في وقت تشهد فيه إسرائيل أخطر أزمة سياسية منذ قيامها، جرَّاء سعي الإئتلاف الديني المتطرف لفرض هيمنته على السلطة القضائية، تتزايد المخاوف من اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة ردًا على الممارسات الإسرائيلية العدوانية ضد الفلسطينيين والمسجد الأقصى. ولقد استشعر المجتمع الدولي خطورة تلك التطورات، فاجتمع أعضاء مجلس الأمن الدولي خمس مرات خلال شهرين فقط لمناقشة تطورات الشأن الإسرائيلي الفلسطيني، وكانت هناك اجتماعات طارئة بعد قيام الوزير المتطرف بن جفير باقتحام باحات المسجد الأقصى، وبعد الاعتداءات الإسرائيلية على معسكر اللاجئين في جنين والإرهاب الذي مارسه المتطرفون اليهود ضد الفلسطينيين في بلدة حوارة. ومؤخرا، انعقد أيضًا مؤتمر العقبة بمشاركة مندوبين من الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر والأردن والإمارات، لنزع فتيل الأزمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في أعقاب تولي الحكومة الدينية المتطرفة سدة الحكم في الدولة العبرية.
يأتي ذلك الحراك الدولي والإقليمي بعد تراجع الاهتمام بالقضية الفلسطينية خلال العقد المنصرم، ويأس العالم من جدوى المفاوضات العقيمة، وانشغاله بقضايا دولية أخرى، سواء على الصعيد الإقليمي مثل إيران وسوريا واليمن وافغانستان، أو على الصعيد الدولي مثل الصين ووباء كورونا ثم الحرب في أوكرانيا. وظلت القضية الفلسطينية في طي النسيان إلى أن تولت حكومة نتنياهو المتطرفة سدة الحُكم، فأشعلت الصراع من جديد جراء ممارساتها العدوانية ضد الفلسطينيين، سواء داخل الخط الأخضر أو في مدن الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشريف والمسجد الأقصى.
الانقسام الداخلي في حكومة نتنياهو!
يمر المشهد السياسي الداخلي في إسرائيل بتحولات خطيرة وغير مسبوقة، إذ لا تكمن الأزمة فقط بين الائتلاف الحاكم والمعارضة، بل تبدو الأزمة الأشد داخل صفوف الائتلاف ذاته، بما ينعكس على سلبًا الشأن الفلسطيني. فرغم سعي المسؤولين الأمنيين في حكومة نتنياهو لدفع المساعي الدبلوماسية وتهدئة الأجواء وتعزيز مكانة السلطة الفلسطينة في رام الله، إلَّا أن وزراء الصهيونية الدينية لا يكُفّون عن تأجيج الصراع، ودعم العنف من جانب المستوطنين اليهود ضد الشعب الفلسطيني، والدعوة لإسقاط السلطة الفلسطينية تمهيدًا لضم أراضي الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية.
وعندما توجَّه الوزير الليكودي “تساحي هنجبي” للتوقيع على وثيقة مؤتمر العقبة، قام الجناح الديني المتطرف (وعلى رأسه سموتريتش وبن جفير) برفض تفاهمات العقبة ومعارضتها على رؤوس الأشهاد. وهذا يعكس مدى الانقسام الداخلي حتى بين مكونات الائتلاف الحكومي في إسرائيل.
حكومة نتنياهو تُشعل الصراع..
هناك وزراء داخل الحكومة الإسرائيلية هم الذين يُشعلون الصراع ويهددون الاستقرار، بطرحهم أفكار متطرفة مثل ضم الأراضي الفلسطينية لتصبح تحت سيادة الاحتلال، والمُطالبة بالقضاء على السلطة الفلسطينية، وإنهاء ما يُسمى بـ “الوضع الراهن” في الحرم القدسي الشريف، وإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية، والمطالبة بإعدام الفلسطينيين الذين ينفذون عمليات انتقامية ضد الاحتلال.
كل تلك الأفكار العنصرية دفعت الفلسطينيين لخيار التصعيد، خاصةً في ظل انسداد الأفق السياسي. ومن هنا تأتي المخاوف من سيناريوهات خطيرة مع حلول شهر رمضان ومحاولات وزير الأمن القومي الإسرائيلي “بن جفير” التضييق على الفلسطينيين الوافدين للصلاة في المسجد الأقصى.
هل ستندلع انتفاضة ثالثة!
إذا نجحت مُخططات إضعاف السلطة القضائية في إسرائيل، ستصبح حكومة نتنياهو فوق القانون وستتمكن من تمرير أجندتها ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وخارجه. وستسعى الحكومة الإسرائيلية المتطرفة لشرعنة كافة البؤر الاستيطانية وإطلاق يد الميليشيات اليهودية المسلحة لمواصلة عدوانها على الفلسطينيين كما حدث في بلدة حوارة. وكانت حكومة نتنياهو قد قررت تشكيل لجنة وزارية لتهويد النقب والجليل، مما سيزيد من وتيرة التصعيد ليُنذر باندلاع انتفاضة ثالثة بما تحمل من تداعيات وخيمة على الطرفين.
ويرى بعض المحللين أن إرهاصات الانتفاضة الجديدة، قد لاحت بالفعل مؤخرًا في باحات المسجد الأقصى وأحياء القدس الشرقية (مثل مُخيم شعفاط للاجئين وحي العيساوية)، وكذلك في نابلس وجنين وحتى داخل المعتقلات الإسرائيلية، وذلك بالتزامن مع بدء استئناف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة.
ضعف السلطة الفلسطينية يُؤجج الصراع!
خلال السنوات الأخيرة تعمَّدت حكومات تل أبيب إضعاف السلطة الفلسطينية في رام الله، مما أفقدها الكثير من قدراتها، وأدى ذلك إلى وجود فراغات في الضفة الغربية فسارعت الفصائل الفلسطينية الأخرى وعلى رأسها حماس والجهاد باستغلال تلك الفراغات وبسط نفوذها.
ويأتي ضعف السلطة الفلسطينية لعدة أسباب على رأسها، تجاهل القيادة الإسرائيلية للرئيس محمود عباس، وشن عمليات اعتقال ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وفرض عقوبات اقتصادية على السلطة في رام الله، مما خلق صورة ذهنية سلبية للسلطة الفلسطينية لدى غالبية الشعب الفلسطيني.
ولعل أكثر ما يعكس ضعف السلطة الفلسطينية هو الفراغ الأمني في العديد من الأماكن بالضفة الغربية، والتي أصبحت مؤخرًا حاضنة للمسلحين تحت قيادة ميليشيات محلية، إلى جانب حركتي حماس والجهاد اللتين رأتا الوضع الجديد فرصة مواتية لبسط نفوذهما الميداني وشن عمليات ضد إسرائيل من جبهات خارج قطاع غزة. وتبدو الظاهرة أكثر وضوحًا في مُخيم جنين للاجئين الذي تحول إلى بؤرة رئيسية في الضفة الغربية لشن هجمات ضد الإسرائيليين.
…
خلاصة القول، أن استمرار ممارسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة – ولا سيما من جانب وزراء الصهيونية الدينية – ضد الفلسطينيين في القدس الشرقية مع اقتراب حلول شهر رمضان ، ستُؤدي لتصعيد الأوضاع في مُدن الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر، وإشعال موجة من الغضب لدي الفلسطينيين في قطاع غزة، مما سيدفع قادة حماس والجهاد لإطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة على المستوطنات اليهودية في جنوب إسرائيل.
ومع استمرار التصريحات العنصرية والسياسة العدائية التي تنتهجها حكومة نتنياهو الدينية المتطرفة ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وفي الضفة الغربية والقدس الشرقية بوجه خاص، ستصبح الأوضاع مُرشحة لمزيد من التصعيد. وهذا يستوجب ضرورة التدخل الإقليمي والدولي لنزع فتيل الأزمة والحيلولة دون نشوب حرب مدمرة بين الطرفين.
وهناك ثلاثة أطراف أساسية ستتدخل حتمًا لمحاولة حل تلك الأزمة وهي الولايات المتحدة الأمريكية ومصر والأردن. وستعمل تلك الأطراف لخلق تفاهمات سياسية وأمنية بين إسرائيل والفلسطينيين لإعادة الاستقرار والحفاظ على التهدئة ووقف العنف بين الجانبين.
وفي هذا الإطار سيكون الدور الأكبر في حل الأزمة على القاهرة، لأنها اللاعب المحوري في دور الوساطة بين إسرائيل والحركات الفلسطينية في قطاع غزة، باعتبارها الأجنحة المسلحة القادرة على الرد عسكريًا على الاعتداءات الإسرائيلية.