يعد الفساد ظاهرة عالمية تعاني منه معظم دول العالم، إلا أن هذه الظاهرة أصبحت سمة رئيسية فى الدول الأفريقية، وتوغلت فى اقتصاداتها بشكل يفوق كل قارات العالم، حيث توجد نخبة ثرية صغيرة تسيطر على مقدرات الدول الأفريقية، بينما الغالبية العظمى من الأفارقة يعانون من فقر مدقع وانخفاض إجمالي نصيب الفرد من الدخل القومي بما في ذلك الدول الأفريقية التي تتمتع بموارد طبيعية كثيرة.
وبحسب المؤشرات الدولية تحتل الدول الأفريقية ترتيبات متدنية فى مستوى الشفافية، حيث تقع معظم دولها في قائمة الدول الأكثر فسادًا في مستويات الفساد العالمية، وذلك فى منظمة الشفافية الدولية ومؤشر مدركات الفساد، حيث احتلت الصومال والسودان وليبيا ترتيب أكثر الدول فسادًا فى مؤشر مدركات الفساد لعام 2019، وفى عام 2020 احتلت جنوب السودان والصومال أكثر الدول فسادًا.
وتتكبد أفريقيا أموالًا طائلة بسبب الفساد حيث كشفت دراسة للأمم المتحدة أن أفريقيا تخسر حوالي 89 مليار دولار سنويًا بسبب الفساد فى تدفقات مالية غير مشروعة، مثل التهرب الضريبي والسرقة، وهو مبلغ أكبر من مساعدات التنمية التى تتلقاها القارة، وهو ما يسرق إمكانيات أفريقيا وشعبها ويقوض الشفافية والمحاسبة ويقلص الثقة في المؤسسات الأفريقية وقدرتها على مواجهة الفساد.
ويعرف الفساد وفق منظمة الشفافية الدولية بأنه “إساءة استعمال السلطة الموكلة لتحقيق مكاسب خاصة” وهو ما ينطبق على القطاعات الثلاثة للحوكمة: القطاع الخاص، والعام، والمجتمع المدنى، ويندرج ضمن أعمال الفساد فى أفريقيا عدد كبير من السلوكيات غير المشروعة، بما فى ذلك الكسب غير المشروع والرشاوى والابتزاز والاختلاس وكشوف المرتبات المتضخمةً “رواتب وهمية”، وسرقة المساعدات الخارجية، والتواطؤ فى عمليات التهريب، وشراء وبيع الأصوات الانتخابية، وممارسات المحسوبية وبيع العقود الحكومية والتراخيص لغير المستحقين فضلًا عن امتيازات الأراضى ولا تقتصر المزايا على المكاسب المالية، بل تشمل الحصول على مناصب سياسية والوصول للسلطة.

أولًا: الفساد بين غياب الديمقراطية وانتشار البيروقراطية
يتسم الفساد المنتشر فى أفريقيا بأنه لا يُمارس على نطاق ضيق من قبل الأفراد كما يحدث في جميع دول العالم، إلا أن المعضلة الأكبر تكمن في إضفاء الطابع المؤسسي على الفساد وتورط النخبة الحاكمة فيه فى العديد من الدول، وتتمثل أبرز أسباب انتشار الفساد في القارة السمراء فيما يلى:-
ضعف الديمقراطية وفساد النخب الحاكمة حيث أن السياسة بالنسبة للعديد من النخب الحاكمة فى أفريقيا، هي سبيل للرخاء المادي وتراكم رأس المال سواء كان ذلك بشكل شرعي أم غير شرعي، فضلًا عن أن علاقات المحسوبية والانقسامات الإثنية لها دور مهم فى الحصول على الموارد، مما يخلق فجوة بين النخبة الحاكمة والأغلبية الفقيرة.
الضعف المؤسسي فى مواجهة الفساد تعتبر أفريقيا نموذجًا واضحًا لضعف الإرادة السياسية في مواجهة الفساد واتخاذ خطوات حقيقية فى سبيل ذلك، حيث تتعرض الوكالات والهيئات المنوط بها مكافحة الفساد لعرقلة وتعطيل عملها، وهو ما أفقدها المصداقية فى توفير بيئة صالحة ومهيأة للقضاء على الفساد، فضلًا عن ضعف المؤسسات الإعلامية والتى من أهم أدوارها العمل بمثابة المراقب والمبلغ عن المخالفات.
العوامل الخارجية وتظهر هذه العوامل من خلال المساعدات والمعونات الخارجية، التى تمنحها الدول الغربية والمؤسسات والهيئات الدولية وكذلك الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، والتى غالبًا ما تهدف لتحقيق مصالحها الاقتصادية، وذلك عن طريق معاملاتها المشبوهة مع أطراف داخلية في الدول الأفريقية، لذلك فإن معظم قضايا الفساد الكبرى ذات أبعاد دولية، فالراشي من الشركات متعددة الجنسيات يمكن أن يعد مصدرًا للفساد بين الدول الأفريقية.
البيروقراطية وما يترتب عنها من تعطيل النصوص القانونية وبما يؤدى إلى ظهور الممارسات الفاسدة مثل التهريب أو تبادل الأموال فى السوق السوداء، أو دفع الرشاوى فى المؤسسات العامة والخاصة.
كثرة الموارد وانتشار ثقافة الرشوة، غالبًا ما يرتبط الفساد بـما يطلق عليه “لعنة الموارد”، حيث لاحظ الخبراء المتخصصون أن هناك علاقة طردية بين كثرة الموارد فى الدول الأفريقية وانتشار الفساد، حيث تسعى النخب الحاكمة إلى السيطرة على تلك الموارد والحصول على نسبة كبيرة منها.

ثانيًا: عائدات الفساد في أفريقيا تذهب للدول الأجنبية
على الرغم من الآثار السلبية المتعددة للفساد، إلا أن المشكلة الكبرى تكمن فى أن عائداته لا يتم استثمارها داخل الدول الأفريقية، وعادة ما يتم تحويلها للخارج وذلك لشراء الأصول أو لحفظها فى البنوك ضمن حسابات بنكية سرية أجنبية تعود لرؤساء تلك الدول وأعضاء حكوماتهم الذين يرسلونها للبنوك فى الخارج كي يستثمروا فيها ويزيدوا من ثرواتهم الخاصة وبذلك يحرمون اقتصاد دولهم من الاستفادة منها.
وقد ترتب على هذا الأمر إضاعة العديد من فرص التنمية، وذلك بسبب ارتباط أداء الاقتصاد بشخص الحاكم وغياب الرؤية والأداء المؤسسي، فأي عزل يحدث للرئيس يؤدي لانتكاس الأداء الاقتصادي وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، على عكس ما يحدث فى الدول ذات الاقتصاد والأداء والخطط المؤسسية، والتي يستمر فيها الأداء الاقتصادي بمعدلاته المرتفعة رغم تغيير الحكومات أو عزل المسئولين الفاسدين. وعلى سبيل فقد تم عزل رئيسة جمهورية كوريا الجنوبية، بعد اتهامها بالفساد وإساءة استغلال السلطة، ورغم ذلك لم يتأثر الاقتصاد الكورى ولم تنخفض معدلات أدائه.
وفى نيجيريا فإن الرئيس السابق، الجنرال ساني أباتشا، الذي تُقدَّر قيمة ثروته ما بين 3 إلى5 مليارات دولار خلال فترة إدارته للبلاد، وقد تم تحويل تلك الأموال إلى بنوك أجنبية، كما أن موبوتو سيسي سيكو الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية بين عامي 1965 و 1997، قُدِّرت قيمة ثروته أيضًا بحوالي 5 مليارات دولار ومعظم تلك الأموال مودعة فى البنوك السويسرية، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة، تم فى عام 1991 وحده، تهريب أكثر من 200 مليار دولار من رؤوس أموال أفريقيا بعد أن أرسلتها النخب الحاكمة إلى الخارج.
ويجب الإشارة إلى أن الأموال التى يتم تهريبها خارج القارة الأفريقية تستنفذ موارد الدول النامية، حيث أن أغلب الدول المتضررة هي دول ذات البنية التشريعية والتكنولوجية الضعيفة، الأمر الذى يؤدي إلى فتح المجال أمام هروب أموال الفساد والرشوة والعمولات، فضلا عن أن تهريب السلع والرشوة وغسل الأموال وهشاشة الأنظمة المصرفية، تشكل الثغرات التي تتسبب في نزيف مالي للدول الأفريقية، ناهيك عن دور بنوك الدول المتقدمة في عمليات تهريب الأموال من دول القارة السمراء الأكثر فقرًا.
ثالثًا: معوقات مكافحة الفساد في أفريقيا
على الرغم من وجود خطط وإستراتيجيات من الدول الأفريقية لمواجهة الفساد، إلا أنه ما زال يهدد القارة السمراء. وهناك العديد من العقبات التي تُعيق محاربة الفساد في أفريقيا وذلك كنقص الشفافية وعدم وجود المعلومات والإحصاءات والمصادر والأرقام الرسمية عن حجم الفساد بشكل دقيق، فضلًا عن عدم وجود آليات قانونية تُطبق على كبار المسئولين الفاسدين أثناء وجودهم بالسلطة، إنما يتم أولا عزل الحكومة وتغييرها قبل توجيه تهم الفساد.
بالإضافة إلى أن مكافحة الفساد في أفريقيا ليست نابعةً من دافع ذاتي معبر عن إرادة تلك القارة، إنما يتم الأمر من خلال ضغط خارجي وتهديدات من المنظمات العالمية والدول المانحة بقطع إمداداتها وتوقيع عقوبات على تلك الحكومات إذا استمر فيها هدر الأموال والفساد في استخدام تلك المنح المالية.
إذ تضغط الدول المانحة من أجل منع الفساد في استخدام أموال المنح خوفا من وصولها للجماعات الإرهابية، وخوفا من توسع نشاط الجماعات الإرهابية مستغلة حالة الفساد السائدة في تلك الدول من أجل القيام بعمليات غسل الأموال واستثمارها وتوسيع نشاطها وعملياتها، فترضخ الدول الأفريقية وتعلن عن مكافحتها للفساد بسبب الضغوط الخارجية وليس لقناعات أو خطط أو دوافع داخلية.
كما أن هناك غياب للآلية المنهجية، فضلًا عن الافتقار للرؤية الشاملة التي تهدف لاقتلاع الفساد من جذوره وعلاج أسبابه. فلا يوجد وعي مجتمعي بضرورة المساهمة في القضاء على الفساد، ولا توجد خطط قانونية ومؤسسية لمحاربته، إنما يتم الأمر بغرض الثأر والتنكيل السياسي بين المتنافسين والمعارضين السياسيين بعضهم البعض بغرض التنافس على السلطة والطمع في المناصب والامتيازات، وما إن ينتهي التنافس وتتوافق المصالح فيما بينهما يختفي الحديث عن مكافحة الفساد، ويعود المتهمون بالفساد مرة أخرى للحياة السياسية.
