من بين أهم المشكلات التي شهدتها منطقة القوقاز، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، هو تحولها إلى منطقة جذب للقوى الدولية والإقليمية لنيل دور فاعل فيها؛ وذلك لأسباب تتعلق بتمتع هذه المنطقة بثروات طبيعية ضخمة فضلا عن أهميتها الجيوسياسية الكبيرة. الأمر الذي أجج الصراع الاثني بين كل من أرمينيا وأذربيجان حول مرتفعات قره باغ. والذي يُمكن وصفه بأنه صراع بين الأعراق على الأساس الجماعي (Mass based inter-ethnic conflict) وهو نوع من الصراع يتسم بالمطالبة بمراجعة كيانات حكومية معينة أو نطاقات إقليمية مُحددة.[1]
ويعود السبب الرئيسي للصراع الذي دب بين أرمينيا وأذربيجان، إلى مطالبة أرمينيا بمراجعة السوفييت لتبعية إقليم قره باغ لأذربيجان وضمه إلى سيادة أرمينيا؛ انطلاقا من مبدأ أغلبية سكانه الأرمن، منذ عام 1988م. وهو ما تمت مُقابلته إما بالعنف والقمع تارة أو بالتجاهل تارة أخرى؛ حتى بات الصراع واردا يوماً ما، وهو ما حدث بحرب 1991ـ 1994م، بين البلدين واستخدمت فيها القنابل العنقودية المحرمة دولياً، وأدت إلى نزوح مئات الآلاف من الأفراد سواء من أذربيجان إلى أرمينيا أو العكس. وتميزت بكثرة وقف إطلاق النار، ونجاح بعض القوى الكبرى في عقد هدنة بين الطرفين، سرعان ما كان يتم خرقها دون التوصل لحل سلمي حاسم، بل وأحياناً كان يتم خرقها قبل اتخاذ إجراءات تنفيذها الأولية؛ ليظل الصراع حول قره باغ غير محسوم؛ نظراً لعدم قبول أطرافه بتسوية سلمية، حتى تجدد الصراع المسلح مؤخرا بين بين أرمينيا وأذربيجان
في هذا السياق، ستتم معالجة أثر الصراع المُسلح في منطقة قره باغ على العلاقات بين إيران وأذربيجان، من خلال الجمع بين المنهج التاريخي والمنهج المُقارن. بغرض الوقوف على السياق التاريخي لهذا الصراع، ودور الفواعل الدولية في تهدئته أو تصعيد حدته، ومن ثم قياس الفارق في تبادل العلاقات فيما بين إيران وأذربيجان. وذلك على النحو التالي:
أولا: الجذور التاريخية للصراع وردود أفعال الفواعل الدولية
يضم إقليم قره باغ مرتفعات جبلية تبلغ مساحتها 4,400 كيلومتر مربع.[2] سكانه من المسلمين الأتراك والمسيحيين الأرمن. ويقع رسمياً داخل جمهورية أذربيجان تبعاً لقرار جوزيف ستالين في عشرينات القرن الماضي. ونظراً لأن أغلبية سكان الإقليم من الأرمن المسيحيين أعطى ستالين للإقليم سلطة الحكم الذاتي تحت سيادة أذربيجان بغرض توطيد العلاقات بين المسلمين الأذريين والمسيحيين الأرمن. ولذا تزايدت مطالب سكان الإقليم الأرمن بإعلان الإقليم جزءا من دولة أرمينيا.[3]
- بداية الصراع بين الأرمن والأذربيجانيين
طالب الأرمن بتصحيح الوضع وضم قره باغ إلى أرمينيا، عام 1988م، كما انتفض الأرمن داخل إقليم قره باغ نفسه للمطالبة بالدخول تحت لواء السلطة الأرمنية، وقامت بالتوازي انتفاضات جماهيرية داخل أرمينيا دعماً لمطالب الوحدة مع قره باغ (إقليم أرتساخ لدى الأرمن). وأجروا في نفس العام، استفتاء شعبيا حول الاتحاد مع أرمينيا (A vote of unification with Armenia).[4] الأمر الذي أدى إلى شعور الأذربيجانيين داخل قره باغ بالخيانة؛ فاندلعت تظاهراتهم المُعارضة للوحدة مع أرمينيا في الإقليم بمنطقة “أسكيران” وقاومها الأرمن بالعنف والقمع. وأمام ضعف دور الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت، استمرت عمليات التهجير القسري للأرمن القاطنين في أذربيجان، والأذريين القاطنين في أرمينيا بالإضافة لعمليات القتل الجماعي والعنف المتبادل.
- الصراع حول الإقليم حتى بروتوكول بشكيك
تدخل الاتحاد السوفيتي مستغلا ضعف أرمينيا نتيجة وقوع زلزال 1988م، وأعاد إقليم قره باغ إلى نفوذ جمهورية أذربيجان ولكن لأن حاكم الإقليم كان أفغانياً؛ فلم يتحالف الأرمن والأذربيين معه، فاستمر العنف المُتبادل حتى إعلان استقلال أرمينيا عن الاتحاد السوفيتي في عام 1990م، فتم التحالف بين السوفيت والأذربيجانيين وإطلاق علمية الحَلَقة العسكرية ((The Ring التي أجبرت السكان الأرمن بإقليم قره باغ على الإذعان لسلطة أذربيجان على الإقليم عام 1991م [5] ثم توقفت عملية الحلقة نظراً لإنهيار الاتحاد السوفيتي ولكن لم تتوقف الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، التي استمرت مشتعلة حتى أنتهت بسيطرة الأرمن على إقليم ومجموعة أقاليم محيطة به (إجمالاً ما يُعادل 20% من الأراضي الآذرية). ومن ثم إعلان وقف إطلاق النار بوساطة روسية في عام 1994م، فيما عُرِف ببروتوكول بشكيك.[6]
- ما بعد بروتوكول بشكيك
تجددت الاشتباكات أكثر من مرة بين أذربيجان وأرمينيا عام 2008م، و2016م، التي كان أغلبها يتمثل في ضرب الأرمن لخطوط الغاز الممتدة بين تركيا وأذربيجان المُتحالفتان ضدها، حتى نشبت حرب شاملة بينهما عام 2020م، التي حققت فيها أذربيجان مكاسب كبيرة أهمها السيطرة على مدينة شوشة واسترداد إقليمي لاتشين وكالجار. وبموجب معاهدة سلام بين الطرفين بوساطة روسية، جاءت على خُطى بروتوكول بشكيك. أخذت أذربيجان سلطة الاحتفاظ بالأراضي التي استولت عليها خلال الحرب، كما نصت المعاهدة على وجود ممر بين أرمينيا وإقليم قره باغ وهو ممر لاشين لحفظ الاتصال بين أرمينيا وقره باغ، تتولى قوة روسية لحفظ السلام في هذا الخط التماسي بين الدولتين.[7]
- مواقف القوى العالمية والإقليمية من الصراع
الولايات المُتحدة الأمريكية: لزمت الولايات المُتحدة الدور الحيادي في الفترة الأخيرة. فلم تقم سوى بدعوة الطرفين للهدنة لأغراض إنسانية. من الواضح أن هذا الصراع لم ينطو على أي مُحفِزات فعلية للتدخل الأمريكي، على الرغم من شموله لفائدة استراتيجية مثل أن الحد من تعاظم اللاعب التركي، ووجود نفوذ أمريكي قريب من إيران، إلا أن الإدارة الأمريكية لم تر ذلك حافزا كافيا للانخراط في الصراع في منطقة القوقاز.[8]
روسيا الاتحادية: حاولت روسيا بناء قاعدة تحالفات جديدة بالمنطقة؛ استغلالا للفراغ الناجم عن التراجع الاستراتيجي لدور الولايات المتحدة فيها. فأعلنت موسكو في بيان رسمي في 31 أكتوبر 2020 أنها ملتزمة بتقديم الدعم العسكري اللازم لأرمينيا في حالة ما انتقلت المعارك للأراضي الأرمينية. ولكن نجد على أرض الواقع أن روسيا استعانت بالطرق السلمية والدبلوماسية لتهدئة الصراع وإيقاف الحرب. ولكنها لعبت أدواراً مختلفة ومتناقضة أيضا. فعبر علاقاتها الثنائية مع أرمينيا وعضويتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، قدمت موسكو لأرمينيا ضمانات أمنية، ولكنها لا تمتد إلى منطقة القتال في قره باغ. وقدمت السلاح لكلا الجانبين، وهي أحد الرؤساء المشاركين في مجموعة مينسك التي تتوسط لفض النزاع بينهما.
ثانيا: العلاقات الإيرانية الأذربيجانية
تتشارك إيران وأذربيجان بنحو 765 كيلومتراً من الحدود سواء البرية أو البحرية المُتمثلة في بحر قزوين. غير أن أذربيجان لديها ثاني أكبر عدد من المُسلمين الشيعة بعد إيران عالمياً. وقد دفع ذلك الدولتين إلى تأسيس العلاقات بينهم على أسس مُتشارَكة من الحكم الإسلامي الشيعي والديمقراطية. فعلى مدى تاريخي كبير، تشارك كل من إيران وأذربيجان الديانة والثقافة والتاريخ. خاصة أنهما كلن ضمن دولة واحدة انقسمت نتيجة الصراع الذي دار بين إيران وروسيا القيصرية فيما بين عامي 1810 و1820م، ويمكننا تمييز الجزء الأذربيجاني الشمالي الذي نال استقلاله كاملاً في عام 1920م، ثم أنضم للاتحاد السوفيتي، والجزء الجنوبي الذي يقع داخل إيراني ويبغ عدد سكانه نحو 30 مليون أذربيجاني الجنسية (أي السواد الأعظم من سكان الأذربيجانيين). [9]
ولطالما كانت سياسة إيران الخارجية ذات فلسفة مُحددة وهي تمديد وتطوير العلاقات مع الدول الإسلامية سعياً لإنشاء الاتحاد الإسلامي أو ما يُسمي (بالهلال الشيعي). ويُمكننا توضيح العلاقات الجامعة بين الطرفين كالآتي:
تاريخياً وسياسياً:[10] مرت العلاقات بين الطرفين مُنذ نشأة دولة أذربيجان في 1920م بمراحل من الصعود والهبوط يُمكننا تقسيمهم إلى ثلاثة مراحل وهم:
- فترة ما بين عامي 1918 إلى 1920: جمعت الدولتين مفاوضات في جو من التفاهم المُشترك خلصت إلى إعلان دولة أذربيجان الحديثة وإعتراف إيران بها كأول مُعترف دولي. بالإضافة إلى تبادل العلاقات على المستوي الدبلوماسي والقنصلي. ولكن على المستوى الفعلي لم ترتق العلاقات إلى المستوى المنشود؛ نظراً لقيام القوات المسلحة البلشفية بضم أذربيجان لحكم اتحاد الجمهوريات السوفيتية.
- فترة حكم الاتحاد السوفيتي: (منذ عام 1920 إلى عام 1991م): كانت العلاقات بين إيران وأذربيجان تُدار بإشراف الاتحاد السوفيتي، فعلى الرغم من وجود سفارة إيرانية في باكو (عاصمة أذربيجان) إلا أن العلاقات بين إيران وأذربيجان كانت تتم بين طهران وموسكو. وكان الإتصال بين الشعبين مقطوعاً على الرغم مما يجمعهم من روابط مُشتركة.
- بعد سقوط الاتحاد السوفيتي (مُنذ 1991 إلى الأن): تأخرت إيران في اعترافها الدولي بأذربيجان كدولة مُستقلة عن الاتحاد السوفييتي مدة خمسة أشهر، ولكن على الرغم من ذلك بدا أن البلدين يميلان إلى تعزيز العلاقات فيما بينهم؛ فقدم السفير الأذربيجاني أوراق اعتماده للرئيس الإيراني رافسنجاني عام 1992م، وقدمت السفارات الإيرانية كثير من الخدمات الدبلوماسية لأذربيجان. وتم التوسع في تطوير العلاقات فيما بينهما عبر مشاريع البنية التحتية وطرق المواصلات وتحديث المعابر الحدودية وانشاء لجنة مُختصة بتطوير وتسريع المواصلات والسكك الحديد وتأمين المعابر الحدودية بين إيران وأذربيجان. كما احتفظ الطرفان بالقواسم والروابط الثقافية المشتركة بينهما.
اقتصادياً:[11] مرتالعلاقات الاقتصادية بمراحل مُتعددة من الصعود والهبوط، ويُمكننا تقسيمها إلى عدة فترات أهمها:
- السنوات الأولى من الاستقلال: حصلت إيران خلالها على المرتبة الأولى بين شركاء أذربيجان التجاريين؛ فكانت صادرات إيران إلى أذربيجان من المنسوجات والزيوت الأساسية، وكانت معظم وارداتها من أذربيجان الوقود والحديد. وتم الإتفاق على عمل شركة للتنقيب عن النفط بالاشتراك بين إيران وروسيا وأذربيجان للتنقيب عن النفط في بحر قزوين. وشهدت الواردات الإيرانية من الإنتاج البترولي الأذربيجاني تصاعداً كبيراً حتى وصل إلى 80% من إجمالي واردات إيران من المُنتجات الأذربيجانية عام 1992م.
- مع طرد إيران من اتحاد النفط الأذربيجاني والعمليات العسكرية التي دارت حول مرتفعات قره باغ، تدهورت العلاقات بين البلدين. فشهدت العلاقات الاقتصادية تراجعاً منذ عام 1995م، تغيرات في العلاقات الاقتصادية بين البلدين تمثلت في انخفاض صادرات إيران إلى أذربيجان من 719 مليون دولار في 1994م، إلى 361 مليون دولار في عام 1995م، وانخفضت واردات البلاد من 392 إلى 209 ملايين دولار، وانخفض إجمالي التجارة من 589 مليون دولار إلى 273 مليون دولار. وزاد إنخفاض التبادل التجاري حتى وصل إلى 145 مليون دولار فقط في عام 1999م.
ويُعد هذا التفاوت عاملاً أساسياً في رؤية العلاقة غير الواضحة بين إيران وأذربيجان. وأن الثانية غير مُعتمدة على الأولى بشكل قوي فيما يخص الملفات الاقتصادية التي بينهما كاستكشاف الطاقة في بحر قزوين وإنعاش البنى التحتية. ويظهر ذلك في هبوط إيران من الشريك الاقتصادي الأول لأذربيجان إلى الشريك الخامس وبعدها الثامن في عام 2008م.
مُحددات العلاقة بين إيران وأذربيجان
تسير العلاقات بين إيران وأذربيجان على نهج براجماتي نَفعي. فقد تبنت إيران طرق مُفيدة اقتصاديًا وسياسيًا للعلاقات مع أذربيجان، فلديها مقاربات مختلفة تجاه نزاع قره باغ. وهناك بعض العوامل المتداخلة التي تؤثر على سياسة إيران تجاه أذربيجان. التي يُمكن تلخيصها في عاملين مُهمين على النحو الآتي:
- اعتبارات الأمن القومي
عرقياً: إيران لديها أقلية عرقية أذربيجانية تعيش في الركن الشمالي الغربي من البلاد، ويبلغ مجموع سكانها أكثر من 25 مليون نسمة مقارنةً بعدد سكان جمهورية أذربيجان الذي يبلغ 8 ملايين نسمة. ولذلك ظلت إيران محايدة إلى حد كبير على الرغم من حقيقة أن أغلبية شيعية تسكن أذربيجان. كانت السياسة الخارجية الإيرانية دائماً تبدو مًتشككة في سياسة دعم أذربيجان ضد أرمينيا لأن ذلك من شأنه أن يشجع على توحيد الأذربيجانيين في الشمال الغربي الإيراني مع جمهورية أذربيجان وهم اللذان تم فصلهما عن بعضهما البعض منذ القرن التاسع عشر. وقد صرح الرئيس الإيراني علي أكبر هاشمي رفسنجاني (1989-1997م) مشددا على الخطر المحتمل للقومية الأذربيجانية كتهديد مماثل للوجود الشيوعي السابق في المنطقة. ليؤكد على أن إيران لن تسمح بأي حركة قومية هناك حتى لو كان بدافع إسلامي. [12]
أمنياً: هناك مجموعة التشابهات التي تربط بين النظام السياسي الإيراني والأذربيجاني، إلا أن هناك إختلاف يُحدث نوعاً من التباعد بين النظامين الإيراني والأذربيجاني. فرغم أن الدولتين ذاتا أغلبية إسلامية شيعية إلا أن النظام الأذربيجاني قائم على العلمانية على خلاف النظام الإيراني القائم على الثيوقراطية وحكم رجال الدين. ولذلك دعمت طهران الجماعات الدينية في أذربيجان بينما قامت حكومة باكو بقمعها. فتُبدي أذربيجان نوعاً من القلق نتيجة سياسة تصدير الثورة الإسلامية التي تنتهجها إيران.[13]
- العلاقات الأذربيجانية الغربية
كانت علاقات أذربيجان مع الدول الغربية تمثل مُحدداً مُهماً يؤثر على العلاقات الإيرانية الأذربيجانية. إذ أدت الضغوط الأمريكية إلى إقصاء إيران من مشروع خط أنابيب البترول (باكو-تبليسي جيهان) عام 1994م، الذي يربط بين العاصمة الأذربيجانية باكو وميناء جيهان التركي على البحر المتوسط. ورغم محاولات أذربيجان للتهدئة بينها وبين الجانب الإيراني إلا أن إقصاء إيران من مشروعات الطاقة الغربية أدى إلى تبنيها سياسة إقليمية تُحارب كل ما هو غربي ويشمل ذلك كل ما هو أمريكي وإسرائيلي أيضا. وقد اتهمت إيران أذربيجان علناً بكونها سبب رئيسي في إدخال إسرائيل في السياق الإقليمي للقوقاز إثر ذلك المشروع النفطي. ثم تفاقم الخلاف بين إيران وأذربيجان، عام 1998م، على خلفية تقسيم الثروات في بحر قزوين الأمر الذي أدى لتدخل تركيا والولايات المُتحدة الأمريكية.[14]
ثالثا: أثر أزمة قره باغ على العلاقات الإيرانية الأذربيجانية
من الواضح أن وتيرة التوتر تصاعدت بين إيران وأذربيجان في غضون الأشهر القليلة الماضية. عندما أطلقت تركيا وأذربيجان وباكستان مناورات عسكرية مشتركة في أجزاء مختلفة من أذربيجان في منتصف سبتمبر 2021م، بهدف زيادة تعزيز العلاقات القائمة بين جيوش الدول الثلاث. الأمر الذي لم ترحب به إيران، خاصة أن هذه المناورات كانت تجري تحت أنظارها. وفي ذات الوقت أقامت أذربيجان نقطة تفتيش أمنية على امتداد طريق (جوريس-كابان) السريع وبدأت في إيقاف سائقي الشاحنات الإيرانيين وفرض ضريبة طريق عليهم.
وفي هذا الإطار، أصدر المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي تحذيراً مفاده أن أذربيجان يجب أن تمتنع عن “اللعب بذيل الأسد”. وتصاعد الأمر بعد اعتقال الشرطة الأذربيجانية سائقي الشاحنات الإيرانيين، فطالبت إيران بالإفراج الفوري عنهم، ثم أعلنت أن السلطات الأذربيجانية كان من الممكن أن تنبه إيران من فرض هذه الضريبة مُسبقاً.
ثم وفي نهاية سبتمبر 2021م، أجرت إيران مناورات عسكرية على حدودها مع أذربيجان. وقد أوضح قائد الحرس الثوري الإسلامي العقيد حسين بور اسماعيل أن هذه المناورات هي رد على التهديدات الإسرائيلية التي تنطلَق عبر أذربيجان. وأن من حق إيران السيادي إجراء مناورات عسكرية على أراضيها. وأعلنت الحكومة الأذربيجانية أنها تتعجب من سبب إجراء التدريبات الآن، لأنها غير مسبوقة خلال الثلاثين عامًا الماضية عندما كانت المنطقة تحت سيطرة الأرمن.[15] إن هذه التوترات تدعو إلى دراسة أهم العناصر المؤثرة على العلاقات بين إيران وأذربيجان. ويُمكن رؤية هذه العناصر من خلال تأثير التحالفات الأذربيجانية على الوجود الإيراني بمنطقة القوقاز، وهو من خلال العلاقات بين أذربيجان وكل من إسرائيل وتركيا كل على حدة.
- العامل الإسرائيلي
من المعروف أن وزارة الدفاع الإسرائيلية وقعت مع الحكومة الأذربيجانية صفقة أسلحة بمئات الملايين من الدولارات عام 1997م، شاركت فيها الشركات الإسرائيلية ببيع قذائف الهاون والذخيرة والمدفعية الصاروخية ومعدات الراديو لأذربيجان، فضلاً عن تأمين للرئيس الأذربيجاني خلال زياراته الخارجية.[16] وكما ذُكِر مُسبقاً أن هناك خط غاز (باكو-تبليسي جيهان) يربط بين أذربيجان وتركيا ويبعد 600 كم عن حيفا عاصمة إسرائيل. وأن إيران قد أحتجت بأن ذلك الخط جعل إسرائيل تتدخل في منطقة القوقاز.
ولكن أشد ما يُقلِق إيران هو أن إسرائيل، من خلال محطة التنصت والمراقبة التي أقامتها بأذربيجان، أصبحت على مقربة من حدودها. ومن ثم اتهمت إسرائيل عام 2018م، بأنها سرقت بيانات مُتعلقة بالملف النووي واستخدمت أذربيجان نقطة انطلاق لهذه العملية المخابراتية. ولذلك حاولت إيران، عام 2020م، تهدئة وتيرة الانتصارات الآذرية والذي لعبت فيها الطائرات المسيرة الإسرائيلية والتركية دورا حاسما. نظرا لأن انتصار أذربيجان كان يشكل تهديدا لإيران نظراً لكونها تعني مزيدا من التوغل الإسرائيلي في القوقاز وعلى الناحية الأخرى إنخفاض لدور إيران.[17] ولذلك يُمكننا الزعم أن تهديد الأمن القومي الإيراني الناجم عن تنامي العلاقات بين أذربيجان وإيران هو سبب من أسباب حدوث المناورات العسكرية بين إيران وأذربيجان في أكتوبر 2021م.
- التقارب التركي
تاريخياً لعب الخطاب السياسي الأذربيجاني تجاه تركيا في فترة أبو الفضل الشيبي (1992-1993) دورًا حاسمًا في تشكيل المخاوف الإيرانية. فإيران قد أختارت لأول مرة شراكة قوية مع أرمينيا لمنع التهديدات المحتملة من أذربيجان؛ لأن الخطاب القومي الذي تبنته تركيا كان من الممكن أن يخلق تأثيرًا كبيرا بين السكان الأذربيجانيين الضخم في إيران. وبالتالي أصبح ذلك الخطاب التركي مثيراً للقلق من ناحية الأمن القومي والتهديد الذي يُشكله للسياسات البرجماتية لإيران. وبالمقابل، خلال فترة حيدر علييف (1993-2003)، تسببت سياسة التوازن التي انتهجها في انخفاض التوتر من أجل بناء الثقة.
كان التقارب الأذربيجاني التركي إثنياً وعرقياً ودينياً واضحاً ولو باختلاف المذهب؛ تركيا دائماً ما تُلقِب هذا التقارب بشعار الأمة الواحدة في دولتين، والشائع تقارب اللغتين الآذرية مع التركية. ناهيك عن أن أذربيجان مثلت وسيلة ضغط تركية على روسيا الاتحادية فيما يخص الملف السوري والليبي. لكن السبب الأكثر وضوحاً لدعم تركيا الكبير لأذربيجان هو مصادر الطاقة، إذ إن أذربيجان تشتهر بغزارة النفط والغاز الطبيعي. فتغطي أذربيجان حاجة تركيا من الغاز بنسبة 30% وتعد تركيا أكبر مشتر للغاز الاذربيجاني. وظهر ذلك في سعي الرئيس رجب طيب أردوغان لتزويد إمدادات الطاقة على إثر خلافاته في شرق المتوسط.[18]
وقد رأت تركيا في صراع قره باغ نطاقاً جيداً تحصل من خلاله على انتصار تستعيض به عن الخسائر التي لحقت بها في ملف غاز شرق المتوسط. ففي عام 2020م، كان الانتصار الأذربيجاني بالحرب ضد أرمينيا مُتغذياً بالدعم التركي، فالقوات الأذرية قد تم تدريبها وتسليحها من خلال الجيش التركي. وبعد موافقة الطرفين على وقف إطلاق النار بوساطة روسية، أصبحت الفرص سانحة لإنشاء طريق مباشر للتجارة بين تركيا وأذربيجان من خلال إقليم نخجوان وعبر أرمينيا.[19] وتدرك إيران الدعم التركي لأذربيجان وهو ما جعلها تُرسل نائب وزير خارجيتها على باقري كني إلى تركيا، في اكتوبر 2021م، لبحث سبل التفاهم والتوصل لرؤية مُشتركة فيما يخص التصعيد والمناورات العسكرية التي أقامتها إيران في أذربيجان أوائل الشهر ذاته.[20]
الخاتمة
لقد تركت أزمة إقليم قره باغ تأثيرا كبير على العلاقات بين إيران وأذربيجان، ويُمكن تمييز السياسات المُتبادلة بين الطرفين إذ بدأت العلاقات بينهما تشهد منحنى هابطا، مُنذ حدوث الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في عام 1992م، فانتقلت من مرحلة التعاون إلى السير نحو الطابع الصراعي المستتر وراء الحياد. فالطرف الإيراني بدأ يغلب عليه التشكك فيما يخص مشكلة قره باغ بشكل خاص؛ لاعتبارات تتعلق بحفظ علاقاته الودية مع كل من أذربيجان وأرمنيا. وبدا ذلك واضحاً من خلال دعم إيران لأي محاولات لإنهاء الصراع سلمياً بين أذربيجان وأرمينيا؛ لأنها كانت تشعر بأن إطالة أمد الصراع سيؤدي حتماً إلى زيادة تدخل القوى العالمية وبالتالي إمكانية إقصاء إيران من منطقة القوقاز.
وعلى الطرف الأخر نجد أن الطرف الأذربيجاني قام بالإستعاضة عن إيران كشريك تجاري وداعم بإسرائيل وتركيا. وحديثاً في ظل معاناة الاقتصاد الإيراني من العقوبات الأمريكية وتحديداً الخاصة بتصدير النفط، لم تجد إيران العديد من الحلول لدعم وساطة حقيقية تُحقق مصالحها في منطقة قره باغ. وهو الأمر الذي أدى إلى ميل الطرف الأذربيجاني إلى الطرف التركي الداعم بلا توقف في منطقة قره باغ.
ولذلك انتهت حرب 2020م، بين أرمينيا وأذربيجان بتحقيق أذربيجان مكاسب عديدة وتحقيق حلفاءها مكاسب أكبر وتواجد مدعوم بإتفاقية دولية في منطقة قره باغ بشكل خاص ومنطقة القوقاز بشكل عام. ولذلك تصاعدت التوترات بين إيران وأذربيجان إثر الضرائب التي فرضتها الأخيرة على شاحنات الأولى. ورغم كونه صراع غير مُستحق للتصعيد لدرجة تبادل المناورات العسكرية، إلا أنه يتم التلويح به فقط لإخفاء النوايا الحقيقية لإيران وهي ضمان وجودها بمنطقة القوقاز ومنع القوى الأخرى من إقصائها.
[1]Anatoly Yamskov, “Inter-Ethnic Conflict in the Transcaucasus: A Case Study of Nagorno-Karabakh”, Research gate, published in 1992, P 132, https://www.researchgate.net/publication/270481807_Inter-Ethnic_Conflict_in_the_Transcaucasus_A_Case_Study_of_Nagorno-Karabakh.
[2]“ناغورنو كاراباخ: العفو الدولية تتهم أذربيجان باستخدام قنابل عنقودية إسرائيلية الصنع في الصراع مع أرمينيا”، موقع البي بي سي الإخباري، منشور بتاريخ 6/10/2020،https://www.bbc.com/arabic/world-54433596.
[3]روان عبد الرؤوف، “إقليم مضطرب ومصالح متغيرة .. النزاع الأرميني الأذربيجاني حول إقليم ناجورنو كاراباخ”، المركز العربي للبحوث والدراسات، منشور بتاريخ 19 نوفمبر2020م، على الرابط: http://www.acrseg.org/41723
[4]Lowell W. Barrington, “After Independence: Making and Protecting the Nation in Postcolonial and Postcommunist States”, The University of Michigan press, published in 2006, P 276, https://www.press.umich.edu/pdf/0472098985-ch9.pdf.
[5] Vanuhi Karapetyan,”The Operation Ring: international response”, Armenpress, published on 7th May 2020,https://armenpress.am/eng/news/1014576.html.
[6] Ali Askerov, “The Nagorno Karabakh Conflict- The Beginning of the Soviet En”,Research gate, Published in 2020, PP 57-60, https://www.researchgate.net/publication/339415817_The_Nagorno_Karabakh_Conflict-_The_Beginning_of_the_Soviet_End.
[7] “أبرز بنود اتفاق روسيا وأرمينيا وأذربيجان بشأن قره باغ”، شبكة أر تي الإخبارية (RT)، منشور بتاريخ 10 نوفمبر 2020، أبرز بنود اتفاق روسيا وأرمينيا وأذربيجان بشأن قره باغ – RT Arabic.
[8] “Where the US stands on Armenia, Azerbaijan, and Nagorno-Karabakh”, Al Arabiya News, published in 29/10/2020, https://english.alarabiya.net/features/2020/10/29/Where-the-US-stands-on-Armenia-Azerbaijan-and-Nagorno-Karabakh.
[9] Davoodi Taghi. “Friendly Relations between Iran and Azerbaijan: A Review. Mediterranean Journal of Social Sciences”, 2016, P259, https://www.researchgate.net/publication/309885718_Friendly_Relations_between_Iran_and_Azerbaijan_A_Review
[10] Ibid, P 260.
[11] Lotfi Tavakol, Golmohammadi Vali, Sarmadi Hamid, “Political Consideration and Development of Economic Relations, Economic Cooperation Capacities of Iran and the Republic of Azerbaijan”, Mediterranean Journal of Social Sciences, 2016, PP 73-74, https://www.researchgate.net/publication/305211358_Political_Consideration_and_Development_of_Economic_Relations_Economic_Cooperation_Capacities_of_Iran_and_the_Republic_of_Azerbaijan.
[12] Shamkhal Abilov, “The AZERBAIJAN-ISRAEL Relations: A Non-Diplomatic but Strategetic Partnership”, Researchgate, Published in 2009, PP 153-156, https://www.researchgate.net/publication/320183340_THE_AZERBAIJAN-ISRAEL_RELATIONS_A_NON-DIPLOMATIC_BUT_STRATEGIC_PARTNERSHIP.
[13]Araştırma Makalesi, “IRANIAN RELATIONS WITH AZERBAIJAN AND ARMENIA: A COMPARATIVE APPROACH IN THE CASE OF PRAGMATIST POLITICS”, AIBU Journal of Social Sciences Institute، 2019، Vol: 19، Issue: 1 / Spring, PP 162-163, https://dergipark.org.tr/tr/download/article-file/680362.
[14]Araştırma Makalesi, OPCIT, P164, https://dergipark.org.tr/tr/download/article-file/680362.
[15] Hranoush Dermoyan, “The escalating tensions between Iran and Azerbaijan”, Evn Report, October 2021, https://www.evnreport.com/politics/the-escalating-tensions-between-iran-and-azerbaijan.
[16] Shamkhal Abilov, OPCIT, PP 153-156.
[17] سعيد الصباغ، “موقف إيران من تجدد الصراع الأرميني الأذري”، المركز المصري للدراسات الاستراتيجية وتنمية قيم الوطنية، مايو 2021م، موقف إيران من تجدد الصراع الأرميني الأذري – N.V.D – وحدة الدراسات الإيرانية (nvdeg.org).
[18]روان عبد الرؤوف، “إقليم مضطرب ومصالح متغيرة .. النزاع الأرميني الأذربيجاني حول إقليم ناجورنو كاراباخ”، مرجع سابق.
[19] Sofia Maria, Kartin Süss, “The Shift in Turkey foreign Policy”, Austria Institiuit für Europa und Sichherheitspolitik, 2021, P3, https://www.aies.at/download/2021/AIES-Fokus-2021-03.pdf.
[20] خورشيد لي، ” بين التهدئة والحرب: توترات إيران وأذربيجان… لماذا تغيرت قواعد اللعبة في القوقاز”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المُتقدمة، أكتوبر 2021، مركز المستقبل – توترات إيران وأذربيجان.. لماذا تغيرت قواعد اللعبة في القوقاز؟ (futureuae.com).