أضحى الصراع بين فرنسا وروسيا فى مالى واضحًا، وذلك بعد تزايد نفوذ روسيا فى مناطق النفوذ الفرنسى فى أفريقيا جنوب الصحراء، وإخفاق فرنسا فى إيجاد حلول أمنية وسياسية للأزمات بها، هذا الصراع الذى زادت حدته بعد تنديد 15 دولة غربية تتزعمهم فرنسا ، بـضلوع روسيا فى نشر عناصر من “فاجنر” الروسية فى مالى وتوفير الدعم المادى لها.
وعلى الرغم من نفى مالى بقيادة العقيد أسيمى جويتا رئيس المرحلة الانتقالية، أى انتشار للمرتزقة الروس داخل مالى ، إلا أنه على الأرض الواقع تؤكد كل الدلالات إلى وجود عناصر من فاجنر داخل مالى، حيث أعلنت روسيا فى وقت سابق أن مالى طلبت دعمًا عسكريًا من شركات روسية، كما توجد عمليات مناوبة جوية متكررة بواسطة طائرات نقل عسكرية تعود إلى الجيش الروسى داخل مالى، ومنشآت فى مطار باماكو تتيح استقبال عدد كبير من المرتزقة، وزيارات منتظمة يقوم بها كوادر من فاغنر لباماكو وأنشطة لعلماء جيولوجيا روس معروفين بقربهم من شركة” فاجنر”.
وتشهد مالى منذ عام 2012 عمليات إرهابية تنفذها جماعات جهادية محلية وجماعات عابرة للحدود وامتد العنف الذى بدأ فى شمال مالى إلى وسط البلاد، ثم إلى بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين، وقد ترتب على ذلك قتل آلاف المدنيين والجنود من الجيوش الافريقية ونزوح مئات الآلاف.
ماذا تريد روسيا من مالى…؟
كان للاتحاد السوفيتى تأثير داخل القارة الأفريقية عن طريق دعم الحركات الإفريقية المناهضة للاستعمار حينها، إلا أنه مع انهياره تلاشى هذا النفوذ والوجود الروسى فى أفريقيا بشكل كبير، إلى أن أدرك فلاديمير بوتين الرئيس الروسى الخطأ الذى ارتكبته روسيا بالابتعاد عن القارة الأفريقية وتركها للقوى الغربية، حيث أعلن بوتين أن أفريقيا إحدى أولويات السياسة الخارجية لموسكو، وأنه سيسعى لتحقيق إستراتيجية “التحول” باتجاه آسيا وأفريقيا عقب فرض العقوبات الغربية على بلاده بعد ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014.
وتسعى روسيا إلى تعزيز وجودها فى مالى باعتبارها بوابة أخرى بعد أفريقيا الوسطى لتكريس نفوذها داخل منطقة الساحل والصحراء ، وذلك من خلال بناء علاقات قوية مع القيادة الحالية لمالى ، وإبرام الصفقات العسكرية وإعداد جيل جديد من القادة والعملاء السريين، فضلًا عن منافسة الغرب فى منطقة الساحل وإبعاده عنها ، هو أحد الأبعاد الرئيسية لمصالح روسيا الجيواستراتيجية فى مالى، وهو ما بدأ تظهر نتائجه من خلال إعلان فرنسا وألمانيا ودول أوروبية أخرى بأنه ستكون هناك تكلفة تتعلق بالدعم الأمنى والاقتصادى إذا حاولت مالى المضى قدمًا فى اتفاق مع “فاغنر” لذلك، فأن أى انسحاب من مالى سيترك فراغًا أكبر لروسيا تملأه .
وتزداد أهمية مالى لدى روسيا نظرًا لوضعها الاستراتيجى كمفترق طرق يربط بين الأقاليم الخمسة للقارة الأفريقية، وهو ما يمكنها من نسج علاقات جيدة مع دول المنطقة بما يضمن الحصول على دعم أكبر على المستوى الدولى فى مواجهة العقوبات الغربية وتحديداً الأمريكية، إضافة إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة فى منطقة الساحل الأفريقى من أجل الوصول للموارد والثروات الأفريقية، وفتح أسواق جديدة لتوسيع المبيعات العسكرية الروسية، والتواجد بالقرب من مناطق التأثير الجيوسياسى فى شرق وشمال القارة بهدف تعزيز النفوذ والحضور الدولى.
على الجانب الاخر تعول الدول الأفريقية على أن روسيا بإمكانها استغلال وضعها باعتبارها إحدى الدول الخمس الكبرى فى مجلس الأمن، لتأييد قرار العقوبات على بعض الدول أو رفعها، فضلًا عن مساندتها فى مواجهة الارهاب الذى الحق خسائر اقتصادية وبشرية كبيرة بها وعطل هذه الدول فى المضى قدمًا نحو تحقيق التنمية ومكافحة الفقر.
انقسام الرأى العام المالى حول الوجود الروسى
فى الوقت الذى يواجه التواجد الفرنسى فى مالى رفض شعبى كبير، عبر عنه المواطنون عبر المظاهرات المختلفة المنددة بالوجود الفرنسى، واتهامه بأنه لم يحقق أى نجاح على صعيد مواجهة الارهاب بل كان عاملاً محفزًا للعنف الجهادى، فضلًا عن التاريخ الاستعمارى الطويل لفرنسا فى مالى والذى ما زال الشعب المالى يعانى من اثاره الاجتماعية والاقتصادية.
على الجانب الاخر يلاقى التواجد الروسى فى مالى ترحيب من قبل البعض ، خاصة أن روسيا لم يكن لها تواجد إستعمارى فى مالى فى السابق، بل فى بعض المظاهرات التى قادها المواطنون المؤيدون للانقلاب العسكرى الأخير بقياد العقيد أسيمى جويتا تم رفع العلم الروسى، وذلك تعويلًا على موسكو فى مواجهة الارهاب، فضلًا عن إدارة فرنسا الصراع وفق مصالحها السياسية والاقتصادية، ومعارضتها المستمرة إجراء أية مفاوضات مع الجهاديين، وهو خيار يفضله بعض الماليين، ولا يتعارض مع الاستراتيجية الروسية ، لذلك إلى الان لم يتم تنظيم أى احتجاجات شعبية ضد روسيا فى مالى.
وتتهم فرنسا روسيا بتأليب الشعب المالى عليها، فضلًا عن أن بعض التقارير تشير إلى قيام المسؤولين الروس بالدفع للصحفيين فى مالى لكتابة مقالات معادية لفرنسا، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعى للتذكير بتاريخ فرنسا الاستعمارى وتحريض المواطنين الماليين على التظاهر ضد فرنسا والمطالبة بخروجها من أراضيهم.
دور قوات فاجنر فى شمال مالى
يرجع تأسيس قوات “فاجنر” عام 2014 إلى ديمترى أوتكين، العميد السابق فى الاستخبارات العسكرية الروسية، وتضم المجموعة فى صفوفها أفرادا متقاعدين من القوات المسلحة الروسية، وعلى الرغم من نفى الحكومة الروسية علاقتها ب”فاجنر” إلا أنها تتحرك بدعم مباشر من الحكومة الروسية، وذلك لأن الأنشطة المتعلقة باستخدام السلاح والشركات ذات الطابع الأمنى لا يمكن أن تعمل حول العالم من دون علم دولتها وبإذن منها، وذلك لتوفير تراخيص حمل السلاح أو التصريح بتدريب الأفراد.
وتعتبر فاجنر بمثابة ذراع غير رسمية لموسكومن أجل ترسيخ تواجدها فى المناطق التى ترغب فى مد نفوذها إليها، ومنها الساحل الأفريقى، والدول التى لم يكن لها فيه حضور كبير تاريخيًا مثل مالى، وتعمل فاجنر فى شمال مالى بالتنسيق الامنى مع الجيش المالى من أجل مطاردة الجماعات الإرهابية، فضلًا عن دعم النظام بقيادة أسيمى جويتا خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات فى فبراير 2022 ورغبة العقيد أسيمى جويتا فى تأجيل الانتخابات والاستمرار فى السلطة، وذلك على الرغم من إعلانه وضع جدول زمنى للانتخابات فى يناير 2022، إلا أنه أوصى مؤتمر معنى بوضع جدول زمنى للانتخابات بضرورة تأجيلها لمدة تتراوح بين ستة أشهر وخمس سنوات، فضلًا عن تصريحات وزير خارجية مالى فى1 يناير 2022، إن السلطات المؤقتة فى البلاد اقترحت على جيرانها فى غرب أفريقيا تمديد الفترة الانتقالية للعودة إلى الديمقراطية خمس سنوات.
هل توسع روسيا نفوذها على حساب فرنسا وحلفائها بعد انسحاب برخان
مع تراجع تأثير فرنسا داخل مجموعة الساحل الأفريقى التى تشكل ساحة للتنافس الدولى، نظرًا لموقعها الجغرافى المتميز وثرائها بالموارد الطبيعية، توسع موسكو نفوذها فى مالى على حساب باريس عبر مفاوضات تقودها فاجنر الروسية لنشر أعداد كبيرة من عناصرها المسلحة ، مستغلة قرار فرنسا بتخفيض جنودها داخل مالى والانسحاب التدريجى لعملية برخان العسكرية التى كانت تقودها فرنسا فى مالى واتهام رئيس وزراء مالى شوغل مايغا فرنسا بأنها تخلت عن بلاده حين قررت سحب قوة برخان.
إلا أن المفاوضات بين روسيا ومالى بشأن التعاون العسكرى بدأت قبل إعلان فرنسا الإنسحاب التدريجى من مالى، وهو ما يشير إلى وجود رغبة من الحكومة المالية بقيادة أسيمى جويتا بالتعاون مع روسيا وذلك بسبب الدعم الفرنسى للرئيس السابق باه نداوه أبرز حلفاء فرنسا فى المنطقة، كما أنه بعد نجاح روسيا بإرساء الاستقرار فى جمهورية أفريقيا الوسطى ودعمها أمنيا وسياسيا اتجهت أنظار المواطنين والسكان فى دولة مالى إلى موسكو لمساعدتها عوضا عن فرنسا، إلا أن الضغوط التى تمارسها القوة الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ودول غرب أفريقيا المدعومة من فرنسا سيحد من هذا النفوذ الروسى داخل مالى بالشكل الذى سيعرقل تكرار نفس سيناريو أفريقيا الوسطى فى مالى وإن كان سيظل لروسيا دور فاعل فى مالى خاصة إذا نجح العقيد أسيمى جويتا فى الاستمرار فى السلطة.
مستقبل الاستقرار فى مالى فى ظل التنافس الدولى
من المرجح أن يزداد التنافس الروسى الفرنسى الفترة القادمة فى مالى، ومع تعارض مصالح كليهما الذى لا يهدف فى النهاية لتحقيق مصلحة الشعب المالى، فأن الماليين سوف يعانو سواء من قطع المساعدات الدولية التى تقدمها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، واستمرار تعليق عضويتها فى المنظمات القارية الأفريقية وعلى رأسها الاتحاد الافريقى، فضلًا عن أن تواجد فاغنر فى مالى يترتب عنه العديد من الانتهاكات الخاصة بحقوق الإنسان فى حق المدنيين وذلك على غرار ما حدث فى أفريقيا الوسطى، واتهام الأمم المتحدة فاغنر بارتكاب انتهاكات ضد المدنيين وأفعال منافية لحقوق الإنسان.
كما أن هذا التنافس سيكون له تأثير على الانتخابات القادمة فى مالى وذلك من دعم فرنسا إجراء الانتخابات فى موعدها والعمل على إزاحة العقيد أسيمى جويتا والإتيان بحكومة مدنية موالية لها، وذلك فى الوقت الذى تدعم فيه روسيا بقاء العقيد أسيمى جويتا كرئيس انتقالى لمالى ومساندته فى حال اتخاذ قرار بتأجيل الانتخابات، الأمر الذى سيزيد من حالة عدم الاستقرار السياسى فى مالى ويعطى فرصة أكبر للجماعات الإرهابية للتمدد والسيطرة على مناطق جديدة فى مالى.
وختامًا أظهر التوغل الروسى فى مالى تسرع القرار الفرنسى بالإنسحاب التدريجى لعملية برخان العسكرية، وترك الساحة المالية مفتوحة أمام قوات فاغنر الروسية، لذلك من المرجح أن تغير فرنسا إستراتيجيتها لمكافحة الإرهاب فى مالى بوجه خاص والساحل الأفريقى بوجه عام، والدفع لإجراء الانتخابات المالية فى موعدها، كما أن مستقبل التواجد الروسى فى مالى مرهون بنتيجة هذه الانتخابات، وذلك لأنه فى حال انتخاب حكومة مدنية جديدة موالية لفرنسا سوف تعرقل الوجود الروسى، إلا أنه من المرجح أن يظل العقيد أسيمى جويتا يسيطر على السلطة مما سيعطى روسيا مزيد من الانتشار داخل مالى.