انتهت جولة أخرى من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أسماها نتنياهو “درع وسهم”، وما هي إلا درع لحماية حكومته اليمينية المتطرفة وسهم في صدر خصومه داخل الإئتلاف الحاكم وعلى رأسهم المتطرف بن جفير. ويعاني نتنياهو من أزمة سياسية داخلية، وهو على خلاف مع الإدارة الأمريكية لدرجة أنه منذ عودته لتولي السلطة، لم يتلقى حتى الآن دعوة لزيارة البيت الأبيض.
لم يؤدِّ العدوان الإسرائيلي الأخير لتحقيق الردع الاستراتيجي ضد قطاع غزة، بل كان مجرد جولة ضمن سلسلة جولات شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين. وبعد اغتيال إسرائيل لثلاثة من قادة الجهاد الإسلامي في بداية العدوان، زعم نتنياهو أنه غيَّر معادلة الصراع، لكن سرعان ما انهالت الصواريخ الفلسطينية على المستوطنات اليهودية في جنوب إسرائيل وحتى تل أبيب، مما يؤكد عجز إسرائيل عن تغيير تلك المعادلة حتى في ظل الائتلاف اليميني المتطرف الذي يتزعمه نتنياهو حاليًا.
وشنت إسرائيل منذ قرابة 15 عاما، العديد من العمليات العسكرية ضد قطاع غزة لكنها لم تحقق سوى التهدئة المؤقتة مقابل وقف إطلاق النار والكف عن اغتيال المزيد من قيادات المقاومة.
دوافع نتنياهو:
لقد بدا واضحا منذ عدة أشهر، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لم يكن هو صاحب القرار أو الكلمة العليا بين شركائه في الائتلاف الحاكم، فتراجعت شعبية حزب الليكود ونتنياهو شخصيا، وكادت حكومته أن تُسقط جراء اندلاع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة. احتجاجًا على تغوله على السلطة القضائية.
ورغم نجاح نتنياهو في تشكيل ائتلاف يميني واسع بلغ 64 مقعدا برلمانيا، إلا إنه تعرض للابتزاز من جانب شركائه السياسيين. وأكبر دليل على ذلك هو أن قانون إصلاح النظام القضائي،- وهو سبب الأزمة الكبري- قد جاء باقتراح وزير العدل ياريف ليفين وبمساندة عضو الكنيست سيمحا روتمان، مما جعل نتنياهو في مأزق لا يعلم كيف يخرج منه.
لكن نتنياهو المتخبط اعتقد أن الحل لأزمته الداخلية، يكمن في شن عدوان جديدة على قطاع غزة. وحتى لا يدفع ثمنا باهظا لعدوانه، قرر استهداف حركة المقاومة الثانوية والأضعف ألا وهي حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني.
وظن نتنياهو أنه بذلك العدوان -“درع وسهم” – سيعود إلى دوره الطبيعي وهو الانشغال بالملف الأمني وإدارة الاستراتيجية السياسية والتقاط الكثير من الصور بين القادة العسكريين والأمنيين، وإطلاق التصريحات في أوقات الذروة من ساعات البث الإذاعي. وأراد نتنياهو من شن ذلك العدوان على قطاع غزة، ترسيخ مكانته داخل الائتلاف الحكومي، وهو الآن يوهم شركاءه بأنه قد انتصر في تلك الحرب ولن يقبل بأي ابتزازات من أحزاب الائتلاف أو أي تهديدات من أحزاب المعارضة.
إسرائيل والاخطاء الاستراتيجية!
في الوقت الذي تدعي فيه القيادة الإسرائيلية أنها حققت إنجازا عسكريا في عدوانها الأخير على قطاع غزة، فهي تتناسى أنها استهدفت الحركة الأضعف في الصراع، وهي أيضًا لم تسلم من ارتكاب اخفاقات استراتيجية.
صحيح أن إسرائيل كبدت حركة الجهاد أكبر خسائر بشرية منذ اغتيال مؤسسها فتحي الشقاقي عام 1995، ولم تتعرض لضغوط دولية شديدة، كما أنها وحدت جبهتها الداخلية وبددت مخاوف رفض الخدمة العسكرية. ولكن إسرائيل في المقابل، أخطأت في تقديراتها العسكرية حينما اعتقدت أن اقتصار العدوان على حركة الجهاد سيؤدي لإخضاعها خلال يومين على الأكثر، ولكن العدوان كان سيستمر طويلًا لولا تدخل القاهرة وقبول إسرائيل بشروط الوساطة المصرية لوقف القتال.
وهناك خطأ استراتيجي آخر وقعت فيه إسرائيل حينما حاولت فصل حماس عن الجهاد لإحداث الوقيعة بينهما. ولقد استفادت حماس من الانطباع السائد لدي الإسرائيليين بأن الجهاد حركة مارقة وأن حماس لم تعد في قوتها وأن الحركتين تتنافسان لبسط هيمنتهما على القطاع، فاستغلت حماس ذلك الانطباع للعب دور أوسع، حيث سمحت لحركة الجهاد بإطلاق صواريخها من غزة، دون الوقوع في صدام مباشر مع إسرائيل حتى تحظى باستمرار التسهيلات الاقتصادية الممنوحة لغزة والتي تعزز سلطتها هناك. وعليه، فإن إخراج حماس من دائرة القتال لا يعد إنجازًا لإسرائيل بل هو في المقام الأول إنجاز كبير لحركة حماس.
حماس والنظرة المستقبلية!
من المعلوم أن هناك تنافسا فعليا بين حركتي حماس والجهاد في قطاع غزة، لذا فإن حماس التي لم تتعرض للهجمات الإسرائيلية المباشرة، لم تشارك في تلك الجولة وفضلت دفع الجهود المصرية لوقف إطلاق النار لأجل تعزيز مكانتها في القطاع. وفي حين سارع نتنياهو باستهداف حركة الجهاد لتحقيق إنجاز عاجل يضمن له الاستقرار الداخلي، فإن حركة حماس فكرت على المدى البعيد، حيث تتطلع للسيطرة على المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
ومن الملاحظ أن جولة القتال الحالية ليست هي الأولى التي استهدفت فيها إسرائيل حركة الجهاد دون أن تهب حماس لمساندتها، ولعل ذلك لم يكن من فراغ، إذ يبدو أن حماس قد وضعت نصب أعينها هدفا مستقبليا، وهو بسط السيطرة على الضفة الغربية بعد وفاة الرئيس الفلسطيني أبو مازن.
وتعلم كل من حماس والسلطة الفلسطينية وإسرائيل أن الفوضى ستعم الضفة الغربية جراء الصراع على خلافة أبو مازن بمجرد وفاته. لذا تستعد حماس سياسيا وعسكريا واقتصاديا لاستغلال تلك الفوضى المحتملة. وبعد سيطرة حماس على قطاع غزة طيلة 16 عاما، فإنها باتت تتطلع للسيطرة على الضفة الغربية، لذلك لم تغامر بمشاركة الجهاد الإسلامي في الحرب ضد إسرائيل لتحقيق الهدف الأسمى. ولأن حماس تعلم مدى السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الضفة الغربية، فإنها تتحاشى خوض المعركة مع إسرائيل حتى يظل قطاع غزة بمثابة القاعدة اللوجيستية التي ستمكنها من الصمود في الضفة.
نجاح الوساطة المصرية
تم وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، وكما هي العادة في جولات القتال السابقة، فقد تمكنت القاهرة من التعجيل بوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وبنجاح تلك الوساطة المصرية أكدت القاهرة أهمية دورها الإقليمي ومكانتها الدولية.
وتولي قيادة القاهرة أهمية قصوى لدعم القضية الفلسطينية وإعادة الهدوء والاستقرار لحدود مصر مع إسرائيل وقطاع غزة وذلك لحماية أمنها القومي، لاسيما في تلك المرحلة التي تستقبل خلالها مصر عشرات الآلاف من اللاجئين السودانيين في ظل أزمة اقتصادية محلية وإقليمية. وكانت مصر قد أعربت عن استنكارها للعدوان الإسرائيلي واغتيال قادة المقاومة الفلسطينية لتحقيق مصالح نتنياهو الداخلية.
ولم تقتصر الوساطة المصرية على الجانب الأمني بل امتدت للجانب الدبلوماسي حيث تواصلت الخارجية المصرية مع العديد من الدول مثل الأردن وألمانيا وفرنسا، لبحث سُبل إنهاء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتعزيز استقرار المنطقة.
خلاصة القول، فإن:
- إيقاف العدوان الإسرائيلي بفضل الوساطة المصرية، لا يعني أنه لن تندلع جولة أخرى من القتال بين الجيش الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة. فقد يلجأ نتنياهو خلال أشهر معدودة، لشن حرب جديدة بضغوط من حلفائه المتطرفين مثل بن جفير وسموتريتش، خاصةً أن إسرائيل لم تحقق إنجازا عسكريا كبيرا رغم اقتصار عدوانها على حركة الجهاد.
- حركة حماس باتت تلعب دورا جديدا لا يقتصر على ترسيخ مكانتها في غزة، بل أصبحت تتطلع للسيطرة على الضفة الغربية مع اقتراب رحيل رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن.
- دور مصر سيظل رائدا ومحوريا لكبح أي عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين بوجه عام وعلى أهالي قطاع غزة بوجه خاص، باعتباره ركيزة ضمن مرتكزات الأمن القومي المصري.