شنت إسرائيل مؤخرا عدوانا جديدًا على قطاع غزة أسمته “بزوغ الفجر” واستهدفت به حركة الجهاد الإسلامي – دون حركة حماس وباقي حركات المقاومة الأخرى وذلك في خطوة غير مسبوقة قد يكون لها ما بعدها، ليس فقط فيما يخص مسيرة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بل أيضا فيما يخص مستقبل التعاون المشترك والتنسيق بين الحركات الفلسطينية المسلحة داخل القطاع وخارجه.
وتهدف حكومة تل أبيب بقيادة يائير لبيد من عمليتها العسكرية الأخيرة تعزيز قدرة الردع لفصائل المقاومة وإحداث الوقيعة بين حركتي حماس والجهاد وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين إسرائيل وحركة حماس التي تهيمن على قطاع غزة، مع توظيف تلك العملية التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوف حركة الجهاد لتدعيم الأسهم الانتخابية لرئيس الحكومة لبيد على حساب زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو.
أهمية الدور المصري!
ترى إسرائيل أنها الطرف المُنتصر بعد عدوانها الأخير على قطاع غزة، وهي تبرر انتصارها بما تكبده تنظيم الجهاد الإسلامي من ضربات مؤلمة واغتيالات بين صفوفه. وبينما تتباهي إسرائيل بـ”انتصارها” المزعوم في عملية عسكرية محدودة ضد تنظيم عسكري صغير، لا سيما مع إحجام “حماس” عن المشاركة جبهة القتال، فإنها تتناسى معاناة مستوطنيها في منطقة غلاف غزة، الذين باتوا يفتقدون الشعور بالأمن مع كل حرب تشنها على قطاع غزة. فمع إطلاق الصواريخ الفلسطينية ردا على العدوان الإسرائيلي يُصاب مستوطنو الجنوب بالهلع والخوف ويهرولون إلى الملاجئ. وحتى إذا لم يتعرضوا لإصابات مباشرة في تلك المرة فإنهُم يُصابون بأزمات نفسية تلازمهم لفترات طويلة.
ومع معاناة الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني من تبعات جولات القتال المتلاحقة، فإن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة أثبت أهمية الدور المصري في إعادة التهدئة وحفظ الاستقرار الإقليمي. فبفضل الوساطة المصرية تم إجراء حوار فعال بين إسرائيل والفلسطينيين أسفر عن وقف إطلاق النار بين الطرفين. وتؤكد تلك الوساطة الحصرية، أن مصر استعادة مكانتها الإقليمية والدولية.
التداعيات على المشهد الانتخابي!
لا شك أن حكومة تل أبيب شنت عدوانها الأخير على قطاع غزة لاعتبارات سياسية، فيما حاول قادة الأحزاب الإسرائيلية تحقيق الاستفادة من تلك العملية منذ اللحظة الأولى لاندلاعها. ومن بين تداعيات عملية “بزوغ الفجر” على الصراع السياسي الداخلي في إسرائيل، أنها ستؤدي إلى تغيير شعارات المعركة الانتخابية لا سيما الخاصة بحزب الليكود وباقي أحزاب اليمين. فقبل تلك العملية عكفت الحملة الانتخابية لحزب الليكود على انتقاد رئيس الحكومة الموقتة يائير لبيد، زاعمةً أنه مجرد إعلامي ومراسل صحافي يفتقر إلى الحنكة السياسية والخبرة العسكرية ولن يمكنه مواجهة التحديات الأمنية. ولكن بعد أن أشرف لبيد على عملية “بزوغ الفجر” اتضح للناخبين الإسرائيليين أن لبيد يمتلك رؤية أمنية مختلفة عما كانت عليه حكومة نتنياهو طيلة الـ12 عاما الأخيرة. ولا شك أن حزب لبيد وكذلك حزب وزير الدفاع بيني جانتس أصبحا الآن في وضع أفضل بعد تلك العملية العسكرية التي انتهت قبل الانتخابات البرلمانية المقرر لها الأول من نوفمبر المقبل.
لكن هناك من يرى أن تلك العملية العسكرية الخاطفة ضد حركة الجهاد لن تؤثر كثيرا على المشهد الانتخابي، خاصة أنها لم تُسفر عن حدث خطير أو فشل ذريع. لذا فإن تداعياتها على نتائج الانتخابات المقبلة ستكون محدودة لسببين:
1- سرعة انتهائها، ولأن كثيرًا من الناخبين الإسرائيليين يحسمون أمرهم خلال الأسبوع الأخير من المعركة الانتخابية، خاصةً وإن بعضهم لا يقرر لمن يمنح صوته إلا وهو داخل اللجنة الانتخابية. وعليه فإن أية عملية عسكرية جرت قبل الانتخابات بثلاثة أشهر – مهما كانت ناجحة – لا تؤثر كثيرًا على العملية الانتخابية.
2- عدم تقدير الناخبين للإنجازات الشخصية. فليس هناك أحد من أتباع نتنياهو سيقول في نفسه إن لبيد أدار العملية العسكرية بحكمة واقتدار لذا فسوف انتخبه. وليس هناك أحد من أتباع لبيد سيقول في نفسه إن نتنياهو دعم العملية العسكرية، لذا فسوف أنتخبه.
والدليل على عدم تقدير الإنجازات الشخصية، أن نتنياهو تمكن من إبرام الاتفاقيات الإبراهيمية التاريخية وكان أول بحسم وباء كورونا، ولكنه لم يجن ثمرة ذلك في الانتخابات السابقة ولم يحقق الأغلبية البرلمانية “61 مقعدا”. وهكذا يدرك الجميع أن الأمر الوحيد الذي سيغير نتائج الانتخابات الإسرائيلية القادمة سيتمثل في نسبة التصويت ونسبة الحسم.
مكاسب لبيد:
1- تلقي الدعم الداخلي والخارجي: حظيت حكومة لبيد بدعم الرأي العام الداخلي، لأنها تمكنت من إقناعه بضرورة المبادرة بشن الهجوم العسكري ضد حركة الجهاد الإسلامي، رغم ما سيترتب عليه من لجوء الإسرائيليين إلى الملاجئ وتعطيل أعمالهم. ولم تزعم حكومة لبيد بأن عدوانها العسكري المحدود سيُنهي الوضع الأمني الصعب والمتواصل مع قطاع غزة، حتى لا تبث آمالا وهمية في نفوس الإسرائيليين. ورغم أن إسرائيل هي التي بادرت بالعدوان على غزة، إلا أنها أقنعت الرأي العام الخارجي ولا سيما الغربي بأن هدف عملية “بزوغ الفجر” يكمن في إحباط التهديد المُحقق. وبذلك لم تتعرض إسرائيل للشجب والتنديد بإشعال الحرب. ويُعد ذلك إنجازا لحكومة لبيد في ظل ما تعرضت له إسرائيل في السابق من انتقادات وتنديد بعد كل عدوان على غزة.
2- تبني أساليب مختلفة: لقد أثبت لبيد خلال عملية “بزوغ الفجر” إمكانية تبني أساليب مختلفة من النواحي العملياتية والسياسية والإعلامية ونجح في ذلك، واسقط شعار اليمين بأن نتنياهو زعيم لا بديل عنه. وذلك بعد أن حقق الضربة الاستباقية، حينما أمر لبيد بشن عملية عسكرية “وقائية” ضد الجهاد في غزة قبل أن يقوم الأخير بإطلاق صاروخ واحد على إسرائيل. وهي خطة عسكرية لم يستخدمها نتنياهو من قبل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تحييد حركة حماس، حيث فضَّلت الحركة عدم التعاون مع الجهاد الإسلامي في التصدي للعدوان الإسرائيلي. ولقد نجحت إسرائيل لأول مرة في إحداث الوقيعة بين حماس والجهاد وهذا ليس بالأمر الهين.
3- استغلال الورقة الاقتصادية: لقد مثل عنصر الاقتصاد عاملا مهما في إقناع حماس بعدم المشاركة في الحرب والحفاظ على التسهيلات والمساعدات التي يحصل عليها أهالي غزة، حيث تمنح تل أبيب لفلسطيني غزة آلاف التراخيص للعمل في إسرائيل، ولقد ارتفع هذا العدد كثيرا بعد أن تولت حكومة التغيير بقيادة بينيت- لبيد زمام السلطة خلفا لنتنياهو.
لماذا لم حماس؟
كان لحركة حماس اعتباراتها الخاصة التي منعتها من مشاركة الجهاد الإسلامي في الحرب الأخيرة ضد إسرائيل. فحركة حماس تعمل وفق مصالحها وتحرص على استقلالية قرارها على الرغم من أنها ترتبط أيضا بعلاقات وطيدة مع طهران. ولم تكن تلك هي المرة الأولى لم تساند فيها حماس حركة الجهاد في الحرب ضد إسرائيل، فلقد حدث ذلك في عملية “الحزام الأسود” التي شنتها إسرائيل عام 2019 بعد أن قامت باغتيال بهاء أبو العطا القيادي في حركة الجهاد، التي أدارت الحرب وقتها بتوجيهات من إيران التي تمولها وتمدها بالأسلحة. ورغم أن حماس تربطها أيضا علاقات جيدة مع إيران إلَّا أنها حريصة على استقلالية قرارها، خاصة أنها ترتبط بعلاقات أخرى مع دول سُنية مثل مصر والجزائر وتركيا وقطر، كما أنها ملتزمة باتفاقية التهدئة مع إسرائيل، والتى تم إبرامها بوساطة مصرية بعد عدوان “حارس الأسوار” في مايو 2021. وبررت حماس عدم مشاركتها بالمبررات التالية:
1- أنها تهيمن على قطاع غزة ومسؤولة عن الأوضاع الاقتصادية لأهالي القطاع، لذلك لم ترغب الحركة في حرمان ما يزيد عن مليوني فلسطيني من التسهيلات الإنسانية والمساعدات الدولية ومن التزود بالكهرباء والوقود والمنحة القطرية الشهرية للمحتاجين والتي تبلغ قيمتها 30 مليون دولار فضلا عن تصدير واستيراد السلع والبضائع والسماح بدخول آلاف الفلسطينيين للعمل في إسرائيل.
2- ترغب في تعجيل عملية إعادة إعمار غزة، بعدما بدأ التنسيق بين حماس ومصر لدفع عمية الإعمار. كما أن الحركة لا تحبذ خوض جولة قتال جديدة مع إسرائيل كل عام، لمنح أهالي غزة فرصة لالتقاط الأنفاس والاستفاقة من الحروب والدمار، وتجنب ويلات الأزمات.
3- لم تنته بعد من إصلاح شبكة أنفاق غزة التي تضررت خلال عدوان “حارس الأسوار”، ولم تُكمل احتياطي الصواريخ التي يتم إطلاقها على إسرائيل.
4- ترغب في إبرام صفقة جديدة لتبادل الأسرى مع إسرائيل، ولقد شهدت الأسابيع الأخيرة تقدما في مساعي الوساطة المصرية بهذا الشأن، لذا خشيت الحركة من أن حربا جديدة ستُحبط تلك المساعي.
مخاوف إسرائيلية!
أهم إنجاز حققته إسرائيل من عدوانها الأخير يتمثل في شق الصف بين حركة حماس التي تهيمن على قطاع غزة وتنظيم الجهاد الذي تعرض للعدوان بمفرده. ورغم هذا الإنجاز الإسرائيلي إلا أن حكومة تل أبيب باتت تتخوف من معضلة جديدة تتمثل في إمكانية إضفاء الشرعية على حركة حماس، الأمر الذي يشكل خطرا على إسرائيل ويهدد مستقبل السلطة الفلسطينية.
كما تخشى إسرائيل من أن تستغل حركة حماس المعادلة الجديدة لإمساك العصى من المنتصف، بحيث تقود – من ناحية- عملية إعادة إعمار القطاع والحصول على المساعدات الاقتصادية، وتسمح –من ناحية أخرى- للتنظيمات الأخرى القيام بأدوارها، أي إطلاق الصواريخ على إسرائيل ودفع الثمن مقابل ذلك. بينما تواصل هي بناء قوتها العسكرية استعدادًا لجولة القتال القادمة ضد إسرائيل، مستفيدةً من دروس العدوان على الجهاد الإسلامي.
لماذا سارعت إسرائيل بإنهاء العدوان؟
في ظل الظروف الحالية في قطاع غزة، كان من مصلحة إسرائيل إنهاء الحرب سريعا، ولقد طلبت تل أبيب من القاهرة لعب دور الوساطة لوقف إطلاق النار، وذلك بهدف إنهاء الحرب في ظل بقاء حركة حماس خارج ميدان القتال ومنحها الفرصة لمواصلة هيمنتها على القطاع وردع الفصائل الفلسطينية “المارقة” عن مواصلة إطلاق الصواريخ على إسرائيل.
لكن حركة حماس التي تتزعم المقاومة الفلسطينية تجد صعوبة في التصدي علانيةً لممارسات الفصائل الأخرى، وخاصة تنظيم الجهاد. وذلك لأن الحركة مُشتتة بين عدة هويات: فهي حركة مقاومة، وحركة دينية إسلامية، وحركة اجتماعية شعبية، وحركة وطنية فلسطينية، وهي قبل كل شيء صاحبة السيادة المهيمنة على قطاع غزة. وعلى النقيض من تنظيم الجهاد، فإن حماس مسؤولة عن الأوضاع المعيشية لأهالي غزة، فكلما طال أمد الحرب وتعرض السكان لمزيد من الأضرار، كلما أصبح من الصعب بقاء الحركة خارج ميدان القتال. من هنا سارعت إسرائيل بإنهاء العدوان لمنع مشاركة حماس في القتال.
ختاما، فإن الحرب بين إسرائيل والحركات الفلسطينية المسلحة ستستمر ولن تنتهي لا سيما أن حماس والجهاد يرفضان بقاء وجود الدولة العبرية. ولأن إسرائيل ليس لديها النية للسيطرة على غزة مرة أخرى لذا فإنها ستواصل من حين لآخر شن العمليات العسكرية المحدودة ضد القطاع.
وبعد انتهاء العدوان الإسرائيلي يمكن استخلاص النتائج التالية:
أ- أن تحذير تل أبيب لحركة حماس من مغبة المشاركة مع الجهاد الإسلامي في التصدي للعدوان الإسرائيلي، كان قاطعًا، فلم تجرؤ حماس على المشاركة، وهو تحول خطير لصالح إسرائيل، وقد يكون بداية لشق الصف بين حماس والجهاد الإسلامي.
ب- أن التسهيلات التي قدمتها إسرائيل مؤخرا إلى قطاع غزة – والتي تضمنت السماح بإدخال العمال الغزاويين إلى إسرائيل للعمل بها- جعلت حركة حماس تشعر أن هناك ما سوف تخسره إذا تدخلت في الحرب وتضامنت مع الجهاد الإسلامي.
ت- استطاعت إسرائيل زرع الفُرقة بين تنظيمي الجهاد الإسلامي وحماس، وجعل الأول يخوض الحرب وحيدا. وبهذا أدركت إسرائيل أن القوة العسكرية وحدها لا تحقق الحل في أي وضع، بل هي مجرد وسيلة يجب حُسن استخدامها بجانب وسائل أخرى.