الحرب المستمرة في قطاع غزة، فضلًا عن الضغوط الاقتصادية والانتقادات الدولية جراء ما يحدث من قتل ممنهج وتجويع لأهالي غزة. كما تعززت الضغوط مع دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإلغاء محاكمة نتنياهو، ما زاد الاستقطاب الداخلي وأعاد الجدل حول مستقبل رئيس الوزراء الإسرائيلي.
** التحديات التي تواجه نتنياهو وحكومته:
هناك العديد من التحديات التي تواجه حكومة تل أبيب وتهدد مستقبل بنيامين نتنياهو وأهم تلك التحديات:
1- استمرار الحرب في غزة، دون تحقيق أهم الأهداف وعلى رأسها إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين والقضاء على مسلحي حركة حماس. في ظل ما تكبدته إسرائيل من خسائر فادحة في الأرواح والأسلحة والعتاد، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، لاسيما مع تعهد الحكومة الإسرائيلية بإعادة إعمار المستوطنات اليهودية في منطقة غلاف غزة وكذلك في المنطقة الشمالية عند الحدود مع جنوب لبنان، وتقديم التعويضات المادية للمستوطنين وتعزيز الإجراءات الأمنية في تلك المناطق.
2- التعديلات القضائية: من المعلوم أن خطة حكومة نتنياهو للتعديلات القضائية تثير خلافات شديدة وتدفع ٱلاف الإسرائيليين للتظاهر احتجاجا على إصرار التيار اليميني الديني المتشدد على تقييد سلطة الهيئات القضائية. مما يزيد من الاحتقان السياسي والانقسام الداخلي في وقت تخوض فيه إسرائيل أطول حرب في تاريخها.
3- الأزمة الاقتصادية والمعيشية: إن ما خاضته إسرائيل من حرب متزامنة في عدة جبهات مثل قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان وإيران، قد خلف ازمة اقتصادية شديدة وارتفاع في التضخم وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وتراجع في قطاعات السياحة والتكنولوجيا والصناعة والزراعة، وتلك الأزمة تلقي بظلالها على المجتمع الإسرائيلي بكل أطيافه ومكوناته، حيث يشكو المواطنون من غلاء الأسعار وازدياد الأعباء الضريبية. وقد انعكست تلك الأزمة على تراجع ثقة الشارع بالحكومة التي لم تُنهي الحرب ولم تضع خطط سياسية لليوم التالي.
4- الضغوط السياسية: تواجه حكومة نتنياهو انتقادات دولية شديدة بسبب العديد من القضايا مثل التعديلات القضائية واستمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتجويع سكانها، فضلا عن استمرار التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما تواجه إسرائيل عزلة متزايدة في بعض المحافل الدولية بسبب انتقادات متعلقة بالملف الإنساني في غزة. وهناك شعور لدى الكثيرين داخل إسرائيل وخارجها، بأن نتنياهو يُطيل الحرب ويعرقل صفقات تبادل الأسرى ولا يقبل التسويات السياسية لحل القضية الفلسطينية، لهدف شخصي وهو البقاء في سدة الحُكم لأطول مدة ممكنة.
5- أزمة قانون التجنيد: يشكل مشروع قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية نقطة توتر مركزية داخل الائتلاف الحاكم. وبعد فشل الحكومة في تمرير القانون المقترح، أعلن وزراء التيار الحريدي انسحابهم من الائتلاف الحاكم إعتراضًا على عدم تمرير القانون، ما يهدد استقرار الحكومة. وتعكس تلك الأزمة مدى الانقسام العميق بين التيار العلماني والتيار الديني الحريدي داخل الدولة. الأمر الذي يعيد إلى الواجهة تساؤلات حول طبيعة تقاسم “عبء” الخدمة العسكرية في المجتمع الإسرائيلي. ولكن نتنياهو من جانبه لا يمكنه البقاء في السلطة بدون الحريديم، ما يعني إنه سيرضخ لضغوطهم وسيواصل إعفائهم من الخدمة العسكرية. وسيؤدي ذلك لاستمرار الصدام بين العلمانيين والمؤسسة القضائية من ناحية والحريديم من ناحية أخري.
6- تصدع الائتلاف الحكومي: يعاني الائتلاف الحكومي أيضا من انقسامات متزايدة بين حزب “الليكود” من جهة، وأحزاب اليمين الديني القومي المتطرف مثل “الصهيونية الدينية” و”عوتسما يهوديت” من جهة أخرى، وذلك على خلفية ملفات تتعلق بإدارة الحرب وميزانية الدولة، وأسلوب تعامل الحكومة مع المحكمة العليا. فيما تكشف التصريحات المتبادلة بين الوزراء في الجانبين عن تآكل الثقة المتبادل، وتزايد احتمالات تفكك الائتلاف أو التوجه لانتخابات مبكرة.
** مستقبل نتنياهو: بين المخاطر والفرص:
هناك الكثير من المخاطر التي تهدد المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وهناك أيضا بعض الفرص التي يمكن أن تعزز مستقبله السياسي، وهو ما يمكنه إيجازه على النحو التالي:-
أولًا: المخاطر، وتتمثل في:
1- استمرار محاكمات الفساد: رغم بقاء نتنياهو في منصبه كرئيس للوزراء، إلا أن محاكمته بتهم الفساد والرشوة وخيانة الأمانة لا تزال تمثل تهديدًا مباشرًا لمستقبله السياسي. وتؤدي المحاكمة، التي تشهد تسارعًا في وتيرتها مؤخرًا، إلى إضعاف شرعيته لدى قطاعات الرأي العام. بينما تستخدم المعارضة تلك المحاكمة كسلاح دائم ضده، ما يقلل من فرصه في بناء ائتلافات مستقرة في المستقبل.
2- تراجع التأييد الشعبي: تشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى تآكل قاعدة نتنياهو الشعبية، خاصة في ظل الأزمات الأمنية والاقتصادية التي تعصف بإسرائيل، وعدم وضوح الاستراتيجية الحكومية في التعامل مع ملف الأسرى ومستقبل الوضع في قطاع غزة. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة التعقيدات التي تواجه فرصه حصوله على تأييد كبير في الداخل حال تبكير الانتخابات.
3- التوترات داخل الائتلاف: يعاني نتنياهو من تصدعات داخل ائتلافه الحاكم، خاصة مع الأحزاب اليمينية والدينية المتشددة التي تمارس ضغوطًا ميدانية وتشريعية للحصول على مكاسب على حساب الاستقرار الحكومي، وهو ما يحدّ من هامش المناورة لديه، لاسيما مع سعي قيادات المعارضة لذلك في تأكيد عدم تمتع نتنياهو بالكفاءة اللازمة لتشكيل ائتلاف حكومي جديد.
ثانيًا: الفرص وتتمثل في:
1- دعم الرئيس ترامب: جاءت دعوة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا إلى “إنهاء” محاكمة نتنياهو بمثابة دفعة معنوية قوية للأخير، خصوصًا أنها قد تعزز من التأييد له داخل معسكر اليمين الشعبوي، وتفتح المجال لإعادة بناء تحالفات داخلية قائمة على اعتبار المحاكمة “مؤامرة سياسية” و”انقلابًا على الديمقراطية”. ومن أبرز الأصوات المؤيدة لإسقاط التهم عن نتنياهو، رئيس لجنة القانون في الكنيست، “سمحا روثمان” عن حزب الصهيونية الدينية، الذي طالب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج بالتدخل لإنهاء المحاكمة، في خطوة رمزية تكشف حجم الضغط السياسي حول القضية.
2- غياب المنافس القوي: لا يزال نتنياهو هو الزعيم السياسي الأبرز والأكثر خبرة داخل معسكر اليمين، في وقت تفتقر فيه المعارضة إلى زعيم يحظى بإجماع واسع. ويمنح هذا الواقع نتنياهو فرصة قوية للاستمرار في قيادة المشهد، رغم إخفاقه في تحقيق أهداف الحرب مثل استعادة الأسرى بالقوة أو القضاء التام على المسلحين من حركة حماس، في ظل استمرار العدوان على قطاع غزة يقر من عامين.
3- استغلال الأزمات الخارجية: قد يحاول نتنياهو الهروب من أزماته الداخلية بخلق أزمات سياسية وأمنية مع دول الجوار، لتوظيف “التهديدات” الأمنية أو التصعيد العسكري لإعادة تعبئة الجمهور الإسرائيلي حول القيادة الحالية، عبر خطاب يدعو إلى “الوحدة الوطنية” في مواجهة الأخطار “المُفتعلة”، وهو أسلوب استخدمه بنجاح في السابق.
4- إمكانية عقد صفقات قضائية أو سياسية: لا يُستبعد أن يسعى نتنياهو إلى إبرام صفقة سياسية أو قانونية تنهي محاكمته أو تؤجلها، مقابل تنازلات ائتلافية أو دعم تشريعي، مستفيدًا من ضعف المعارضة وتفتت مراكز القوة داخل الدولة. لكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا لأن الكنيست لا يملك صلاحية قانونية مباشرة لإلغاء محاكمة رئيس الوزراء، بسبب غياب الإجماع، ورفض المعارضة، وتوجس الشارع الإسرائيلي. فيما أكدت مصادر داخل الائتلاف أن تمرير أي تشريع لتصفية ملفات نتنياهو القضائية أمر شبه مستحيل، في ظل النفوذ القوي للمحكمة العليا وغياب أي سابقة قانونية لمثل هذا النوع من التشريعات الشخصية.
** فرص تبكير الانتخابات:-
تشير مصادر سياسية مقربة من الليكود إلى أن نتنياهو يدرس فعليًا خيار حلّ الكنيست والتوجه إلى انتخابات مبكرة خلال الأشهر القليلة المقبلة، قبل أن تتراجع المكاسب السياسية للحرب أو تعود ملفات المحاكمة والاحتجاجات إلى صدارة المشهد. الهدف من ذلك هو تجديد الشرعية وتحقيق أغلبية أكثر راحة قد تُخرج نتنياهو من أزمته القضائية والسياسية المستمرة. وسيعتمد نتنياهو في ذلك على تعزيز الشعور الشعبي بالتهديد الخارجي، وربطه بالضرورة في بقاء حكومة يمينية قوية وقادرة على تحقيق أهداف الأمن القومي الإسرائيلي.
لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر؛ فالوضع الأمني قد ينقلب بسرعة، والاحتجاجات الشعبية قد تعود بقوة، كما أن خصوم نتنياهو بدأوا يعدّون لمرحلة ما بعد الحرب. كذلك، فإن العودة إلى صناديق الاقتراع لا تضمن حصوله على كتلة مانعة للمحاكمة، بل قد تؤدي إلى إعادة خلط الأوراق السياسية.
الخلاصة، يواجه ائتلاف نتنياهو مرحلة دقيقة وحساسة، في ظل تداخل الأزمات السياسية والاجتماعية والأمنية بشكل يهدد بقاءه واستمراريته. وتبقى كل السيناريوهات مفتوحة، بما فيها إمكانية انهيار الحكومة والدعوة لانتخابات جديدة.
ورغم كثافة التحديات والمخاطر التي تهدد مستقبل نتنياهو، إلا أنه لا يزال يمتلك فرص للمناورة والبقاء، وإعادة ترتيب صفوف ائتلافه الحكومي. ويبقى العامل الحاسم في قدرته على تحقيق ذلك مرهونًا بتطورات المشهد القضائي، وتوازنات القوى الداخلية، وسط بيئة سياسية إسرائيلية شديدة التحول نتيجة وجود نظام قضائي مستقل، ورفضه قطاعات كبيرة من الرأي العام الإسرائيلي تدخل الولايات المتحدة في شؤون إسرائيل الداخلية، وبما قد يدفع نتنياهو للتخلي عن ترشيح نفسه في الانتخابات القادمة واعتزال الحياة السياسية مقابل منحه عفوًا قضائيًا (صفقة ادعاء) تحفظ له تاريخه السياسي، وتسمح باستمرار اليمين في سدة الحك خلال الفترة القادمة.