أجرت المراكز البحثية الإسرائيلي نهاية عام 2023م، استطلاعات رأي حول المناخ العام في الشارع الإسرائيلي فى ظل تداعيات العدوان على قطاع غزة، للوقوف على موقفه تجاه صفقات تبادل الأسرى بشكل عام وتجاه عقد صفقة نهائية تشمل إنهاء الحرب. كما حاولت هذه الاستطلاعات رصد التحولات الفكرية والسياسية في الشارع الإسرائيلي في ظل هذه الأحداث غير المسبوقة. وتساءلت عن وجود رغبة حقيقية لدى المواطنين الإسرائيليين في عودة الاستيطان اليهودي إلى قطاع غزة ومدى دعم السلوك اليميني المتطرف نحو هذه المسألة.
وقفات احتجاجية لإنهاء الحرب
ينظر الكثير من الخبراء والمحللين إلى أن السكان المدنيين في إسرائيل هم الخاصرة الأضعف في المجتمع الإسرائيلي ونقطة ضعفه، خاصة إذا تعلق الأمر بوجود جنود أسرى في أيدي المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية أو غيرهما، ولا تنسى الذاكرة حركة ” الأمهات الأربع” بعد حرب لبنان الثانية ومن هنا يطلق عليها “السكان البكائون”.
انتقل الداخل الإسرائيلي إلى مرحلة جديدة تزامنًا مع انتقال المظاهرات إلى منطقة “قيساريا” حيث منزل “نتنياهو” ثم إلى “غرب القدس” حيث مقر الحكومة االإسرائيلية، وأغلقت الأعداد الكبيرة المشاركة بها شارع “أيلون” الممتد من “حيفا” وحتى “بئر سبع”، وكان على رأس المشاركين أهالي الرهائن المحتجزين في قطاع غزة وانضم لهم أهالي الجنود والضباط الذين قتلوا في الحرب دون تحقيق هدف واضح، كما تقاطعت هذه المظاهرات مع مظاهرات “يسار- مركز” إسرائيل التي طالما تظاهرت ضد سياسات الحكومة والتغيرات القضائية وعارضت استمرار “نتنياهو” في منصبه بشكل عام. ونظم هذه الوقفات الاحتجاجية بعض الجمعيات والحركات المناهضة للسلوك الحكومي اليميني المتطرف والتي عادت للظهور وممارسة نشاطها بقوة فى الشارع الإسرائيلي. وكان لنزول متظاهرو اليمين المتدين والقومي إلى الشارع للمطالبة باستمرار الحرب حتى القضاء على حماس، من سيء الأثر على المظهر العام للمجتمع الإسرائيلي حتى يُمكن القول بأن لا أحد راضِ والكل محتجون. ولكن الشئ اللافت أن الأغلبية في الأيام القليلة الماضية قد التفت بالفعل حول المعارضة التي اصطفت إلى عشرات الآلاف من المتظاهرين المطالبين بإنهاء الحرب وتنفيذ الصفقة ولم يكن هذا هو الحال من قبل. كما انزاح المزاج العام نحو اعتبار إيقاف الحرب “ضرورة قصوى”، وهو تطور مُنذر يُشير إلى الصدع في جدار “حتمية البقاء” بواسطة الحرب للقضاء على أي تهديد مستقبلي والذي اتفقت عليه كافة أطياف المجتمع الإسرائيلي في البداية. خاصة وأن 30% فقط من الإسرائيليين يرون أن الجيش قد حقق هدفه على الأقل في صورة ضغط عسكري يهدف إلى إطلاق سراح الرهائن، مقابل حوالي 38% يرون أنه تم تحقيق أهداف بسيطة للغاية، و 29% يعتقدون بأنه لم يحقق شيئاً على الإطلاق. وكان نحو 65% من المواطنين قد أبدوا موافقتهم في بداية الأمر على استمرار الحرب والضرب بقوة مع العمل على تحرير الرهائن في بداية الحرب، وازدادت هذه الأعداد في مختلف القطاعات اليهودية الإسرائيلية بعد دخول حزب الله والحوثيين على خريطة التهديدات، وذلك بناءًا على استطلاعات المعهد الإسرائيلي للديمقراطية[1].
موقف الشارع من الاستيطان في داخل قطاع غزة
أنهت إسرائيل الاستيطان فى قطاع غزة وفككت المستوطنات اليهودية فيها خلال ما يُعرف بالانسحاب الأحادي من القطاع عام 2005م، في عهد رئيس الوزراء الأسبق “آرئيل شارون”. وظلت فكرة العودة لاستيطانها حاضرة بقدر ما ومن حين لآخر في الحيز الإسرائيلي العام، ولم تغب أبدًا عن إجماع التيارات الدينية المتشددة والقومية، وعادت للظهور بقوة بعد اجتياح إسرائيل البري لمعظم غزة وتدميرها بشكل كامل. وأظهر استطلاع الرأي الذي أجراه معهد أبحاث “مدجام”[2] أن 44% من الجمهور الإسرائيلي ممن ينتمون إلى اليمين (نحو 53% من الإسرائيليين) وحوالي 8% من اليسار يؤيدون إعادة الاستيطان اليهودي في غزة مقابل نحو 39% يعارضون ذلك. كما أظهرت النتائج أنه فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والمسائل الجوهرية في إطارها، لم يُغير حوالي 53% موقفه أو هويته السياسية خلال الحرب الجارية على قطاع غزة، بينما أصبح حوالي 36% من الإسرائيليين أكثر يمينية ونحو 6% أكثر يسارية، خاصة بعد موقف القطاع الفلسطيني فى الداخل والذي أدى إلى سقوط مفهوم “وقت الحرب سينقلب المواطنون العرب ضد إسرائيل” الذي طالما استخدمته إسرائيل في وضع رؤيتها الأمنية الداخلية وذريعة في الكثير من السلوكيات التي تنطوي على العنصرية والكراهية الموجهة ضد هذا القطاع. الذي تحل بضبط النفس وتحمل الكثير حتى لا يأت الوضع الحالي بشخصيات وآراء متطرفة توتر الأجواء أو تؤدي إلى تدهور الأوضاع داخليًا بين الفلسطينيين واليهود، وفي ذلك أصدر”المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” تقرير التضامن السنوي لعام 2023م[3]، مسجلًا أعلى مستوى للتضامن داخل القطاع الفلسطيني على الإطلاق تم تسجيله بعد حوالي شهر من اندلاع الحرب على قطاع غزة. والاستطلاع الذي أجري في شهر يناير 2024م وأظهر أن حوالي “87% من هذا القطاع يؤيد المشاركة في جهود المساعدات الإنسانية تجاه المواطنين اليهود الذين تم اجلاؤهم من بيوتهم وبلداتهم أثناء الحرب. واستطلاع “مركز ديّان” التابع لجامعة تل أبيب في يناير 2024م، والذي أظهر أن 66% من فلسطيني الداخل يرَون ضرورة انضمام حزب فلسطيني/ عربي فى الائتلاف الحكومي المقبل. ورغم العديد من محاولات استفزاز هذا القطاع والتعامل معه باعتباره عدوًا داخليًا من قبل الحكومة اليمين الإسرائيلي وأتباعها، إلا أنه تصرف بمسؤولية واختار عدم فتح جبهة حرب إضافية.
عودة إلى الحياة الطبيعية دون ثقة فى الحكومة
تكررت الاستطلاعات منذ بداية العملية العسكرية على قطاع غزة، بشأن الموعد المحتمل لنهايتها والفترة الزمنية المتوقعة لعودة الحياة إلى طبيعتها. وأظهر الاستطلاع الذي أجراه معهد “سياسات الشعب اليهودي” فى يناير 2024م[4]، بأن نسبة من عادوا إلى حياتهم اليومية الاعتيادية حوالي قد ارتفعت بالفعل من 49% في ديسمبر 2023م، إلى 62.5%، وانخفضت نسبة عدم عودة الحياة إلى طبيعتها من 47% إلى 33% في نفس الفترة الزمنية. وتتوافق هذه النتائج مع التقييم العام للمجتمع الإسرائيلي بشكل عام الذي يعتبره مجتمعًا مرنًا سريع التعافي وخاصة القطاع اليهودي منه. كما أظهرت الاستطلاعات انخفاض نسبة متابعة الأخبار مقارنة بالأسابيع الأولى من الحرب بنسبة 22%. ولكن الافت للنظر أن نتائج هذه الاستطلاعات كانت بناءً على تراجعًا فى ثقة القطاع اليهودي فى انتصار إسرائيل. وأبدى 36% من اليهود تأييدهم لحكم إسرائيلي كامل للقطاع وأيد حوالي 44% حكومة فلسطينية بدون حماس و13% يؤيدون فكرة خضوعه لإدارة دولية. وانخفضت ثقة الجمهور اليهودي في قيادة الجيش الدفاع، خاصة بعد مشاركة بعض الضباط الكبار في الوقفات الاحتجاجية و امتناع بعضهم من قوات الاحتياط على العودة للجيش والأعداد الكبيرة للمصابين والمعاقين إثر إصاباتهم فى القطاع. وفيما يتعلق بمستقبل إسرائيل كان الجمهور غير المتدين أكثر تشاؤما من القطاع اليهودي المتدين والمتشدد دينيًا وظل الجمهور الفلسطيني فى الداخل متشائمًا منذ اليوم الأول وحتى أخر الاستطلاعات بنهاية 100 يوم من الحرب دون حدوث تغيير. وانخفض مؤشر الثقة فى أداء الحكومة وهيئاتها وسياسات إسرائيل وكذلك مؤشر الثقة في بنيامين نتنياهو من قبل الحرب وحتى الآن في تراجع مستمر، وربما يعود ذلك لطول مدة الحرب دون حسم، أو بسبب الخلافات والصراعات المفتوحة بين القيادات والنخب في القيادة السياسية وقادة الجيش الإسرائيلي.
الخطوات التالية ..
يعتقد أقل من نصف القطاع اليهودي (46%) أن الوقت قد حان للبدء بالتحقيق الرسمي في أحداث 7 أكتوبر وتداعياتها، وتتفق في ذلك مع أغلبية كبيرة من القطاع الفلسطيني فى الداخل (72%). وأبدت المعارضة المعارضة الاستعداد الأكبر لفتح التحقيق، بينما بلغت النسبة بين ناخبي الليكود (68%)، وكانت أقل من ذلك بين ناخبي أحزاب اليمين الأخرى أقل من ذلك ولكنها لا زالت أغلبية (شاس 58%، الصهيونية الدينية 57%، يهودية التوراة 50%). ويُمكن القول بأن هذه النتائج استندت لي فقط على شعورها نحو الحرب ونتائجها، ولكن على أحكام المحكمة العليا في مسألتي حُجة المعقولية والتعذر والتي أعادت الجدل حول العلاقة بين الحكومة والمحكمة إلى ساحة الحوار، وبلغت نسبة من أيد حكم المحكمة47% مقابل 39% من المعارضين وتأييد كبير في القطاع الفلسطيني (60%)[5].
وتأسيسًا على ما سبق، لا يُمكن تجاهل حالة الارتباك الشديدة التي يعاني منها المجتمع الإسرائيلي، ويضيف لها كل يوم في عمر الحرب حالة من القلق والترقب من القادم المجهول، وهي حالة غير مسبوقة رغم ارتباط المجتمع الإسرائيلي بمثل هذه المشاعر نتيجة عدم الاستقرار الأمني الذي يعاني منه، وقياسًا على عمليات إسرائيل العسكرية السابقة فى القطاع. واستعين فى الختام بكلمات الكاتب “زئيف ماعوز” التي وصف فيها إسرائيل بأنها أدمنت على العنف والحروب وعدم الاستقرار والأمان، ولا يبدو فى الأفق منذ عام 1948م ما يُبشر باحتمالية تخليها عن هذا الإدمان، خاصة فى ظل وجود قناعات راسخة لدى صناع القرار السياسي بأنه الحل الذي يوفر لها الأمن والوجود، ولا أعرف كيف ذلك.
([1] המכון הישראלי לדמוקרטיה, סקרים,
, cited in, Feb. 2024. https://www.idi.org.il/
[2] (מכון מדגם ייעוץ ומחקר,
, cited in, feb.2024. https://www.midgam.co.il/
[3]) המכון הישראלי לדמוקרטיה, סקרים, מדד הִהזדַהוּת,
cited in, Feb. 2024., https://www.idi.org.il/
([4] מדד קול העם היהודי, ינואר 2024, cited in Feb. 2024. ,The Jewish People Policy Institute
[5] ) من خلال نتائج استطلاعات الرأي العام الصادرة عن مركز فيتربي لقياسات الرأي العام والسياسات خلال الفترة من 14 يناير وحتى 5 فبراير 2024م؛ מרכז ויטרבי לחקר דעת קהל ומדיניות, https://www.idi.org.il/centers/1123, cited in feb. 2024.
واستطلاعات الرأي العام الدورية لصحيفة معاريف؛ מעריב, מלחמת חרבות ברזל,
, cited in feb. 2024. https://www.maariv.co.il//Tags