إن العملية المباغتة التي شنتها حركة حماس على إسرائيل، صباح السابع من أكتوبر 2023، تختلف عن جولات المعارك السابقة لأنها اتسمت بعنصري الإبداع والمفاجأة مثلما حدث في حرب أكتوبر 1973، كما خدعت حماس إسرائيل وأوهمتها بأنها لم تعد تفكر في العمل العسكري بعد عدم مشاركتها بشكل فعال في العمليتين الأخيرتين، تاركةً الصدارة لحركة الجهاد. ولقد استخدمت حماس قدرات غير مألوفة حينما هاجمت إسرائيل براً وبحراً وجواً، ولم تقتصر على إطلاق الصواريخ نحو المدن والمستوطنات الإسرائيلية.
وهناك العديد من الأسباب التي دفعت حماس لشن عملية “طوفان الأقصى” ومنها:
1- استمرار معاناة أهالي غزة:
فقد سادت حالة الملل الشعبي لدى أهالي غزة من تفاقم الأزمة الاقتصادية جراء تراجع الدعم الخارجي واستمرار الحصار الإسرائيلي على القطاع. وأدركت حماس وباقي فصائل المقاومة في غزة أن هناك ضرورة لتغيير المعادلة مع إسرائيل بعد فترة طويلة دون تحولات إيجابية لصالح الفلسطينيين الذين تحملوا كثيرا وصبروا طويلا تحت حكم حماس.
2- عامل التوقيت:
أدركت المقاومة في غزة أن المجتمع الإسرائيلي يشهد انقسامًا غير مسبوقٍ على خلفية الأجندة السياسية للحكومة الدينية المتطرفة، مما دفع الكثير من جنود الاحتياط للتمرد والتهديد بعدم الالتحاق بالخدمة العسكرية في حال تم استدعاؤهم. كما شعرت حماس أن التطبيع بين تل أبيب والرياض أصبح قاب قوسين أو أدنى، وهو ما سيشكل ضربة قاصمة لنظام حُكم حماس في قطاع غزة، على اعتبار أن جميع الحقوق الفلسطينية التي تشترطها السعودية لتنفيذ التطبيع ستصب في صالح السلطة الفلسطينية في رام الله لأنها الممثل الرسمي الوحيد للشعب الفلسطيني، بما سيهدد مستقبل حماس السياسي والعسكري إلى الأبد. فكانت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر لإفشال التطبيع والمحافظة على نهج المقاومة في غزة.
3- تحرير الأسرى الفلسطينيين:
هناك آلاف الفلسطينيين المعتقلين داخل السجون الإسرائيلية من النساء والأطفال والشيوخ وبعضهم لم يذق طعم الحرية منذ عشرات السنين. وكانت حماس تضع إطلاق سراح الأسرى على رأس اهتماماتها. ورغم أنه كان لديها قبل الحرب الحالية أسيرين وجثتين من الإسرائيليين، لكنها فشلت في إبرام صفقة لإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، وهو ما دفعها لشن الهجوم الأخير فنجحت في أسر قرابة مئتي أسير إسرائيلي في يوم واحد وهي سابقة لم تحدث لإسرائيل من قبل.
4- الرد على الانتهاكات الإسرائيلية:
اعتادت الشرطة الإسرائيلية ولا سيما في عهد الوزير الحالي بن جفير، ملاحقة المنتمين لفصائل المقاومة في الضفة الغربية والتنكيل بهم فضلا عن قيام المتطرفين اليهود بانتهاك حُرمة المسجد الأقصى، وتلك الممارسات العدائية كثيرا ما تستغلها حركات المقاومة لشن هجمات على إسرائيل، من أجل كسب مزيد من الشرعية لدى الفلسطينيين خارج قطاع غزة على حساب السلطة الفلسطينية التي تمر بأزمة حقيقية لأسباب تفرضها إسرائيل عليها وأسباب أخرى داخل منظومة السلطة نفسها.
تداعيات الحرب:-
كان لعملية “طوفان الأقصى” والرد الإسرائيلي عليها الكثير من الانعكاسات على الفلسطينيين سواء كانت إيجابية أو سلبية على النحو التالي:-
أولا: الانعكاسات الإيجابية:-
1- عودة محورية القضية الفلسطينية:
لقد أعادت عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة، القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الإقليمية والدولية. ولعل الصدمة التي تلقتها إسرائيل والمعسكر الغربي من نتائج عملية “طوفان الأقصى” هي التي عززت حسابات الطرف الفلسطيني ومكنته من فرض قضيته بقوة حتى باتت تتصدر اهتمامات الدول المحورية في الشرق الأوسط والمجتمع الدولي.
2- تراجع مكانة إسرائيل الإقليمية:
إن الفشل العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي أمام حركة مُسلحة لا ترقى لمستوى الجيش، قد أدى لتراجع مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط وخاصة لدى دول السلام والتطبيع، بعدما ثبتت هشاشة القدرة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية، وهو ما دعا الولايات المتحدة للمسارعة في تقديم الدعم العسكري العاجل لنجدة إسرائيل.
3- فقدان ثقة الإسرائيليين في المؤسسة العسكرية:
لقد تراجعت ثقة الإسرائيليين بمؤسساتهم الأمنية والعسكرية إلى درجة غير مسبوقة، وذلك بعد أن عجزت تلك المؤسسات عن حماية المستوطنات اليهودية الجنوبية وتركت سكانها يلاقون حتفهم بين قتيل وأسير. كما لم تتمكن تلك المؤسسات أيضا من مواجهة المسلحين الفلسطينيين الذي عبروا الجدار الحاجز بكل سهولة ثم رجعوا إلى غزة وهم يحملون الأسرى على متن الدراجات البخارية والمركبات العسكرية الإسرائيلية.
4-انعدام مصداقية الردع الإسرائيلي:
كثيرا ما زعمت إسرائيل أنها تمتلك سلاح الردع الذي يُخيف أعداءها ويمنعهم من شن الهجوم عليها. لكن ذلك الزعم قد سقط تماما بعد أن تجرأت حركة حماس على شن الهجوم المفاجئ على المستوطنات الجنوبية، فيما يُعدُّ فشلًا استخباراتيًا يماثل فشل إسرائيل في حرب 1973.
5- القضاء على مستقبل نتنياهو:
يرى قطاع عريض من الشارع الإسرائيلي أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتحمل المسؤولية الكبرى عن الفشل العسكري الناجم عن عملية طوفان الأقصى، لأن حكومته المتطرفة هي التي تسببت في الانقسام الحاد داخل المجتمع الإسرائيلي. فيما اظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة أن الأجندة السياسية لحكومة نتنياهو المتطرفة مزقت المجتمع فأثر ذلك سلبًا على جاهزية الجيش الإسرائيلي لحماية الدولة. وعليه فإن بقاء نتنياهو وحكومته مرهون فقط بانتهاء الحرب الحالية ضد حماس.
ثانيا: التداعيات السلبية:
1- توحد الجبهة الداخلية الإسرائيلية:
حققت عملية “طوفان الأقصى” إنجازا عسكريا كبيرا بفضل الخسائر الضخمة التي أوقعتها حماس في صفوف الإسرائيليين، لكن ذلك الإنجاز أتي بنتيجة عكسية لأنه تسبب في توحيد الجبهة الداخلية الإسرائيلية. إذ أعلنت المعارضة الإسرائيلية التضامن مع حكومة نتنياهو ودعم الجيش وإنهاء الانقسام الداخلي، فتم تشكيل حكومة طوارئ انضم إليها حزب المعسكر الرسمي. فيما سارع جنود الاحتياط بالالتحاق بالخدمة العسكرية، بعد أن كانوا قد أعلنوا تمردهم جراء إصرار حكومة نتنياهو على تغيير قوانين المنظومة القضائية.
2- توافُد الدعم الغربي لإسرائيل:
من أخطر تداعيات هجوم حماس على الدولة العبرية وقتل وأسر المئات من مستوطنيها اليهود، هو توحد المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة لدعم إسرائيل والتنديد بالحركات المسلحة في غزة، فقد سارعت الدول الغربية بتأييد إسرائيل، فيما أعلنت واشنطن دعمها الكامل لتل أبيب وإرسال حاملتي طائرات للبحر المتوسط وإرسال الأسلحة والذخائر والقوات الأمريكية لدعم الجيش الإسرائيلي في شن هجماته على قطاع غزة بل والمساندة في اقتحام القطاع وإسقاط حكم حماس.
3- التحريض ضد فلسطينيي الـ 48:
يتعرض فلسطينيو الداخل، منذ هجوم حماس في السابع من أكتوبر، لموجة من التحريض والعداء، إذ يتهمهم الإسرائيليون بما اقترفته حماس من قتل وأسر للمستوطنين والجنود في غلاف غزة، كما يتعرض عرب الداخل أيضا لكثير من الملاحقات الأمنية لمجرد إبداء تضامنهم مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتزداد مخاوف فلسطينيي الداخل بعد التسهيلات الأمنية التي مُنحت مؤخرا للمستوطنين من أجل حمل السلاح بزعم حماية أنفسهم.
السيناريوهات المحتملة للحرب :-
1- هزيمة الفصائل المسلحة في قطاع غزة وإعادة احتلاله بما يعني تعرض الفلسطينيين لنكبة جديدة، ستُكتب معها نهاية الحركات الفلسطينية المسلحة وعلى رأسها حماس والجهاد الفلسطيني، كما سترسم إسرائيل حدودًا جديدة لإنشاء حزام أمني واسع لتشجيع المستوضين على العودة للعيش في المنطقة الجنوبية.
ولن يقتصرالأمر على إحكام سيطرة القوات الإسرائيلية على القطاع، بل إن تل أبيب ربما ستُعيد بناء المستوطنات التي تم هدمها قبل الإنسحاب الإسرائيل في عهد شارون لتفرض هيمنتها من جديد على القطاع ولا تجعله تحت هيمنة السلطة الفلسطينية.
2- صمود المقاومة، وهو أمر صعب لكن إذا تم ذلك فسيعني فشل إسرائيل في حسم الحرب. وسيشكل ذلك تحولا كبيرا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكن سيناريو الصمود في غزة قد يعقبه حصار إسرائيلي خانق على القطاع حتى لا يشعر الفلسطينيون بالنصر وحتى لا يتم إعادة إعمار غزة. وبسبب خشية إسرائيل من سيناريو صمود غزة فإنها تضع كل العراقيل لمنع فتح معبر رفح وإدخال المساعدات الإنسانية مثل الطعام والوقود والدواء.
وفي حال نجحت حماس في الصمود والتوصل إلى هدنة مع إسرائيل، سيشكل ذلك تهديدا على مستقبل السلطة الفلسطينية وإنهاءً لمسار اتفاقيات أوسلو. وهذا السيناريو سيكون له أيضا تداعيات خطيرة على إسرائيل لأنه سيُحيي روح النضال المسلح داخل الضفة الغربية ولدى الفلسطينيين داخل حدود الـ 48.
3- اتساع جبهات الحرب لتشمل جنوب لبنان والمناطق الحدودية مع سوريا وربما مشاركة الميليشيات الشيعية في العراق واليمن. وهذا السيناريو مرتبط بصمود المقاومة في قطاع غزة. فكلما صمدت المقاومة وعجزت إسرائيل عن هزيمتها كلما أدى ذلك لاشتعال القتال في جبهات أخرى ضد إسرائيل.
………
وختامًا، ربما يصعب الآن التنبؤ بكافة التداعيات والسيناريوهات المحتملة للحرب على غزة، لكن عواقبها في جميع الحالات ستكون وخيمة خاصة على الفلسطينيين نظرًا لفارق القوة العسكرية لصالح إسرائيل. لكن ما سيحد من كارثية الحرب على الفلسطينيين هو توحيد صفوفهم على اختلاف فصائلهم وأجنداتهم.
وينبغي في تلك المرحلة الفاصلة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وحدة الصف العربي لدعم القضية الفلسطينة ومساندة موقف مصر والأردن نظرا لدورهما المباشر وتحملهما تبعات وتداعيات تعرض الفلسطينيين للحروب الإسرائيلية.
كما ينبغي صياغة خطاب إعلامي عربي موحد لتفنيد الأكاذيب التي تروجها إسرائيل في الغرب لتشويه الفلسطينيين والعرب. ولقد رأينا كيف انساق الغرب وراء السردية الإسرائيلية، وبات يصدق بأن إسرائيل تقاتل من أجلهم ومن أجل حضارتهم المستنيرة ضد الفلسطينيين والعرب المتخلفين والإرهابيين. كما يجب تعزيز التعاون العربي مع الصين وروسيا، للحد من الدعم اللا محدود الذي تقدمه واشنطن لتل أبيب في حربها ضد الفلسطينيين.