يحاول الرهبان الأثيوبيون منذ عقود بسط هيمنتهم على دير السلطان المملوك للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمدينة القدس المحتلة. وتجدد النزاع بين الطائفتين عندما اعتدى الرهبان الإثيوبيون يوم الثلاثاء 19 إبريل 2022 على أقباط الدير وقاموا برفع علم إثيوبيا داخله لأجل طمس هويته المصرية. وليست تلك المرة الأولى التي يعتدي فيها الرهبان الإثيوبيون على دير السلطان في ظل تجاهل السلطات الإسرائيلية لأحقية الأقباط في امتلاكه منذ مئات السنين.
وتبلغ مساحة دير السلطان حوالي 1800 م2 وهو من أهم المعالم الدينية المسيحية في القدس، ويقع الدير بجوار كنيسة الملكة هيلانة والممر الواصل إلى سور كنيسة القيامة. واُطلق على دير السلطان ذلك الإسم نسبةً إلى السلطان عبد الملك بن مروان، الذي وهبه للأقباط، ثم إلى السلطان صلاح الدي الأيوبي الذي أهداه للأقباط تقديرًا لدورهم الوطني في المعارك ضد الجيوش الصليبية التي احتلت القدس.
الإعلام الإسرائيلي يزور الحقيقة!
هناك علاقة تاريخية بين الكنيسة القبطية والكنيسة الإثيوبية نظرًا لأنهما تتبعان المذهب الأرثوذوكسي الشرقي. ومنذ بداية القرن الرابع الميلادي، كانت الكنيسة الإثيوبية خاضعة للكنيسة القبطية وكان البطريرك القبطي هو الذي يعين أسقافة إثيوبيا. وظل الوضع كذلك حتى عام 1959، عندما تم تعيين بطريرك إثيوبي للكنيسة الإثيوبية لأول مرة في تاريخها.
وفيما يتعلق بدير السلطان، يتعمد الإعلام الإسرائيلي تزوير الحقيقة، حيث يزعم أن الرهبان الأحباش بعد طردهم من كنيسة القيامة، أنشأوا دير السلطان المجاور. ولكن بعد أن تفشى الوباء بينهم اضطروا لمغادرة الدير، وسرعان ما تم إحراق مقتنياتهم وتبديد أرشيفهم. لكن في منتصف القرن ذاته تعزز وجود الرهبان الأحباش مرة أخرى داخل الدير. وبدعم من الإمبراطورية الإثيوبية تم شراء العديد من الأراضي والعقارات التابعة للاحباش في القدس.
النزاع لم يُحسم بعد!
نظرًا لأن الكنيسة الإثيوبية كانت خاضعة للكنيسة القبطية فقد استضاف الرهبان الأقباط نظراءهم الأحباش لمدة 3 قرون بعد طردهم من كنيسة القيامة. لكن الإعلام الإسرائيلي يزور تلك الحقيقة زاعمًا أن دير السلطان يخص المسيحيين الأحباش وأنه بُنيِيَ على الطراز الإثيوبي. ولا يقتصر النزاع بين الأحباش والأقباط على ملكية دير السلطان بل أيضا على ملكية كنيسة الحيوانات الأربعة وكنيسة الملاك ميخائيل بجوار كنيسة القيامة.
وسبق للرهبان الأحباش أن طالبوا بالسيطرة على دير السلطان في عهد الانتداب البريطاني مُدَّعين أن اسم المكان “دير السلطان” منسوب إلى الملك سليمان الحكيم، وباعتباره والد منليك إمبراطور الحبشة فقد أراد أن تؤول ملكية الدير للمنتمين إلى نسله وهم الأحباش. لكن الانتداب البريطاني لم يفصل في ذلك النزاع. وخلال الحكم الأردني للقدس تشكلت لجنة وزارية لحسم الأمر، وبعد تدخل منظمة الوحدة الأفريقية تم إخضاع دير السلطانة لهيمنة المسيحيين الأحباش، لكن الحكومة المصرية تدخلت على الفور وأعادت الهيمنة للكنيسة القبطية خلال أسابيع. ثم عادت إسرائيل لتحسم النزاع لصالح الأحباش بعد نكسة عام 1967. ورغم إضافة فقرة إضافية لاتفاقية السلام تُلزم إسرائيل بتسوية القضية، إلا أن ذلك لم يتحقق حتى الآن.
إسرائيل تريد إقحام جهات دولية!
بحسب الإعلام الإسرائيلي، فإن ارتباط الحبشة بالديانة المسيحية يعود لأزمنة سحيقة لأن المبشرين المسيحيين توجهوا من الشام إلى مملكة أكسوم التي كانت تهيمن على الحبشة وقاموا بتنصير أغلب سكانها. حيث يزعم الإعلام الإسرائيلي أن المسيحيين أصبحوا غالبية في إثيوبيا بينما أصبح الأقباط قلة في مصر بعد أكثر من ألف عام على الفتح الإسلامي. ولم يعد الأساقفة المصريون يتولون رئاسة الكنيسة الحبشية كما أن الأساقفة المحليين أصبحوا يتولون مناصبهم دون الحاجة لموافقة القاهرة.
وبعد احتلال القدس عام 1967 فضلت إسرائيل الأحباش الموالين للإمبراطور هيلا سيلاسي على الأقباط الموالين للرئيس جمال عبد الناصر، وفي عيد الفصح لعام 1970 لم تتحرك الشرطة الإسرائيلية لمنع الرهبان الأحباش من احتلال الدير، بتواطؤ من الحكومة الإسرائيلية لتغيير الوضع القائم منذ قرون. ولجأ الأقباط لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية، لكنها رفضت البت في النزاع حول دير السلطان وأحالت الأمر للحكومة الإسرائيلية.
فيما زعمت مصادر إسرائيلية أنه لا أمل في قدرة المسؤولين الإسرائيليين على حل النزاع المتعلق بدير السلطان لأن جذور الخلاف حوله ترجع لأزمنة سحيقة، ولا مفر من الاستعانة بجهات دولية لحل تلك الأزمة.
خلاصة القول:
1- لن تسعى إسرائيل لحل النزاع المحتدم بشأن دير السلطان، لأنها تريد تدويله لإقحام جهات خارجية مثل إثيوبيا وأوروبا والولايات المتحدة، وبذلك تحد من النفوذ القبطي والمصري بل والعربي في القدس.
2- ستظل تل أبيب منحازة لمصالح أديس أبابا في القدس لأن العلاقات الدبلوماسية الجيدة بين إسرائيل وإثيوبيا بدأت بمجرد الإعلان عن قيام الدولة العبرية عام 1948. ورغم الضغوط التي مارستها الدول العربية والإسلامية على أديس أبابا، إلا أنها حافظت على علاقات قوية بإسرائيل. فخلال ستينات وسبعينات القرن الماضي أرسلت إسرائيل مستشاريها العسكريين وخبراءها المتخصصين في الزراعة والطب والهندسة والتعليم إلى إثيوبيا، باعتبارها الحليف المسيحي المهم للدولة العبرية وسط بيئة إسلامية “معادية” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
3- يتوافق موقف إسرائيل السلبي من أزمة سد النهضة بين القاهرة وأديس أبابا مع موقفها المنحاز للكنيسة الإثيوبية على حساب الكنيسة القبطية فيما يتعلق بالنزاع حول ملكية دير السلطان بمدينة القدس.
4- لعل أهم أسباب استمرار إسرائيل في انحيازها للرهبان الأحباش على حساب الرهبان الأقباط هو الموقف الوطني الذي اتخذه البابا شنودة بتحريم زيارة المسيحيين الأقباط للقدس طالما ظلت المدينة تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وأخيرا فإن إسرائيل لن تُخلص في علاقاتها بمصر ولا بالدول العربية رغم اتفاقيات السلام والتطبيع الأخيرة. وستظل مصر تمثل تحديدًا كبيرا وخطيرا بالنسبة لإسرائيل لأنها أكبر دولة إقليمية ورائدة أمتها العربية. وهنا يكمن سر عداء إسرائيل الدفين تجاه مصر لأنها تعرقل مشروعها للهيمنة على دول الخليج ودول المعسكر السني بدعوى حماية تلك الدول من التهديد الإيراني.