أصدر الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى الإنتقالي يوم ٢١/٦/٢٠٢١ مرسوماً دستورياً منح بمقتضاه كل من ولاية النيل الأزرق وجنوب كردفان المتاخمتين للحدود السودانية الإثيوبية جنوب البلاد التى يتزعمها ويرأس ميليشياتها المسلحة المعارض المقرب من إثيوبيا عبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية شمال ذو التوجهات الإنفصالية العلمانية حكماً ذاتياً، وذلك على خلفية إتفاق نيفاشا الموقع عام ٢٠١٥ وإتفاق جوبا للسلام الموقع عام ٢٠٢٠ الذي نص علي منح الولايتين نسبة من مداخيل ثرواتهما والمشاركة في المجالس المحلية والحكومة.
ثروات السودان المفقودة
يبلغ عدد سكان ولاية النيل الأزرق نحو مليون نسمة فقط رغم إتساع رقعتها التى تعد من أخصب الأراضى الزراعية نتيجة مرور نهر النيل الأزرق القادم من إثيوبيا جنوباً فى طريقه للخرطوم شمالاً، حيث تبلغ مساحتها المزروعة نحو أربعة ونصف مليون فدان، فضلاً عن ثروة حيوانية تقدر بحوالى ستة ملايين رأس ماشية، وضعاً فى الإعتبار تواجد أهم السدود المائية السودانية بتلك الولاية وهو ” سد الروصيرص ” الإستراتيجى الذى يمد البلاد بالمياه اللازمة للشرب والزراعة فضلاً عن أنه يعد أحد أهم مصادر الطاقة التى تتولد من خلاله.
ولا تختلف ولاية جنوب كردفان كثيراً من حيث أهميتها الإستراتيجية أو ثرواتها المائية أو الزراعية وغيرها بالنسبة للسودان، حيث يتجاوز عدد سكانها نحو مليون نسمة بقليل وتتوافر بها المياه والأراضى الزراعية الخصبة بجانب الثروة الحيوانية التى تتجاوز 17 مليون رأس ماشية..
تأمين إثيوبيا المناطق المتاخمة لسد النهضة
تجدر الإشارة إلى الولاء المباشر لكل من عبد العزيز الحلو ونائبه الفريق جوزيف توكا (نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، ونائب القائد العسكري للجيش الشعبي) لإثيوبيا، وحصولهما خلال فترات ومراحل الصراع المختلفة مع حكومات السودان المتتالية على الدعم السياسى والعسكرى الإثيوبى، وليس أدل على ذلك إلا سابق إعلان وزارة الخارجية السودانية رسمياً تلقى ميليشيات جوزيف توكا أسلحة مهربة من إثيوبيا وضبطها فى محلية الكرميك، ذلك بالإضافة إلى تخلف الزعيمين المسلحين الحلو/ توكا عن توقيع إتفاق جوبا للسلام الموقع بمشاركة غالبية الحركات السياسية والمسلحة عام 2020 والذي قاموا بالإنضمام بمقتضاه للمجلس السيادى فى خطوة نحو تفعيل عملية السلام وإنهاء الإنقسام والعمليات المسلحة التى إمتدت لعقود خلال حكم البشير، بل وإنفراد فصيل عبد العزيز الحلو بالتوقيع منفرداً مع رئيس الحكومة المدنية عبد الله حمدوك على إتفاق بمقر إقامته بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 2020 وبشروط تتطلب إجراء تعديلات دستورية حادة وتنازلات مجحفة بحق الدولة الوليدة، خاصة ما يتعلق بالإحتفاظ بقوات وقدرات وكوادر الحركة المسلحة، بجانب إشتراط نص الدستور المقبل على علمانية الدولة.
خطوة نحو تقرير المصير والإنفصال
ولا شك أن هذا التطور يكتسب خطورته من إفساحه المجال نحو سن القوانين التى تكرس من صلاحيات الحكومة المحلية التى ستتكون، لاسيما ما يتعلق منها بالتحكم فى الموارد وتشجيع النزعات العرقية التى ترفض سيطرة القبائل العربية على المواطنين الأفارقة الذى يطلق عليهم أصحاب الأرض، والتمهيد لإعلان الكونفيدرالية وما قد يستتبعها بالدعوة للإستفتاء على حق تقرير المصير، لاسيما مع قدرة الحلو وتوكا على تنظيم صفوف قواتهما العسكرية بالنظر لإحتفاظهما بها وحصولهما على الدعم الإثيوبى المباشرعلى أقل تقدير.
السيناريوهات المقبلة
من غير المستبعد أن يشجع هذا التنازل الجوهرى من قبل المجلس السيادى السودانى فى مرحلة فارقة من نظام الحكم الإنتقالى حركات سياسية وعسكرية إنفصالية أخرى على إنتهاج سياسيات متشددة وإتخاذ خطوة مماثلة، لاسيما عبد الواحد نور زعيم أبرز الحركات المتمردة والمسلحة فى دارفور الذي تسيطر قواته علي ولاية غرب دارفور جبال النوبة والمقيم فى باريس والمدعوم من قطر والسابق رفضه الإنضمام لإتفاق جوبا للسلام، بجانب بعض الولايات الأخرى مثل ولاية البحر الأحمر التى سوف يستشعر زعيمها المدعو/ مالك عقار السابق توقيعه على إتفاق جوبا للسلام وإنضمامه للمجلس الرئاسى إمكانية تعديل موقفه وإنفصاله بمنطقة نفوذه ورئاسته للكيان الجديد، وما يمكن أن يطرحه ذلك من تقسيم السودان لعدة دويلات، وتصبح السودان دولة حبيسة لا تطل على البحر الأحمر.
إتفاق الجيشين السودانى والإثيوبى على التهدئة
من ناحية أخرى، لا يمكن فصل ذلك التطور عن تزامنه مع إعلان كل من الجيش السودانى والجيش الإثيوبى عن توصلهما عقب إجتماع ممثليهما فى منطقة جندر بإثيوبيا لإتفاق حول التهدئة الأمنية بين البلدين، وضعاً فى الإعتبار تسرب بعض الضمانات الأمنية المتبادلة الهامة، مثل عدم تسليح السودان سواء للاجئين أو المتمردين الإثيوبيين المتواجدين بالمخيمات أو تدريبهم، مقابل تعهد إثيوبيا بعدم السعى لإسترداد المناطق المتنازع عليها بالفشقة السودانية.
دور القوى الإقليمية
ورغم عدم توافر معلومات عن ذلك التطور السريع الذى يطرح تداعياته السياسية والأمنية ليس على السودان فحسب ولكن على المنطقة وعلى مصر، إلا أنه تجدر الإشارة إلى تزامنه مع الآتى :
المبادرة التى طرحتها إحدى الدول الخليجية مؤخراً لتسوية كل من أزمتى سد النهضة والمشكلة الحدودية بين السودان وإثيوبيا والتى كان أحد أبرز بنودها وضعية الفشقة، وإستعادة التهدئة الحدودية بين البلدين، وبدء عملية الإستثمار الزراعى بالأراضى الخصبة بتلك المنطقة الواعدة.
حشد الجيش الإريترى (الذي يعد الحليف الإثيوبي الجديد، والذى يتم إستخدامه خلال الفترة الأخيرة بشكل لافت فى إعادة توزيع العرقيات ورسم المنطقة ديموجرافياً، وهو ما وضح سواء فى أزمة إقليم تيجراى وما تبعها من ترحيل سكان تلك العرقية، أو فى التطور الحالى بولاية النيل الأزرق وكردفان) قواته على طول الحدود السودانية منذ شهر مارس الماضى وحتى الأن بدون مبرر، وممارسته مزيداً من الضغوط على النظام السودانى الهش.
تطلع النظام الإنتقالي في السودان للحصول على الوعود الإقتصادية والمنح التى أسفر عنها المؤتمر الإقتصادى لدعم السودان الذى عقد بباريس ( بلغت نحو 30 مليون دولار) وتفعيلها للخروج من الأزمات الاقتصادية والإجتماعية المتكررة والحد من حجم الإحتجاجات والإنتقادات والإضطرابات في مختلف أنحاء البلاد.
تقييم الوضع الحالي
بتقييم الوضع الحالى ، يتضح ظهور عدد من المتغيرات الهامة أبرزها التالى:
تعرض المجلس السيادي السوداني الحاكم لضغوط هائلة من أطراف متعددة، ولجوئه لتقديم تنازلات تكتيكية لا تراعي المصالح الإستراتيجية للبلاد، وإرتباط تلك التنازلات بمحاولة إستمراره في قيادة المرحلة الحالية، الأمر الذي قد يفتح المجال لتقديمه مزيد من التنازلات مستقبلاً.
إنقسام الرأي العام الداخلي في السودان بين إعتبار المرسوم الذي أصدره المجلس السيادي غير دستوري، إستناداً إلي تعطل كل من الدستور والمحكمة الدستورية والعمل بوثيقة دستورية ليس لها صلاحيات حسم القضايا المصيرية، لاسيما مع عدم وجود برلمان منتخب أو دستور، وبين رأي مؤيد يتزعمه تجمع المهنيين.
نجاح إثيوبيا إلى حد بعيد فى تأمين المناطق الحدودية الشمالية المتاخمة لسد النهضة، خاصة من ناحية ولاية النيل الأزرق الذى يسيطر عليها أحد حلفائها، والذى يعتمد فى قوته السياسية والعسكرية فى الدعم الذى يتلقاه من أديس أبابا فى ظل غياب السلطة المركزية فى الخرطوم.
زيادة فرص سيطرة إثيوبيا على المصادر والإمدادات والسدود المائية، وتزامن ذلك التطور مع توقيت بالغ الحرج نتيجة بدء آديس أبابا الفعلي للملء الثاني لسد النهضة، بجانب توقع تحكم الأخيرة فى إمدادت الطاقة الكهربائية المتولدة عن تلك التدفقات، خاصة عقب تواجد سد الروصيرص تحت سيطرة أحد حلفائها.
طرح ذلك التطور المفاجيء مزيداً من الصعوبات السياسية والفنية غير المباشرة على المفاوض المصرى فى أزمة سد النهضة، فضلاً عن الحل العسكرى بغض النظر عن حساباته المعقدة.
عدم إستبعاد توقيع السودان منفرداً على إتفاق مرحلى جزئى حول الملء الثانى خلال الفترة القريبة القادمة، مقابل الحصول على بيانات ومعلومات حول التصريفات والضمانات والوعود الخاصة بإستكمال المفاوضات لاحقاً حول عملية التشغيل خلال فترات الجفاف والجفاف الشديد وباقى المسائل الخلافية مثل ملفات الأمان والبيئة، وما قد يطرحه ذلك من فرض أمر واقع على مصر ومزيد من الخيارات الصعبة.
محدودية قدرة تلك الولايات علي إدارة شئونها الداخلية، الأمر الذي قد يدخلها في صراعات داخلية ويفسح المجال لمزيد من التدخلات الخارجية، بجانب ما يمكن أن يطرحه الوضع الحالي من مناخ ملائم لتكريس عوامل الفرقة بين ما يسمى بالمكون الإفريقى والمكون العربى، فضلاً عما قد تفرزه ممارسات قيادتى المناطق الحاصلة على الحكم الذاتى من ذوى الإنتماءات الإفريقية من تبنى دعوات إنفصالية عن جامعة الدول العربية مستقبلاً تحت دعاوى كثيرة متداولة بالفعل قد تجد دعماً إقليمياً من أطراف عديدة معروفة.
تأثر العمق الإستراتيجى الجنوبى لمصر سياسياً وعسكرياً ومائياً وإقتصادياً، وظهور كيان جديد قد يكون مناوىء للنظام المصرى، و إضطرار القاهرة لبذل المزيد من الجهود لإحتوائه، وضعاً فى الإعتبار حتمية عضوية الكيان الجديد لتجمع دول حوض النيل حال إنفصاله وتأثر مصر بتوجهاته وسياساته المائية.