انتهى العام المنصرم 2022م بتحول خطير في السياسة الداخلية الإسرائيلية، جراء فوز المعسكر اليميني والديني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو على ائتلاف الوسط واليسار بقيادة يائير لبيد، حيث زادت مقاعد حزبي الليكود وشاس، وقفز تيار الصهيونية الدينية من 6 مقاعد إلى 14 مقعداً. بينما تراجع حزب العمل إلى أربعة مقاعد، وخرج حزب ميرتس من الكنيست ليمثل صدمة كبري لتيار اليسار، وإن كانت متوقعة في ظل انحسار اليسار في جولات الانتخابات السابقة.
وفي ظل ذلك التحول السياسي الخطير عاد نتنياهو مع مطلع العام الجديد 2023م إلى سدة الحكم للمرة السادسة، بمشاركة الفاشية الدينية المتمثلة في ائتلاف الصهيونية الدينية. وبالطبع يحمل هذا التحول تداعيات خطيرة على المنطقة عموما، وعلى الفلسطينيين خصوصًا، سواء داخل حدود الـ48، أو في الأراضي المحتلة عام 1967، حيث ستزداد وتيرة الاستيطان في القدس والضفة الغربية، وسيُسدل الستار على مسار التسوية مع السلطة الفلسطينية.
التحول السياسي
أسفرت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة التي جرت في مطلع نوفمبر 2022م عن فوز كبير لأحزاب التيار اليميني والديني المتشدد، بعد حصوله على 64 مقعداً من إجمالي 120 مقعدًا في الكنيست، فيما كانت الخسارة الأكبر للحزبين اليساريين ميرتس والعمل، اللذين امتلكا في الكنيست السابق 13 مقعداً، ثم تراجع تمثيلهما إلى 4 مقاعد فقط، حصل عليها حزب العمل بمفرده، بعدما عجز حزب ميرتس عن تخطي نسبة الحسم.
وبتلك النتيجة عاد نتنياهو للسلطة بتحالفه مع التيار الحريدي والفاشية الدينية. وسوف يدفع فلسطينيو الـ48 ثمن تراجع نسبة تصويتهم في تلك الانتخابات، لاسيما بعدما حقق حزب الصهيودية الدينية نجاحا كبيرًا، وهو أكثر الأحزاب كراهيةً للعرب، ودعمًا للمستوطنين، ومطالبةً بالتعدي على حرمة القدس والمسجد الأقصى.
تداعيات حكومة نتنياهو الجديدة:
تحمل الحكومة الإسرائيلية الجديدة الكثير من التداعيات، وخاصةً على الفلسطينيين، ففي ظل الخارطة السياسية الجديدة داخل إسرائيل وتنامي سطوة اليمين المتطرف، ستتعالى الأصوات التي تدعو إلى “قتل العرب”، ومصادرة أراضيهم، وإقامة المزيد من المستوطنات عليها، وسيزداد عنف المستوطنين ضدّ الفلسطينيين، وستعمل الحكومة الجديدة على تكثيف الاستيطان في الضفة، خاصةً بعد تراجع دور السلطة الفلسطينية وتدهور الحالة الصحية لرئيسها أبو مازن.
وفيما يتعلق بقطاع غزة، فقد لا يتغير أسلوب تعامل حكومة نتنياهو الجديدة تجاه القطاع على الأقل خلال عامها الأول، رغم تهديدات قيادات الصهيونية الدينية ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي. إذ تخشى الحكومة الجديدة من الإسراع بشن حرب على القطاع، نظرًا لامتلاك قوى المقاومة صواريخ قادرة على ضرب المدن الإسرائيلية وإطالة أمد الحرب، وهو ما يهدد بقاء نتنياهو الذي لم يتمكن من العودة إلى السلطة إلا بعد خمس جولات انتخابية متواصلة.
وهناك أيضا تداعيات إقليمية، إذ تتخوف الدول العربية، وعلى رأسها مصر والأردن من الأجندة السياسية للحكومة الإسرائيلية المتطرفة خاصة تجاه الفلسطينيين والمسجد الاقصى. ولقد سارعت الكثير من الدول العربية بشجب ممارسات الوزير الإسرائيلي المتطرف بن جفير الذي اقتحم باحات المسجد الأقصى مؤخرا. فلم تكتف المملكة الأردنيّة، صاحبة الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس، بمجرد التنديد بل استدعت سفير إسرائيل لديها وحذرته من مغبّة استمرار تدنيس المسجد الأقصى. ومؤخرا منعت الشرطة الإسرائيلية السفير الأردني من الدخول إلى المسجد القصى، فاستدعت الخارجية الأردنية السفير الإسرائيلي لتبلغة شجبها وتنديدها ورفضها لهذا التصرف على الا يتكرر مستقبلا.
فيما نددت دول عربية أخرى، وعلى رأسها الإمارات، باقتحام بن جفير للمسجد الأقصى واعتبرته عملًا استفزازيا لا يخدم الاستقرار في المنطقة، فأعلنت تأجيل زيارة نتنياهو المرتقبة إليها للسبب نفسه، وأدانت السعوديّة تلك الممارسات الاستفزازيّة.
تحديات الحكومة الإسرائيلية:
إن أجندة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة ضد الفلسطينيين والمسجد الأقصى، لن تصب في صالح تل أبيب، لأن سعي الوزراء الإسرائيليين المتطرفين لتغيير الوضع القائم في القدس سيؤدي إلى ردود أفعال عربية وغير عربية عنيفة ضد إسرائيل، التي تسعى للتقارب مع الدول العربية السنية من أجل التصدي للتهديد النووي الإيراني.
ومن المتوقع أن تواجه إسرائيل أيضا معارضة دولية شديدة جراء سياستها التعسفية ضد الفلسطينيين، وبدأ ذلك بالفعل عندما قررت الجمعية العمومية للأمم المتحدة مطالبة محكمة العدل الدولية إبداء الرأي في مسألة احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وتكثيف الاستيطان وتغيير التركيبة الديموغرافية لمدينة القدس وطابعها الإسلامي.
وستواجه حكومة نتنياهو الجديدة الكثير من التحديات الاستراتيجية على المستويين الإقليمي والدولي. إذ ستكون مُلزمة بمواجهة تداعيات ضعف السلطة الفلسطينية وتنامي قدرة حركة حماس. كما ستضطر الحكومة الجديدة لمواجة التهديد المتزايد من إيران. مع الحفاظ على التحالف الإسرائيلي مع الولايات المتحدة وعدم زعزعة علاقاتها مع الدول العربية. وتتمثل أهم التحديات في:
1- قطاع غزة: ستركز حكومة تل أبيب على وقف تعاظم القوة العسكرية للحركات المسلحة في القطاع، مع استمرار التهدئة واستمرار وقف إطلاق النار بين الطرفين. وتتخوف حكومة نتنياهو من أن تستغل حركة حماس حالة اللا حرب في القطاع لتعزيز قوتها العسكرية استعدادًا لبسط سيطرتها على الضفة الغربية بمجرد رحيل أبو مازن عن المشهد السياسي.
2- دول السلام والتطبيع: تُعتبر العلاقات مع الدول العربية أحد أهم المرتكزات السياسية والأمنية للدولة العبرية. وتدرك الحكومة الجديدة أن تعزيز علاقاتها مع تلك الدول مرتبط مباشرة بالقضية الفلسطينية. لذا فإن تعثر الحل السياسي للقضية الفلسطينية أو التصعيد ضد الفلسطينيين، سيعرقل مساعي إسرائيل لتعزيز علاقاتها وتعاونها مع الدول العربية.
3- العلاقات مع الإدارة الأمريكية: يثير الطابع الديني المتطرف لحكومة نتنياهو الجديدة تخوف إدارة الديمقراطيين في واشنطن من السياسة الإسرائيلية المتوقعة تجاه القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والأقليات والنظام القضائي وكذلك تجاه الفلسطينيين. كما تتخوف تل أبيب من أن نجاح الديمقرطيين في الانتخابات النصفية، قد يشجع إدارة بايدن على تعزيز الأجندة الديمقراطية الليبرالية، بشكل ينعكس سلبًا على العلاقات مع إسرائيل. ومن المؤكد أن إسرائيل ليس لديها أي بديل عن العلاقات الإستراتيجية الخاصة مع واشنطن ولا يمكنها الإضرار بعلاقتها مع إدارة بايدن. وعليه، فإن حكومة نتنياهو ستتوخى الحذر الشديد في صياغة سياساتها وسلوكها، حتى لا تنجر إلى مواجهات علنية مع الإدارة الامريكية. وستسعى حكومة نتنياهو على تعزيز علاقاتها مع الديمقراطيين والجمهوريين على حدٍ سواء.
4- العلاقات مع روسيا: تُعد مسألة دعم أوكرانيا من أعقد القضايا في السياسة الخارجية الإسرائيلية نظرًا لتداعياتها الخطيرة على العلاقات بين تل أبيب وموسكو، وقدرة الأخيرة على تهديد مصالح إسرائيل الإقليمية، وفي مقدمتها استمرار الغارات الإسرائيلية على سورية والحرص على حماية مصالح الجالية اليهودية في روسيا. وبعد تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين روسيا وإيران، أصبحت إسرائيل أكثر حذرًا من اتخاذ خطوات قد تثير غضب موسكو، مما يصب في مصلحة إيران. وفي ضوء ذلك، قد تمتنع الحكومة الإسرائيلية الجديدة عن تزويد أوكرانيا بأنظمة دفاعية، رغم أن ذلك قد لا يُرضي الولايات المتحدة. لكن إسرائيل ستواصل الإعراب عن دعمها العلني لأوكرانيا، كي تحافظ على علاقاتها مع مع كييف.
5- التعاون الروسي الإيراني: بعد اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية تعاظم التعاون العسكري بين طهران وموسكو واستعانت الأخيرة بالطائرات الإيرانية المسيرة في حربها ضد أوكرانيا. وبالطبع فإن ذلك التعاون العسكري يُقلق الدولة العبرية التي تتلقى الضوء الأخضر من موسكو لضرب المواقع والميليشيات المدعومة إيرانيا داخل الأراضي السورية. وتخشى إسرائيل من أن يؤدي التعاون العسكري بين موسكو وطهران إلى دفع الأخيرة لموصلة تخصيب اليورانيوم، وإلى تقديم المساعدة النوويّة الروسيّة لإيران. كما تخشى إسرائيل من استجابة موسكو لمطالب طهران بالحد من الغارات العسكرية الإسرائيلية في سوريا.
6- العلاقات مع تركيا: سيحاول نتنياهو وحكومته الجديدة إعادة ضبط العلاقات بين تل أبيب وأنقرة، حيث تدرك تل أبيب أن الرئيس أردوغان يتبني أجندة الإسلام السياسي ويسير على نهج السلاطين العثمانيين ويدعم اجندة جماعة الإخوان المسلمين، التي تنتسب إليها حركة حماس، كما أنه يعادي اليونان الحليف الاستراتيجي لإسرائيل في حوض شرق المتوسط الغني بثروات الغاز. وترى الحكومة الإسرائيلية الجديدة أن أردوغان لم يتعير رغم سعيه لإصلاح علاقاته مع كل الأطراف. لذا فإن العلاقات بين تل أبيب وأنقرة سوف تتراجع بعد أن تحسنت في عهد الحكومة الإسرائيلية السابقة بقيادة بينيت- لبيد.
خلاصة القول:
1- ستسعى الحكومة الإسرائيلية الجديدة إلى السيطرة الكاملة على أرض فلسطين، وأن أولويتها تتمثل في توسيع المستوطنات وتغيير الطابع العربي والإسلامي للقدس الشريف، بما يعني إفشال كل محاولات التسوية السلمية مع الفلسطينيين.
2- في ظل ضعف مكانة نتنياهو، سيسعى قادة الصهيونية الدينية لتنفيذ اجندتهم، ليس فقط ضد الفلسطينيين بل ضد تيارات وأحزاب إسرائيلية أخرى لا سيما المحسوبة على العلمانيين واليساريين وعرب الـ 48، بما ينذر باشتعال صراع داخلي يهدد استقرار الدولة العبرية.
3- تواجه الحكومة الإسرئيلية الجديدة مرحلة القضايا المتشابكة، لأن تأزُّم العلاقات الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية جراء تصرفات وزرائها المتطرفين – مثل بن جفير وسموتريتش – سيؤثر سلبا على علاقات تل أبيب الحميمة مع واشنطن وكذلك على العلاقات مع مصر والأردن، وعلى التعاون المشترك مع دول التطبيع في الخليج والمغرب، الأمر الذي سيؤثر بدوره على قضايا الأمن القومي الإسرائيلي، خاصةً فيما يتعلق بالتهديد الإيراني.
4- رغم تحقيق الأغلبية الكافية لمعسكر نتنياهو إلا أنه قد لا ينعم بالاستقرارالسياسي لأن قوى المعارضة بعد هزيمتها وتراجع مقاعدها داخل البرلمان، لن يكون أمامها سوى تحريض الشارع والضغط على أجهزة القضاء للإسراع بمحاكمة نتنياهو والتحذير من مغبة بقاء حكومته المتطرفة التي لا تحظى بالقبول حتى من قِبل قطاعات عريضة من الإسرائيليين.
5- ستواجه القاهرة صعوبة نسبية في تعاملها مع تل أبيب، خاصة فيما يتعلق بدور الوساطة بين الفسطينيين والإسرائيليين في حال اندلاع اشتباكات عسكرية بين جيش الاحتلال والحركات المسلحة في قطاع غزة. ولقد تزايدت تلك الصعوبة بعدما فرضت الحكومة الإسرائيلية عقوبات جديدة على السلطة الفلسطينية، وغضت الطرف عن قيام الوزير المتطرف بن جفير باقتحام المسجد الأقصى في استفزاز واضح لمشاعر المسلمين والفلسطينيين. لكن الحكومة الإسرائيلية ربما لن تتجاوز الخطوط الحمراء فيما يتعلق بالصدام العسكري مع قطاع غزة، لأنها ستكون في حاجة ماسة لدور الوساطة المصرية القادرة على إعادة الاستقرار ووقف إطلاق النار بين الطرفين.