تستغل حكومة تل أبيب أجواء التصعيد العسكري والحرب الأهلية في إثيوبيا، للترويج بأن ما تبقى من طائفة “يهود” الفلاشا باتوا في خطر شديد. وتحاول إسرائيل إقناع المجتمع الدولي بأنها تود إنقاذ قرابة عشرة آلاف من أبناء تلك الطائفة الذين يقيمون في مخيمات خاصة بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا وكذلك بمدينة جوندار، بانتظار الهجرة إلى إسرائيل.
الهاجس الديموجرافي
من المعلوم أن الهاجس الديموجرافي هو أكثر ما يُقلق الحكومات الإسرائيلية طيلة العقود الماضية وحتى اليوم، وذلك جراء فشل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة فى تحقيق التوازن الديموجرافى رغم الإغراءات التى تقدمها إسرائيل والوكالة اليهودية لزيادة نسبة الإنجاب وجلب المهاجرين الجدد، فضلًا عن استمرار رغبة بعض الإسرائيليين فى الهجرة العكسية ومغادرة الدولة العبرية.
ورغم إصرار حكومة نفتالي بينيت على رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين، إلا أنها تخطط لإحضار مئآت الآلاف من المهاجرين الجدد لإسرائيل خلال السنوات المقبلة، وذلك بهدف فرض الطابع اليهودي على الوضع الديموجرافي في الأراضي الفلسطينية من خلال ضمان الزيادة السكانية لليهود على حساب أبناء الأرص الأصليين من الفلسطينيين .
تحرك عاجل!
طالبت وزيرة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية، بنينا تامانو شطا، رئيس الوزراء بينيت، بإجراء جلسة عاجلة لبحث إمكانية ترحيل ما تبقى من يهود الفلاشا لإسرائيل جراء تصاعد الوضع الأمني في إثيوبيا. وزعمت الوزيرة أن ما تبقى من يهود التيجراي يعانون هم أيضا من الاضطهاد والقمع بسبب هويتهم اليهودية وهناك خطر وجودي يهدد حياتهم، وأن أقاربهم في إسرائيل لا يمكنهم التواصل معهم أو تقديم المساعدة المادية لهم لتخفيف حدة الأزمة التي يمرون بها.
كذلك عقد وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد الأسبوع الماضي جلسة طارئة ناقش خلالها الأوضاع في إثيوبيا والمخاطر التي تُحدق بيهود الفلاشا، مؤكدًا أن وزارته تراقب عن كثب تدهور الأوضاع الأمنية في إثيوبيا وانعكاساتها على من ينتظرون الهجرة لإسرائيل.
محاولات سابقة..
تذكرنا تطورات الحرب الأهلية الحالية في إثيوبيا بالقتال الذي اندلع عام 1991، وهو ما دفع تل أبيب لتنفيذ ما يُسمى بـ “عملية سليمان”، التي تم فيها ترحيل 15 ألف يهودي إلى إسرائيل. وبعد تغيير الحكم في إثيوبيا في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وافق النظام الجديد على السماح بترحيل ما تبقى من اليهود مقابل الحصول على تعويض بقيمة 35 مليون دولار.
وكانت “عملية سليمان” معقدة وسرية للغاية، حيث نفذها الجيش الإسرائيلي بمشاركة الوكالة اليهودية والمنظمة الإغاثية اليهودية ( JDC )، والموساد وجهاز الـ”شاباك”، بالإضافة لقرابة 70 مقاتلاً من وحدة النخبة الإسرائيلية التابعة لسلاح الطيران الإسرائيلي بقيادة بني جانتس، الذين قاموا بتأمين الرحلات الجوية وطائرات الركاب الإسرائيلية التي أقلَّت المهاجرين إلى الدولة العبرية.
فيما كانت آخر عملية لتهجير يهود الفلاشا للدولة العبرية تُسمى “ملاذ إسرائيل” وتمت في مارس عام 2021، وجرى خلالها ترحيل قرابة 2000 مهاجر من مخيمات الانتظار في أديس أبابا وجوندار إلى إسرائيل. وتمت العملية بقرار أصدرته حكومة تل أبيب في أكتوبر 2020، بفضل مساعي وزيرة الهجرة والاستيعاب بنينا تامانو شطا ووزير المالية آنذاك يسرائيل كاتس.
وفي أغسطس الماضي تظاهر مئات الإسرئيليين من أصول إثيوبية ضد حكومة تل أبيب، مُتهمين إياها بالتقاعس عن ترحيل اقاربهم المنتظرين للهجرة داخل معسكرات خاصة في إثيوبيا. وأكد المتظاهرون أن الحكومة لم تنفذ وعودها السابقة بتهجير ما تبقى من يهود الفلاشا. إذ سبق للحكومة أن اتخذت قرارًا في عام 2015 يحمل رقم 716، وينص على تهجير جميع المنتظرين للهجرة في إثيوبيا مع نهاية 2020.
يهود الفلاشا يتعرضون للعنصرية!
قد يظن البعض أن مآسي يهود الفلاشا تنتهي بقدومهم لإسرائيل وتحقيق الوعود البراقة التي تُطلقها الوكالة اليهودية والدولة العبرية، لكن ما يحدث على أرض الواقع يخالف تلك الوعود، إذ تُعتبر العنصرية تجاة اليهود من أصول إثيوبية أمر سائد ومألوف في إسرائيل. لكن السلطات الرسمية تفضل التستر على مظاهر التمييز العنصري عبر تشكيل لجان وزارية وتقديم وعود لحل مشاكلهم، بينما تستخف بمعاناتهم ولا تحرص على إيجاد حلول لها.
وفي أعقاب احتجاجات حاشدة نظمها أبناء الطائفة الإثيوبية في مايو 2015 تم تشكيل لجنة وزارية لبحث السُبل الكفيلة بإنهاء مظاهر القمع والعنصرية التي يتعرضون لها منذ قدومهم إلى إسرائيل, سواء من قِبل الشرطة أو باقي مؤسسات الدولة.
ومنذ وصلت موجات الهجرة المتلاحقة من إثيوبيا إلى إسرائيل، تم تشكيل عدد لا حصر له من اللجان التي بحثت مشاكل بتلك الطائفة, وخرجت بنتائج وتوصيات عديدة ولكن من دون تحقيق نتائج فعلية.
ويواجه أبناء الفلاشا في إسرائيل الكثير من العقبات عند إلحاق أبنائهم للمدارس أو الجهات الرسمسة، حيث يُطلب منهم تقديم ما يُثبت أنهم يدينون بالفعل بالديانة اليهودية، ولكن أولياء الأمور يؤكدون أن سبب رفض أبنائهم هو التمييز العنصري بسبب اللون الأسمر لبشرتهم.
الحاخامية الكبرى تُهينهم!
تمارس الحاخامية الكبرى في إسرائيل هي الأخرى التمييز العنصري ضد أبناء الفلاشا فلا تعتبرهم يهودًا. أما وزارة الأديان الإسرائيلية فقد أخذت هي الأخرى، منذ بداية العام الماضي2020، تشكك في انتماء أبناء الفلاشا للديانة اليهودية، وبدأت الوزارة، لأول مرة منذ عشرات السنين، تتخذ أسلوبًا مُختلفا لإثبات الديانة اليهودية لأفراد تلك الطائفة.
وتواصل المؤسسات الدينية اليهودية في إسرائيل التشكيك في يهودية أبناء الفلاشا رغم أن الحاخام الراحل عوفديا يوسف كان قد أفتى منذ عام 1973 بأن أبناء تلك الطائفة يدينيون بالديانة اليهودية الخالصة.
من خلال ما سبق يتبين أن:
1- إسرائيل تحاول بكل السُبل ترحيل أكبر عدد من الجاليات إلى إسرائيل، حتى لو كان مشكوكًا في يهوديتها، وليس الهدف هو إنقاذ أبناء تلك الجاليات، بل تحقيق الكثافة الديموجرافية للإسرائيليين في مقابل تقليل تعداد الفلسطينيين داخل حدود الـ48.
2- يهود الفلاشا يتعرضون للتفرقة والتمييز والإقصاء في المجتمع الإسرائيلي. وهذا الأمر يأتي في إطار التفرقة ضد جميع الأقليات, ولا سيما العرب.
3- الحكومة الإسرائيلية والمؤسسات الرسمية بشكل عام, لا تسعي بجدية لرفع المعاناة والظلم والتمييز ضد يهود الفلاشا والأقليات عمومًا، بل تعتبرهم مواطنين من الدرجة الثانية.
4- مع احتمال فشل الجهود الإسرائيلية في التخلص من التهديد الديموجرافي الذي يهدد مستقبل الدولة العبرية، لا يمكن استبعاد قيام تل أبيب بعمليات “ترانسفير” واسعة النطاق لإخلاء السكان الفلسطينيين، سواء من أرض الـ 48 أو الضفة الغربية بما فيها القدس، وسيكون ذلك السيناريو أقرب للتنفيذ إذا اندلعت حرب إقليمية واسعة. وهنا يجب بحث السُبل الكفيلة لتثبيت الفلسطينيين وتقديم العون لهم لمواجهة الاحتلال الغاشم.
5- يجب على المترجمين والمتخصصين في الشأن الإسرائيلي, رصد مظاهر التمييز والاضطهاد ضد الأقليات في إسرائيل. من أجل إبطال مزاعم تل أبيب بأن إسرائيل هي الدولة الوحيدة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط.
6- يتعين على وزارة الخارجية ووسائل الإعلام المصرية أن تكون على دراية بحجم التفرقة العنصرية داخل المجتمع الإسرائيلي. للرد على مزاعم منظمات حقوق الإنسات التي تتغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان في إسرائيل وتنتقد مصر والدول العربية.